المؤلف: صلاح عبد الفتاح الخالدي
أسئلةٌ كثيرةٌ تدور في رأس الشباب المسلم الذي يريد أن يرتقي بنفسه في الدنيا والآخرة، ولعل من أبرز هذه الأسئلة: “ماذا نفعل؟ وماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وكيف نستكمل نقصًا؟ وما الصفات التي يجب أن نتصف بها؟ وما الخطوط الأساسية التي يجب أن نُعمقها في حياتنا؟ وكيف نُبرمج ساعات أيّامنا؟ متى ننام؟ وكم ساعة ننام؟ ما أنسب الأوقات للقراءة والتحصيل العلمي؟ ماذا نفعل حتى نقي أنفسنا الأمراض؟ وكيف نبقى متمتعين بالسعادة والبهجة والإشراق؟).
هذه الأسئلة المهمة وغيرها يجيب عنها الدكتور صلاح الخالدي- رحمه الله- في كتابه (الخطة البراقة لذي النفس التواقة)، الذي يعرض فيه سورة العصر، وكيفية التواصي بالحق، وحكمة التواصي بالصبر، والدين النصيحة ومبدأ التناصح، ونماذج من اهتمام العلماء بالوقت والعلم، وصحة المنطلق، وأخلاق أساسية لصاحب العلم والتخطيط والبرمجة وترتيب الأولويات.
لقد أوجب الله- عز وجل- على المسلمين التناصح فيما بينهم، فأقسم بالزمان في بداية سورة العصر، والعصر في اللغةً يعني ضغط الشيء حتى يتحلّب، وهو ما يشير إلى أهمية الوقت في حياة الإنسان المسلم، حيث يجب عليه عصر عُمره عصرًا وضَغطه بقوة ليُحسن الاستفادة منه ويستخرج منافعه وفوائده.
والله- سبحانه وتعالى- أقسم بالعصر على أنّ الإنسان في خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، كل الناس يخسرون، إلا المؤمنون الصالحون.
ومما يدل على الفطنة لأهمية الوقت، أنّ رجلا جاء إلى عامر بن عامر بن عبد القيس- وهو أحد العابدين التابعين الزهاد- وقال له: كلمني. فقال له: أمسك الشمس!، ومعنى كلام ابن عبد القيس: أن الشمس دائمة الجري، لا تتوقف، وهذا يعني أن العمر لا يتوقف، فكيف تريدني أن أقف وأكلمك؟!
ومن أهم صفات المؤمن الرابح، الإيمان الذي هو الأساس المحرك الدافع الباعث على عَصْر العُمر وبرمجة الوقت وهو زاد المؤمن وشرط قبول الأعمال الصالحة عند الله- سبحانه وتعالى- فإذا لم تصدر هذه الأعمال عن الإيمان ولم تنتج عنه، كانت مردودة على صاحبها.
وأمّا الأعمال الصالحة، فهي ثمرة للإيمان، وهي عامة كثيرة، تشمل جميع مجالات الحياة الصالحة، وجميع صور وألوان المنافع والطيبات، وتستوعب كل سنوات عمر المؤمن، وهي نتاج عصر المؤمن لعمره، وضغطه على سنواته وأيامه وساعاته. وهذه الصالحات أشبه ما تكون بالماء الثجاج المصبوب النافع.
والتواصي بالحق يأتي بعد أن يعرف الحق ويستوعبه، ثم يأتي التواصي بالحق، وهي عملية مشتركة من طرفين، لأن الألف في تواصوا للمُفاعلة، والأصل أن يعرف كل مؤمن الحق ويعلمه وأن يلتزم به ويعمل الصالحات، وإذا لقي أخاه يتواصيان به.
ومن صفات المؤمن، التواصي بالصبر وهي خطوة مبنية على ما قبلها وهي تعاهدٌ بين المؤمنين بالالتزام بالحق والثبات عليه، ويؤكد النبي- صلى الله عليه وسلم- مبدأ التناصح بين المسلمين، فعن تميم الداري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “الدين النصيحة -ثلاثا- قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” (مسلم).
ومعنى النصيحة لله سبحانه، صحة الاعتقاد في وحدانيّته، وإخلاص النية في عبادته، ولكتابه: أي الإيمان به والعمل بما فيه، ولرسوله: التصديق بنبوته، وبذل الطاعة له، فيما أمر به ونهى عنه. ولعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم ومعاونتهم على الحق وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف.
نقطة الانطلاق لتحصيل العلم
وتأتي نقطة البدء والانطلاق لتحصيل العلم النافع والتعلم والفقه والتفقه، باستحضار النية وتحقيق الإخلاص والتوجه بالأعمال كلها إلى الله- سبحانه وتعالى- وطلب الأجر منه وحده وعدم الالتفات إلى الناس وعدم قصدهم بالأعمال وترك ريائهم، لأن هذا شرك بالله، محبط للأعمال، ذاهب بأجرها.
إنّ مَن صحّت بدايته استقامت طريقته وصحت نهايته، ومَن فسدت بدايته اعوجت طريقته وساءت نهايته، وعلى الراغب في تحصيل العلم والانتفاع به ونفع الآخرين أن يحقق النية عند بدايته لطلب العلم وأن يبقى مستحضرًا لها كل يوم حتى يلقَ الله، وأن ينوي التقرب إلى الله بعلمه كلما أقبل على العلم؛ قراءةً أو كتابةً أو تعليمًا.
يقول أبو الدرداء: علامة الجهل ثلاث: الإعجاب بالنفس، وكثرة الكلام فيما لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه. وقال الفضيل: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير.
فعلى الراغب في تحصيل العلم أن يعز عليه ما يبذله في سبيل تحصيله، فكيف يهون عليه جهده فيضيعه لأتفه الأشياء وليستَحضر الأحاديث الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد التي تقرر فضل العلم وطالبه ومنزلته عند الله.
أخلاق أساسية لصاحب العلم
ولا يعيش صاحب العلم ازدواجية مَرَضيّة، فلا يوجد عنده مفارقة بين ما يقرؤه في الكتب العلمية وبين ما يعيشه في واقعه، ولا يعاني من “انفصام” بين الأفكار والمُثُل النظرية، وبين التطبيق السلوكي الخارجي، لأن الازدواجية بين الفكر والسلوك من أشد وأخطر أمراض المسلمين اليوم، ومن أهم الأخلاق الأساسية الضرورية لصاحب العلم:
- الإخلاص: فلا بد لصاحب العلم أن يكون أولا خالصٌ لله في شخصيته وكيانه وحيَاته ودينه، ومُخلِصٌ لله في كل ذلك أيضًا، وهو بعد ذلك مُخلَصٌ أي يستخلصه الله ويجعله خلاصة عباده.
- الصدق: وعلى صاحب العلم أن يكون صادقًا في كلامه وحديثه، وفي التزامه وتعلّمه وتعليمه، وفي نشاطه وعونه وإيمانه وعبادته، وصادقًا في أخوتّه ومحبته.
- الجدية: أن يكون جادًّا في حياته وفي سلوكه وفي قضاء أوقاته، وهذه الجدية تنعكس على جميع جوانب حياته، فالإسلام يريده كذلك لا أن يكون لاهيًا عابثًا لاعبًا ضائعًا مع الضائعين، يضيع عمره في الأوهام والتفاهات، يمضي ساعاته في الغفلة والخداع واللغو والعبث.
- وجديته هذه منبثقة من حُسن فهمه لإسلامه وحُسن نظرته لعمرِه وحياته وحُسن إدراكه لوظِيفته ورسالته، وحُسن شعوره بأهمية استغلال وقته وعَصر عمره، وحُسن برمجته لأوقاته فهو يعلم أنّ الواجبات أكثر من الأوقات فتراه لا يُشارك في الصخب العام ولا في الحفلات الاجتماعية الكثيرة ولا تراه دائم الخروج والزيارات، و لا يليق به أن يجلس الساعات الطُوال أمام التلفاز وهذا لا يعني العزلة التامة، فصاحب العلم لديه موازنة دقيقة حكيمة بين واجباته الاجتماعية والدعوية.
- التكامل المتوازن: وهي من أهم صفات النبي- صلى الله عليه وسلم-، لذا يجب أن يتحلى بها طالب العالم، فيكون شخصية متكاملة في الأخلاق الإسلامية، متوازن في الصفات الأساسية، بمعنى أنه لا يطغى صفة على غيرها، ولا يبالغ في جانب ضروري على حساب جوانب أخرى ضرورية. وهذا التوازن أخذه الإسلام العظيم نفسه، فنعلم أن إسلامنا نظام عام شامل، متكامل متوازن، ينسق بين جميع الخيوط والخطوط، ويجمع بين الحقائق والتوجيهات المتقابلة.
- السلوك الاجتماعي المتفوق: إنّ صاحب العلم ناجح في وسطه الاجتماعي وتعامله مع الآخرين، وعليه أن يتخلص من الأمراض الباطنة (الكبر، والكذب، والغيبة، والنميمة) والأمراض الاجتماعية (الظلم، والسخرية)، ولا بد من أن يكون هينا لينا صاحب سماحة ورأفة، واسع الصدر، طيب النّفْس، حَسن الخُلُق، يتحمّل الأذى، ويستوعب الخطأ، ويعفو عن المخطئ، ويثني على الإيجابيات.
خطوط أساسية في الشخصية العلمية
وشخصية صاحب العلم لها خطوط أساسية، هي:
- الربانية: نسبة إلى الرب جل جلاله، نسبة تكريم وتشريف، وللربّانية بعدها التربوي، بحيث يتربى صاحب العلم على الكتاب والسنة وتظهر عليه آثار التربية النافعة المؤثرة المشرقة وتتعمق فيه الربانية وتوجه حركته ونشاطه.
- وصاحب العلم رباني يعتز بانتسابه إلى الرّب المُربّي سبحانه، ولكي تتحقق الربانية في الشخصية الإسلامية لنقرأ قوله تعالى (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]، وصاحب العلم رباني في هدفه، رباني في وسيلته، رباني في قلبه وعقله وعلمه، رباني في ساعات يومه، رباني في تعامله مع الآخرين.
- ويتمتع بقلب سليم حي منيب متصل بالله، قلب مشرق بنور الإيمان وحلاوة اليقين وأنس الطمأنينة، يملك كيانًا راغبًا في الطاعة بعيدًا عن المعصية. فإن العلم النافع الذي ندعو إليه يحتاج إلى قلب حي ليحمله وإلى روح مشرقة لتنطلق به.
- السلفية: نسبة إلى سلف هذه الأمة، وهم القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية، والمقصود بهذا الخط اتباع هؤلاء السلف وفَهم الإسلام حَسب المنهج الذي عملوا عليه وعدم مخالفة الأصول المنهجية العلمية لهم ما دامت مستمدة من الكتاب والسنة.
- ومن هذه الأصول الإقبال على القرآن الكريم، واستيعاب السيرة، وفَهم السُّنة الصحيحة، والوقوف بالتأمل والالتزام على حياة الصحابة الكرام، ورفض ما يتعارض مع القرآن والسُّنة فهما الميزان والحكم، وجمع الأمة على ذلك. وليس المقصود بـ”السلفية” مجموعة من المسائل الفرعية في العلوم الإسلامية بل هي ذلك التيار الواسع.
- الحركية: وهي منسوبة إلى الحركة والدعوة والنشاط ويكون ذلك ببذل الجهد لخدمة هذا الدين والدعوة إليه ونشر علومه والاهتمام بالمسلمين والعمل على تربيتهم والنهوض بمستواهم ويكون ذلك بعد الاهتمام بالنفس ورفع مستواها.
وباختصار، فالحركية هي إيجاد المجتمع الإسلامي القويم، ويجب ألا تحصر الحركية في تنظيم أو حزب أو جماعة أو حركة، فالحركيّة تشمل كل داعية مصلح حمل همّ المسلمين ويقوم بواجب الدعوة إلى الله ولو لم ينضم إلى جماعة معينة.
النفس التواقة ذات الآمال البراقة
لقد خلق الله الإنسان صاحب همة عالية وإرادة قوية وآمال وتطلعات متجددة ونفس تواقة، والإسلام بتوجيهاته يقوي هذه الخاصية في المسلم الذي غايته هي نيل رضوان الله ووسيلته محددة لتحقيق ذلك الهدف ألا وهي العبادة الحقة لله سبحانه وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات 56].
والعبادة تشمل حياة المؤمن كلها، فبوِسع صاحب العلم أن يكون عابدًا لله طوال اليوم، لأنه يتوجه بكل أعماله وأقواله إلى الله، وما أجمل حياة صاحب العلم عندما يجعلها كلها عبادة لله بمفهومها الشامل، كما أن نظر صاحب العلم إلى حياته بمنظار العبادة يزيل من حياته القلق والضيق والضياع والتوتر والكسل والملل.
وكان عمر بن عبد العزيز صاحب النفس التواقة وإمام الزاهدين يقول: إن لي نفسًا توّاقة كلما حققت شيئا تاقت إلى ما بعده، تاقت نفسي إلى ابنة عمي فاطمة فتزوجتها ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، ثم تاقت إلى الخلافة فخَلفتها، والآن تاقت نفسي إلى الجنة وأرجوا أن أكون من أهلها.
التخطيط والبرمجة وترتيب الأولويات
لا يجوز لصاحب العلم أن يعيش هكذا، في غفلة، كما يعيش باقي الناس العاديين، الذين يعيشون أيامهم وشهورهم كما تيسّر، فتمر بهم السنة تلو السنة وهم في غفلة وبلاهة، أسَرهم العرف واستعبَدتهم العادة، وخضَعوا للمألوف وتحكمت فيهم الرتابة، أما صاحب العلم الذي عرف هدفه ووسيلته وملك نفسا تواقة وروحا مستبصرة، لا يرضى أن يعيش حياته كباقي الغافلين فهو يعرف قيمة وقته، ولهذا تجده مهتما به حريصا على الاستفادة منه، وهو يخطط ويبرمج وقته من خلال الآتي:
جلسات المصارحة والمحاسبة: فيجلس صاحب العلم مع نفسه جلسة خلوية صافية هادئة في لحظة من لحظات الإشراق النوراني والصدق القلبي والصفاء الروحي، في وقت من أوقات الهدوء والسكينة، والأولى أن تكون هذه الجلسة وقت السحر مسبوقة بصلاة التهجد مع تضرع وإقبال على الله ثم يخلي نفسه من الشواغل والهموم الدنيوية ويقبل على نفسه يستعرض شريط حياته ليعرف أين أصاب وأين أخطأ فيحاسب نفسه محاسبة دقيقةً ويتعرف إلى أمراضها وعلى حاجاتها وعلى أشواقها وتطلعاتها ويتعرف إلى السبيل لذلك، ويسأل نفسه: من أنا؟ وما هدفي؟ وما الطريق لذلك؟ وما هويتي؟
وحتى يتمكن صاحب العلم من الإجابات الصحيحة على تلك الأسئلة عليه تسجيل هدفه الأسمى (رضوان الله) ووسيلته (العبادة بمفهومها العام) ويتذكر الواجبات والأوامر والمحرمات والمنهيات وأن يقف على مدى حاجته إلى العلم وما ينقصه من الأصول ونوع العلم الذي تميل نفسه إليه ويستحضر أهمية الوقت وقِصرَ العمر، ويهتم بالتخطيط الجيد والبرمجة الدقيقة.
وعلى صاحب العلم أن يحسن “ترتيب الأولويات”، فلا تختلط عليه الأمور، ولا تلتبس عليه الحقائق، ومما يعينه على حسن الترتيب، ما يلي:
- البدء بالأهم فالأهم، وتقديم الأهم على المهم.
- البدء بالأصول الأساسية في حقول وميادين العلم الشرعي، وهي: العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، واللغة والتزكية، والواقع المعاش.
- تقديم الواجبات على السنن والنوافل والفضائل.
- الانطلاق من الأصلين، وهما: القرآن الكريم والسنة.
- توطين النفس على الإقلال من المباحات.
- التنوع النافع في الزاد العلمي، وحسن ترتيب الفقرات العلمية.
حقول العلم الشرعي:
- إحسان تلاوة القرآن وإتقان ترتيله
- الالتزام بورد قرآني، جزء كل يوم.
- قراءة تفسير متوسط للقرآن.
- قراءة كتاب في الحديث الصحيح.
- قراءة كتاب في العقيدة.
- قراءة كتاب متوسط في الفقه.
- قراءة كتاب في السيرة.
- قراءة كتاب في النحو والإعراب.
- قراءة كتاب في التزكية.
- قراءة كتاب في المذاهب الفكرية المعاصرة (ككتاب محمد قطب).
كيفية تنفيذ الخطة المبرمجة
وتنفيذ الخطة المبرمجة للتحصيل العلمي، تتطلب الآتي:
المشارطة: فعلى صاحب العلم أن يُشارط نفسه لتنفيذ خطته بأن يجلس في كل صباح جلسة إيمانية يتحدث بها مع نفسه ويُعاهدها ويُشارطها، ويتذكر في هذه الجلسة (ربع ساعة) وظيفته ومهمته ويشحذ همته ويقرأ برنامجه وهذه المشارطة ضرورية في بداية كل صباح.
1. المراقبة: بعد المشارطة والاتفاق يبدأ التنفيذ والتطبيق ولا بُد هنا من مراقبة دقيقة أمينة واعية لئلا يقع خلل في البرنامج أو يُساء أداء فقرة منه.
2. المجاهدة: أثناء أداء البرنامج العملي اليومي لا بُد لصاحب العلم أن يجاهد نفسه لتلتزم به، فلا بُد أن تكون نفسه تابعةً له ليطبق خطته.
3. المحاسبة: بأن يخلو صاحب العلم فترة أخرى من الوقت ليحاسب نفسه ويعرف ما لها وما عليها، وذلك قبل أن يأوي على فراشه، فيستعرض أعماله ويلاحظ مواضع إحسانه فيحمد الله على ذلك، ومواقع تقصيره فيدوّنها ليَعمل على إصلاحها في اليوم التالي، ثم يجمع ذنوبه في ذلك اليوم ويستغفر الله منها ويندم عليها ثم يستحضر نيته وهمته للالتزام ببرنامج اليوم التالي.
4. المعاتبة: بأن يعاتب صاحب العلم نفسه، بين الحين والآخر، في فترات الليل أو النهار، لمدة 5 دقائق، منبها نفسه على التقصير حاقّا لها على الاستمرار في المسير.
5. المعاقبة: إذا رأى صاحب العلم من نفسه تمنعا أحيانا، وأحس أنها لا تتجاوب أحيانا مع الخطة، وتصر على كسلها وضعفها ومخالفتها، فعليه أن يعاقبها بالحرمان من بعض المباحات أو تقليل بعض المرغوبات ويصارحها بأن هذه المعاقبة بسبب خطئها الفلاني وذلك لتتنبّه وتتربى وتستقيم.
6. المكافأة: وهي الجانب المقابل للمعاقبة، وهما ضروريان للتربية والتزكية، على أن يكونا مُتوازنين متكاملين، فإذا ما أجادت نفسه واستجابت فيعطيها ويُثيبها ويثني عليها بمنحها بعض المباحات كعِبارات الثناء وغيرها.
مع صاحب العلم في ساعات يومه
وصاحب العلم حَذِر من الغفلة عارف بقيمة وقته وإن النهار في الشتاء قصير فيكثر صاحب العلم فيه من الصيام وليله طويل فيكثر فيه من القيام ويكون غالب النوم والتحصيل في ساعات الليل، أما في الصيف فالنّهار يكون طويل فيستفاد منه بالتركيز على العلم والتحصيل وأما ليله فيجعله للنوم إلا الساعة قبل الفجر فإنها للتهجد.
وعليه أن يتكيّف مع طبيعة الفصول ويُحدد عدد ساعات نومه بست ساعات، خمس منهن ليلًا (3 قبل منتصف الليل) والساعة السادسة تكون كقيلُولة بعد الظهر أو قَبل العصر، وعليه أن يتوافق مع السنة الكونية فالّليل للنوم والنهار للعمل وفي السنة أن يكره النوم قبل العشاء والسهر بعده إلا لعلم أو مصلحة فلدى صاحب العلم إذا مبدأ النوم الباكِر والاستيقاظ الباكر. وأما وقت ما بعد الفجر فلا يضيع بالنوم فإنه مبارك.
نموذج مثالي للاستفادة من الوقت: يبدأ صاحب العلم النشاط والعمل قبل الفجر بساعة، بأن يُصلّي ثماني ركعات ويقرأ جزءًا من القرآن الكريم، ثم يتبعها بصلاة الوتر ثلاث ركعات، ثم يستغفر الله ويكثر من التضرع والدعاء. فإذا أذّن الفجر يذهب إلى المسجد فيُصلّي السُّنة ثم يجلس يقرأ القرآن ثمّ يصلي الفريضة ويتبعها بورده الدائم من الأذكار إلى شروق الشمس.
وما بعد شروق الشمس للعلم لا للنوم ويفضل شرب فنجان من القهوة وليَحرص على صلاة الضحى أربع ركعات، وليحرص- كذلك- على فطور مبكر، وكلما طالت هذه الفترة العلمية المباركة كان هذا النفع لصاحب العلم.
ومن بعد الضحى إلى بعد الظهر فترة العمل، ثم يحرص أشد الحرص على قيلولة ولو لفترة قصيرة وأفضلها بعد الظهر وإلا فقبل العصر ويملأ ما بين العصر والمغرب بما يراه مفيدًا كواجب دعوي أو اجتماعي أو جلسة مع إخوانه وأصفيائه؛ جلسةً علمية يتدارسون فيها موضوعًا علميًّا.
والوقت بين المغرب والعشاء من المفضل أن يكون في المسجد بحضور درس علمي أو قراءة القرآن وتعليمه، والوقت ما بعد العشاء إلى ذهابه للنوم، يُخصص لمتابعة التحصيل العلمي وقبل موعد النوم بنصف ساعة يتوقف صاحب العلم عن الدراسة ويصلي أربع ركعات صلاة قيام ويجلس جلسة خفيفة ليحاسب نفسه في يومه ذلك ويستغفر الله مئة مرة قبل نومه.
الصحة البدنية والنفسية لصاحب العلم
وعلى صاحب العلم أن يهتم بصحته البدنية والنفسية حتى يؤدي واجبه العلمي والعبادي والدعوي على أتم وجه، وفي هذا المجال يمكنه أن يثقف نفسه من خلال القراءة للدكتور محمد علي البار، والدكتور حامد أحمد حامد، والدكتور عبد الرزاق الكيلاني، سيما كتابه (الوقاية خير من العلاج) و(رحلة الإيمان في جسم الإنسان)، ونذكر هنا وصايا طبية من كتاب (وصايا طبيب) للدكتور حسان شمسي باشا:
- تناول بضع تمرات في الصباح مسبوقة بملعقة من العسل الممزوجة بحبة البركة.
- صحن من اللبن عليه الحبة السوداء (حبة البركة) مغمور بزيت الزيتون من أجود وأنفع الطعام.
- أكثر من استعمال زيت الزيتون.
- لا تنسَ كأسًا من اللبن على الأقل في اليوم.
- احرص على تناول السمك مرة في الأسبوع على الأقل.
- اعتدل في تناول اللحوم الحمراء.
- لا تكثر من المنبهات واعلم أنه من المفيد تناولك لفنجان من القهوة الحلوة عند الصباح ولا مانع من فنجانين من القهوة السادة بعد العصر، ومن الجيد تناول فنجان من الشاي عند الصباح وآخر بعد العصر ويمنع أثناء الطعام وبعده وتمنع المنبهات بعد المغرب.
- أكثر من تناول الخضروات والفواكه وابتعد عن المعلبات ولا تتنازل عن حبة تفاح طازجة عند الصباح، واحرص على حبتين من الجزر بعد ذلك.
- ابتعد عن التدخين تماما، فالضرر ناتج عنه حتما.
- داوم على الرياضة، وأهمها المشي السريع باعتدال.
- التزم بالنسبة لتناولك الطعام، فلا تأكل إلا عندما تشعر بالجوع وعندما تتناول الطعام فلا تصل إلى مرحلة الشبع وقم عن الطعام وما زالت حاجتك إليه موجودة.
- لا تأكل الطعام وأنت متوتر الأعصاب وابدأ طعامك بالسلطة وتناوله باسترخاء وهدوء.
- ابتعد تماما عن المشروبات الغازية، واحرص على وجبة الإفطار وخذها باكرا وتخلّ عن وجبة العشاء فلا داعي لها، ولا تأكل شيئًا قبل النوم بساعتين وتخلص من السمنة وقلل من الحلويات ودع الوجبات السريعة والدهون الحيوانية.
- أكثر من ذكر الله قبيل النوم، لئلا تصاب بالأرق.
- أكثر من شرب الماء، نم باكرًا واستيقظ باكرًا، ولا تكثر من الملح ولا من التوابل الحارقة ولا من الأطعمة المقلية، واحرص على إجراء فحوصات دورية.
- ابتعد عن المحرمات والمعاصي، واستعمل حواسك في طاعة الله ليحفظها لك طوال العمر.
والصحة النفسية لا تقل أهمية عن البدنية، فعلى صاحب العلم أن يكون تفكيره إيجابيًّا بنّاءً وأن يكبّر الإيجابيات في حياته وحياة مَن حوله وأن يتذكرها باستمرار وأن يتجاوز السلبيات وينساها، وعليه أن يقنع نفسه بأنه سعيد مُوفّق ناجح محبوب ذكي اجتماعي، وأن يتصرف على أساس هذه القناعة.
وأن يحسن إدراكه للمشكلة ويكون لديه الرغبة الأكيدة لحلها ويقتنع بإمكانية ذلك، وأن يثق في نفسه وبقدراته، ويحدّث نفسه دائما بالإيحاء الذاتي الإيجابي، ويستمر في توثيق وتعميق صلته بالله، ويتصالح مع نفسه ويصادقها ويتقبلها كما هي ويستثمر مواهبه، ويوثّق علاقته بالناس ويكثر من الاهتمام بهم وتقديم الخير لهم، وينظّم حياته، ويتعلم كيف يسترخي.
وعلى صاحب العلم ألا يقلق على المستقبل، وأن يتذكر الثمن الباهظ الذي سيدفعه من صحته، عندما يكون أسير القلق والتوتر. وأن يسجل الأخطاء التي ارتكبها خلال الأسبوع ويبين أسبابها، وكيف تصرف بشأنها، وألا يندم على ما فات، ولا يعطي الأمور أكثر مما تستحق، ولا يشغل باله بالأمور قبل أن يفعلها، وأن يزن الحقائق بعناية قبل صنع القرار.
الكاتب في سطور:
هو الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، أردني من أصل فلسطيني وُلد في مدينة جنين عام 1947م، وتُوفّي في يناير 2022م، من العلماء العاملين، تخرج في كلية الشريعة جامعة الأزهر عام 1970م، واستكمل دراساته العليا (ماجستير ودكتوراه) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وتأثر كثيرًا بالشيخ محمد الغزالي والأستاذ سيد قطب، لدرجة أن رسالته للماجستير والدكتوراه كانت تتعلق بالأستاذ سيد قطب ومنهجه في التفسير.
واهتم الرجل بالقضية الفلسطينية، وأثرى المكتبة بعددٍ من المؤلفات القيمة في الدعوة والفكر والثقافة والأخلاق، منها، (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد – ثوابت للمسلم المعاصر – الرسول المبلغ – لطائف قرآنية – مفاتيح التعامل مع القرآن – القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث – صور من جهاد الصحابة – حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية – مدخل إلى ظلال القرآن،.. وغيرها من المؤلفات).
والكتاب الذي بين أيدينا، لأهميته وقيمته، أعيد طباعته ونشره عدة مرات، وكانت الطبعة السادسة منه، في عام 2007، ونشرته دار القلم بدمشق، والدار الشامية ببيروت، ضمن سلسلة (كتب قيّمة). العدد (8).