يُسيء كثيرٌ من الآباء فَهم الخيال عند الأطفال في مراحل حياتهم المختلفة، ذلك لأنهم نسوا طفولتهم كما نسوا أنهم كانوا يعيشون فترات خيالٍ في حركاتهم وسكناتهم، ومنهم من تأثر بها لفترات طويلة من عمره.
ونحن نرى أطفالنا يمسكون بالعصا وكأنها سيف المعز، أو يلبسون ملابس الأبطال وكأنهم هُم، أو ملابس الأطباء وكأنهم يجولون داخل مستشفى. فالخيال له دور كبير في حياة الطفل، كما له دور في تكوين تصوره عن نفسه.
لذا، على المربّين وأولياء الأمور الاهتمام بخيالات الصغار ولا يُعنّفونهم على عالمهم الخيالي ولا يسخرون منهم إذا عاشوا في هذا العالم جزءًا من الوقت، بل يجب أن ينمّوه، لأنه مصدر إلهام في كثير من الاختراعات.
أهمية الخيال عند الأطفال
إن الخيال عند الأطفال يُشبه إلى حدٍّ بعيد القلم والورقة بالنسبة للكاتب المُبدع، أو الريشة والألوان بالنسبة للرسام الموهوب. فمخيلة الطفل هي الأداة التي تتيح له تجاوز ظروف الواقع وحدود الزمان والمكان، وتطلق العنان للتعبير عن حاجاته ورغباته وتصور تحقيقها وحدوثها.
فالتخيل يجعل الطفل أكثر حيوية ونشاطًا، بل يدفعه للتفوّق دراسيًّا، ويجعله يجد حلولًا للمشكلات التي قد تواجهه، ويجعله – أيضا- أكثر قُدرة على التعبير عن مشاعره وأفكاره بطريقة واضحة.
وكل ما يقدمه الوالدان لطفلهم في سنواته الأولى من عمره من قراءة أو غناء أو قصص ما قبل النوم يُساعده على تطوير قدراته المعرفية، وبخاصة مَلَكَة التّخيل.
وقد يقتل هذه الملكة تركه أمام التلفاز أو الكمبيوتر أو غيرهما من ألعاب البلاي ستيشن، وقتًا طويل ما يمنعهم من استخدام مخيلتهم الخاصة.
أيضا لأهمية التخيل عند الطفل يجب على الوالدين توفير سبل تنمية هذه المَلَكَة، فاللعب والرسم والحكايات وغيرها ليست بوقت ضائع في حياة طفلك، فجميعها تغرس بذرة الإبداع والتخيل لديه (1).
ماذا يتخيل طفلك؟
ولا شك أنّ الخيال عند الأطفال بلا حدود وكثير من الأفكار والأمنيات والرغبات التي لا يستطيع الطفل تحقيقها في واقعه يلجأ إلى خياله ليحققه (وإن كان هذا الأمر يستمر مع الكبار – أيضا- فالمظلوم مثلا يحلم بطرق الانتقام من ظالمه أو ردعه وغيره)، ولقد اتفق بعض التربويين والنفسيين على أمور عامة يتخيلها الطفل، منها:
- الأحلام والأمنيات والطموحات التي قد يصعب على الطفل تحقيقها بشكل فوري أو يحتاج إلى بعض الوقت ما يضطره إلى اللجوء للتخيل لتحقيق ما يحلم به أو يتمناه.
- حاجته ومتطلباته: فالأطفال يحتاجون إلى أشياء ومتطلبات قد يعجز الوالدان عن تلبيتها بشكل سريع، أو لإدراكهما وقوع ضرر عليهم منه (كاقتناء هاتف جوال مثلا في سن مبكر للعب عليه) ما يدفعه لخياله ليحلم بكل ما يريده ويجعله يفعل أشياء يحبها ويتمناها.
- الخوف: فالخوف من أي شيء سواء كانت كوابيس أو عقابًا يدفعه إلى تخيل هذا الشبح مثلا، أو كيف سيكون العقاب، بل يجعله يرسم كيف سيتحمّل العقاب أو يواجهه، أو يتغلب على مخاوفه.
- القصص الخيالية التي يسمع عنها سواء من أُمّه أو التي شاهدها في التلفاز، فيدفعه ذلك إلى تخيل هذه الشخصيات وأنّه يُحاربها أو يُصاحبها.
- تقمص الأدوار الاجتماعية كأن يتخيّل الطفل أنه أصبح والدًا وكيف سيعامل أولاده، كما تتخيل البنت عروستها صاحبة لها فتحدثها وتحكي لها وتعتني بشؤونها كأنها شخص حقيقي (2).
التّخيل والكذب
الكذب صفة ذميمة ذمها الإسلام في قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا” (البخاري).
لكنّ الخيال عند الأطفال قد يدفعهم إلى الكذب وهو ما يجب على الوالدين العناية بهذا الشأن وتنبيهه إلى خطر ذلك بالحسنى وقصص الصادقين وأهمية الصّدق.
فالكذب هنا نتيجة عدم قدرة الطفل على التمييز بين ما هو واقعي وخيالي، وهو أمر يشعره بالمتعة فهو يروي لأمه أو أباه ما يدور بمخيلته والأحداث التي اختلقها بصورة تبدو حقيقية، الأمر الذي يمكن للوالدين تمييزه.
لذا، إذا شعرا بأنه يردد كلاما غير حقيقي يعتمد على الخيال، عليهما تجاهل الأمر، أمّا إذا استشعرا بشكٍّ في أنّ كلامه قد يكون حقيقيًّا، فعليهما التأكد، فربّما جاء يشكو من شيء يؤذيه ويكون صحيحًا، لذا فإن الأمر يعتمد في التمييز بين الكذب والخيال على شعور الوالدين الشخصي (3).
الإسلام ومعالجة الخيال عند الأطفال
لم يقف الإسلام عَقَبة أمام الخيال عند الأطفال ولم يضع تشريعًا يحجر على الصغار في ذلك، بل لنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم- القدوة، فقد ترك لأطفال المسلمين التخيل الذي أخرج فرسانًا وأجيالا حَمَلَت الرسالة الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها.
فيروي أنس بن مالك قوله: “كانَ النَّبيُّ – صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكانَ لي أخٌ يُقَالُ له: أبو عُمَيْرٍ -قالَ: أحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وكانَ إذَا جَاءَ قالَ: يا أبَا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ نُغَرٌ كانَ يَلْعَبُ به] (البخاري) وهو سؤال فيه مودة ودعابة واهتمام ومشاركة للصغير فيما يحب.
وهذا عبد الله بن عمر وزيد بن حارثة وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم، كانوا يحلمون مُنذ صغرهم أن يكونوا أبطالا يرفعون راية الإسلام خفّاقة فبلغوا بأحلامهم ما تمنوا.
وهذه “هُما خاتون” أم محمد الفاتح عَلِمَت أنّ الرسول – صلي الله عليه وسلم- بشّر المسلمين بفتح القسطنطينية، وتمنّت أن تتقرب إلى الله بتربية ابنها محمد وتتعهده بالرعاية وتغرس فيه ما يُؤهّله ليكون فاتح المدينة. فكانت تخرج صباح كل يوم إلى حدود قريتها وفي يدها ابنها الصغير محمد وتقول له: يا محمد هذه القسطنطينية وقد بشّر النبي – صلى الله عليه وسلم- بفتحها على أيدي المسلمين، أسأل الله القدير أن يكون هذا الفتح على يديك.
ويرد الطفل الصغيره كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟ حديث كان بمثابة الخيال بالنسبة لهذا الطفل الصغير، فكيف له أن يُؤدي هذه المهمة التي تحتاج إلى رجال أشدّاء وجيوش جرارة وعزيمة من نوع خاص، ويكبر “محمد” وتكبر معه أمنية أمه ويحققها ويفتح القسطنطينية عام 1453م (4).
وهذا الإمام الشهيد حسن البنا يرسم في مخيلته منذ صغره حلم سطّره في كرّاسة التعبير بقوله: “أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام. قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة” ليكبر حسن البنا ويُحقق ما سطّره صغيرًا بأن أصبح مجددًا لهذه الأمة في القرن العشرين ومرشدًا ومربيًا وحاملا لمفهوم الإسلام الشامل في هذا العصر (5).
فوائد وسلبيات التخيل لدى الصغار
كما أنّ الخيال عند الأطفال له فوائده، فإنه – أيضا- له سلبيات يجب أن يُراقبها الوالدان، ومن هذه الفوائد:
- تنمية القدرات والمواهب، حيث تحتاج إلى سعة الخيال وتجاوز المصاعب، والتحلق بالطفل في ملكوت الإبداع والأفكار الجديدة في المجال الذي يملك موهبة فيه، وبالتالي سيطور هذه الموهبة.
- توسيع المعرفة، بحيث يدفعه لكثرة التجربة التي قد تُصادف تحقيق أمر مهم في حياته.
- النبوغ في التعليم، فالخيال هو أحد أهم تقنيات وأدوات التعلم، فالكثير من الأدوار التي يصعب شرحها للطفل بالوسائل العادية يعد الخيال طريقة جيّدة لتبسيطها وتقريبها من قدرات الطفل الإدراكية.
إلا أن الخيال قد يأتي بنتيجة عكسية عند الطفل وسلبيات، منها:
- البعد بالخيال عن الواقع وحياة الطفل الطبيعية والفعلية والتوسع فيه ما يُشكل له هروبًا دائمًا من الواقع ومواجهة المشكلات والتغلب عليها.
- إذا زاد الخيال ربّما يسيطر على الطفل فيدفعه لإهمال دراسته لحساب حياته الخيالية التي يعيش لذتها في خياله ولا يريد تركها لمواجهة صعاب المذاكرة والذهاب للمدرسة.
- الانعزال والابتعاد عن المحيط: فالخيال دائمًا أجمل وأسهل من الواقع وظروفه، وبعض الأطفال قد ينعزلون عن محيطهم ويستعيضون عنه بالأشياء التي يتخيلونها (6).
طرق تعزيز التخيل عند الصغار
كل طفل يُولد ولديه القدرة على التخيل، كما أنّ البيئة الموجودة حوله تُساعده على تنمية خياله أو القضاء عليه، وهو ما يجعل للوالدين دورًا كبير في تنمية مهارات الإبداع وتحفيز الخيال عند الأطفال في سنواتهم الأولى، وذلك عن طريق:
- اللعب التخيلي: بالرسم والتلوين أو اللعب بالصلصال، وغير ذلك مما يحفز عقل الطفل على الحركة والتفكير.
- القراءة في السنوات المختلفة، لأنها تساعد على التخيل والإبداع، وبخاصة الكتب المصورة والملونة.
- تخصيص وقت للعب مع الطفل كونها تَعود عليه بشكل إيجابي، خصوصًا في مهاراته الذهنية.
- العناية بألعاب العقل التي تُعلّمه التركيز والاستنباط والاستدلال والحذر والمباغتة وإيجاد البدائل لحالات افتراضية متعددة وكل ذلك يُنمّي الذكاء والتخيل عند الصغير.
- تنشيط الأنشطة اللفظية عند الطفل، مع تشجيع الأنشطة الفنية وطرح أسئلة مفتوحة ومثيرة للتفكير الإبداعي.
- الحد من وقت الشاشة بجميع أنواعها، سواء التلفزيون أو اللوح الذكي أو الكمبيوتر، وعلى الرغم من صعوبته هذه الأيام لكن يجب إيجاد وسائل تشغل الطفل عنها أو تقليل أوقاتها (7).
ويجب أن يهتم الآباء والمربون ببناء الخيال الهادف لدى الصغار، وذلك عن طريق التركيز على أساسين مهمين، هما كما تقول شيماء نعمان:
أولًا: خيال قوة العقيدة الإيمانية، والاعتماد على القدرات الحقيقية والمنطقية لتحقيق الأهداف؛ أي الاعتماد على الأمل وليس الأماني.
ثانيًا: الاهتمام بتسليط الضوء على القصص الواقعي الذي ورد بالقرآن الكريم، والاهتمام بتجسيد بطولات الصحابة والفاتحين والعلماء والنماذج الناجحة.
ولا بُد من الاهتمام بالقصص قبل النوم، لأهمية ذلك في تخزين المعلومات والقصص في العقل الباطن للطفل، خصوصًا أن القصص السعيدة ذات الأهداف الحقيقية تبني خيالاً خصبًا وتشكل روحًا من الإرادة تتنامى بمرور الوقت.
ومن الضروري، شراء قصص إسلامية وحقيقية (خاصة المصورة) وقراءتها مع الطفل قبل نومه لكونها تحفز عقله على إطلاق التساؤلات ليزداد إدراكه ووعيه ومهاراته (8).
المصادر:
- أهمية الخيال عند الأطفال: 12 يناير 2020،
- الخيال والتخيل عند الأطفال مساحة حرة وإبداع بلا حدود: 30 يناير 2019،
- كيف تشجعين ملكة التخيل لدى طفلك؟: 27 مارس 2019،
- رندة عطية: السلطانة “هما خاتون”.. الجامع والجامعة لفاتح القسطنطينية، 17 مايو 2021،
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002م.
- الخيال والتخيل عند الأطفال مساحة حرة وإبداع بلا حدود: مرجع سابق.
- ابتسام مهران: تنمية الخيال عند الأطفال، 22 يونيو 2020،
- شيماء نعمان: فن بناء خيال الطفل، 1 جمادى الأول 1432هـ،