اشتملت السيرة النبوية الشريفة على مواقف عديدة أبرزت الذكاء الانفعالي أو العاطفي، انطلاقًا من المنهج الإسلامي الذي يهتم بصياغة الشخصية الإسلامية صياغة متوازنة في جوانبها؛ العقدية، والروحية، والعقلية، والاجتماعية، والنفسية.
وتهتم السيرة النبوية بالمشاعر والانفعالات الإنسانية؛ من حب، وخوف، وحسد، وتضحية، وكبر، وتواضع، فقد جمعت في ثناياها بين المعرفة المحضة، والتطبيق العملي، لبناء الشخصية الإنسانية المتكاملة المنضبطة، والسائرة قدما بخطى ثابتة نحو مرضاة الله تعالى.
مفهوم الذكاء الانفعالي
لقد ظهر مفهوم الذكاء الانفعالي أو الوجداني أو العاطفي، وزاد الاهتمام به، لفاعلية مهاراته في تحسين فهم الفرد لذاته، وتمكينه من إدراك تصرفاته والسيطرة على انفعالاته ومشاعره، وإدارتها بذكاء في المواقف الصعبة.
وتتعدد تعريفات الذكاء العاطفي، وفي مجملها تشير إلى قدرة الفرد على مراقبة المشاعر والانفعالات الذاتية ومشاعر الآخرين، وإدارة هذه المشاعر والانفعالات بما يضمن حسن التواصل الاجتماعي، والنجاح في الحياة.
مهارات الذكاء الانفعالي في السيرة النبوية
ورغم أن مفهوم الذكاء الانفعالي أو الوجداني حديث، فإن مضمونة كان في مواقف عديدة في السيرة النبوية التي دلت على مهاراته على النحو التالي:
- أولا: الوعي بالذات، ويقصد به قدرة الفرد على تفهم مشاعره، ورسم صورة واضحة لآماله وأهدافه، والسعي لتحقيقها. وتتضمن هذه المهارة معرفة جوانب القوة والضعف لدى الفرد، والتعرف إلى انفعالاته الذاتية.
فقد كان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، إذا رسم لأتباعه منهجا تشرئب له الأعناق، وتشخص في عظمته الأبصار، وتحار عند سماعه العقول، من ذلك حينما عرض عليه عمه أبو طالب الكف عن الدعوة، إرضاء وخوفا من قريش، إذ جاء في السير: “أن أبا طالب بعث إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
قال: فظن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أنه قد بدا لعمه فيه بداء؛ أنه خاذله ومُسَلِّمُه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته”.
- ثانيا: إثارة الدافعية: وتعرف الدافعية بأنها شروط تنشئ النمط السلوكي وتساعد في استمراره، إلى أن تتحقق أو تُعاق الاستجابات، ويمكن تعريفها كذلك بأنها عبارة عن الحالات الداخلية أو الخارجية للكائن الحي التي تحرك سلوكه، وتوجهه نحو تحقيق هدف أو غرض معين.
وكان المنهج النبوي الشريف يُحاول غرس الدافعية في نفوس الأفراد تارة، وتنميتها وتحفيزها بما يضمن ديمومتها واستمراريتها تارة أخرى، من ذلك لمّا جاء خباب بن الأرت- رضي الله تعالى عنه-، يشتكي إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، سوء الحال وضعف اليد في رد الظلم، ودفع أذى قريش عن المسلمين في أثناء الدعوة المكية.
فقال: “شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” (البخاري).
- ثالثا: ضبط الانفعالات، وهي عملية تشير إلى حالة ترشيد سلوك الفرد للتوافق السليم مع الموقف، وإدارة الانفعال بعيدا عن إيذاء الذات أو إيذاء الآخرين، ومحاولة مقاومة الأفكار السلبية التي تقفز إلى الواجهة مُؤدية إلى تأجيج الموقف.
وقد بيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- العوامل الرئيسة التي تساعد في السيطرة على الانفعالات السلبية، من ذلك قوله: “من كظم غيظا- وهو قادر على أن ينفذه- دعاه الله- عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره الله من الحور ما شاء” (أبو داود والترمذي وأحمد).
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يُهذّب سلوكيات أصحابه ويدربهم على ضبط انفعالاتهم، فقد روى أبو هريرة- رضي الله عنه-: “بينما رسول- الله صلى الله عليه وسلم- جالس ومعه أصحابه، وقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين انتصر أبو بكر. فقال أبو بكر: أوجدت- غضبت- عليّ يا رسول الله؟! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت، وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان” (أبو داود)
- رابعا: إدارة التفاوض: وهو نوع من الحوار وتبادل الاقتراحات بين الأطراف المختلفة بهدف التوصل إلى اتفاق يُؤدي إلى حسم قضية خلافية، مع الحفاظ في ذات الوقت على المصالح والاهتمامات المشتركة.
وهذا ما أكده رسول- الله صلى االله عليه وسلم- في بداية صلح الحديبية، لما أخبر كل مندوبي قريش المفاوضين، أن المسلمين لم يأتوا لقتال، وإنما لتعظيم بيت الله الحرام، وأداء الشعائر الدينية.
وقد كانت شخصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أعلى قمم هذه المهارة، وتمثل ذلك جليًّا في صلح الحديبية، لما جاء سهيل بن عمرو مفاوضا عن قريش، فقال: “هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم- الكاتب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله.
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها. فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل” (البخاري).
- خامسا: التعاطف مع الآخرين، وتعني قدرة الفرد على قراءة انفعالات ومشاعر الآخرين، من خلال أصواتهم، وتعبيرات وجوههم، فالتعبيرات غير اللفظية قد تكون أحيانا أكثر دلالة وعمقا من التعبيرات اللفظية.
وهكذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم، مع أهل بيته، فهو الذي قال: “خيركم خيركم لأهله، وأنا من خيركم لأهلي” (الترمذي).
وأما التعاطف في خارج نطاق الأسرة، فلقد زخرت السيرة النبوية به، إذ امتلك النبي- صلى الله عليه وسلم- إحساسا مرهفا في تعامله مع الآخرين، سيما الأطفال من الصحابة- رضي الله تعالى عنهم-، ففي حديث أنس- رضي الله عنه-، إذ قال: “كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خُلُقا، وكان لي أخٌ يقال له أبو عمير- وهو فَطيم- وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟!”. (البخاري) والنغير؛ هو طير كان يلعب به.
- سادسا: المهارات الاجتماعية، ويقصد بها إرسال رسائل تعمق روح المحبة والتعارف بين أفراد المجتمع، وتُمهّد هذه المهارة لصاحبها الطريق لإدارة واعدة واعية، وشعبية مترامية الأطراف.
لذا فقد اعتبرها- النبي صلى الله عليه وسلم- أحد مصادر الأجر والثواب، فقال: “لا تَحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تَلقى أخاك بوجه طلق” (مسلم)، فالابتسامة رسالة صامتة مفادها التقبل والمودة.
أهمية الذكاء العاطفي
يساعد الذكاء الانفعالي أو العاطفي على تجاوز التعقيدات الاجتماعية وقيادة الآخرين وتحفيزهم، والتفوق في الحياة المهنية، نظرًا للتأثيرات الكبيرة له على حياة الفرد والمجتمع، ومن تلك التأثيرات:
- الصحة الجسدية: فهو يُمَكِّن الإنسان من إدارة التوتر والضغوطات، التي لو تركها دون السيطرة عليها قد تُؤدي إلى مشكلات صحية خطيرة، مثل: زيادة ضغط الدم، وتثبيط جهاز المناعة، والنوبات القلبية.
- الصحة العقلية: فالأشخاص الذين يتمتعون بالذكاء العاطفي، فهم يتمتعون- أيضًا- بصحة عقلية متوازنة، بينما يؤدي التوتر والاضطراب في العواطف إلى مزيد من القلق والاكتئاب، وعدم الشعور بالراحة أو التحكم في النفس، وبالتالي مشكلات عقلية مقعدة.
- بناء العلاقات: فالإنسان من خلال فهم مشاعره والتحكم فيها، يكون قادرًا بشكل أفضل على التعبير عن شعوره وفهم ما يشعر به الآخرون، وهو ما يتيح له التواصل بشكل أكثر فعالية وإقامة علاقات أقوى، سواء في العمل أو في حياته الشخصية.
- تطوير الذكاء الاجتماعي: من المؤكد أن الانسجام مع المشاعر يخدم غرضًا اجتماعيًّا، ويربط الإنسان بالآخرين والعالم من حوله، وبالتالي التعرف إلى الأشخاص بوضوح، وتقليل التوتر، وموازنة النظام العصبي عبر التواصل الاجتماعي، والشعور بالحب والسعادة.
إن الذكاء الانفعالي أو الوجداني أو العاطفي، يُمكن استنباطه وتعلّمه من السيرة النبوية الشريفة، في إطار التفتيش عن الذات، للعثور على الهوية الضائعة في عصر العولمة والحداثة وما بعدها، كما يُعد ذلك محاولة لاكتشاف نقاط التألق الحضاري، من أجل إعادة بناء الحياة الإنسانية بنموذجها السّامي، المنبثق عن التصور السليم لعلاقة الفرد بخالقه- سبحانه وتعالى- وبنفسه، والكون، والحياة.
ولا يُنكر أحد أن المنهج النبوي الشريف كان مصنعًا حقيقيًّا لإنتاج شخصيات فذّة، بل وصناعة دول تقدر قيمة الإنسان، ذلك الإنسان الذي يعي ذاته، ويقف على أرضية إيجابية سليمة في تعامله مع الآخرين، انتصر على نفسه، وضبط انفعالاته، فحسن حاله ومقاله، فكان بلسما لألم جراحات المصابين، وصدرا واسعا لهموم المكروبين، وبسمة عريضة صادقة للمحرومين، وعطاء متجددا للمحتاجين، وهو في كل ذلك يتحمل ويبذل ابتغاء لرضوان االله تعالى.
المصادر والمراجع:
- الدكتور جمال خليل الخالدي: دراسة بعنوان (الذكاء الانفعالي والترقِّي بالعلاقات الاجتماعية: دروس تربوية من السيرة النبوية الشريفة).
- ابن هشام: السيرة النبوية: 1/ 168.
- صفات الذكاء العاطفي وطرق تحقيقها.
- مفهوم الذّكاء الانفِعَالِي.
- الذكاء الانفعالي: موضوع شامل مع 3 نصائح جوهرية.