لقد بيّن القرآن الكريم الخصائص العقلية لأولي الألباب الذين ينعمون بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، لسَيْرهم على طريق الهداية والرُّشد الذي رسمه الله- عز وجل- لعباده المؤمنين، فالقرآن يهدي الإنسان إلى أرشد العقائد، وأقوم السُّلوك، وأصوب الأفكار، بما يسديه للإنسان من توجيهات، وما يزوده به من قيم ومعارف.
وفي بحثٍ للدكتور حمدان عبد الله الصوفي، الأستاذ بقسم أصول التربية في الجامعة الإسلامية بفلسطين- رأى أنّ القرآن الكريم عُني بتصويب منهجية التفكير لدى الإنسان، من خلال إشاراته إلى العديد من الوظائف العقلية: كالتفكر، والتدبر، والنظر، والاعتبار، والاستنباط، وغيرها من الوظائف، كما أنه هدف إلى الكشف عن صفات عقلية لأصحاب العقول من منظور تربوي، وذلك في ست عشرة آية.
الخصائص العقلية لأولي الألباب في ضوء القرآن
إنّ من أهم الخصائص العقلية لأولي الألباب في ضوء القرآن الكريم من منظور تربوي، هو نفاذُ بصيرة هذه الفئة من المؤمنين في الموازنة بين المصالح والمفاسد، ما يؤدي إلى استقرار حياة الفرد والمجتمع، فقال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
قال السعدي- رحمه الله- في تفسير هذه الآية: “تحقن بذلك الدماء، وتتقمع به الأشقياء، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل، لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رأى القاتلَ مقتولًا؛ انذعر بذلك غيره وانزَجر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل، لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل، ولما كان هذا الحكم لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة، خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يُعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبر ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله، وكمال حكمته وحمده، وعدله ورحمته الواسعة».
إن الموازنة بين المصلحة المحضة والمفسدة المحضة، أمر لا يحتاج إلى جهد عقلي كبير يبذله الناظر، لكن الأمر الذي يحتاج إلى تأمل واجتهاد عقلي عميق، عندما تتعلق المصلحة والمفسدة بالشيء ذاته، أي عندما يكون الفعل الواحد مشتملًا على مصلحة ومفسدة، ويريد المجتهد أن يُغلب جانب المصلحة أو المفسدة، ليبني على ذلك حكمًا صائبًا نافعًا؛ لذلك تَوَجَّه الخطاب في الآية السابقة إلى أصحاب الألباب الذين يدركون المصلحة الراجحة في القصاص، وإن كان في ظاهره إزهاقًا لنفس آدمي.
فقه الأولويات من الخصائص العقلية لأولي الألباب
وتقدير الأولويات من أهم الخصائص العقلية لأولي الألباب التي بينها القرآن الكريم، ومن ثم اختيار أقربها إلى تحقيق المراد، سواء أكان هذا التقدير في الأقوال أو الأفعال، قال الله- عز وجل-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: كان أهل اليمن يَحُجُّونَ ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.
ويلاحظ أنّ في هذه الآية توجيهًا واضحًا إلى ضرورة التزوّد لرحلة الحج، بما يسد الحاجة من مال وطعام وغيره، وأنّ ذلك أولَى من ترك التزوّد ثمّ سؤال الناس، وربما يعطَوْن وربما يُمنعُون، كما أن في الآية- أيضًا- بيانًا واضحًا بأن التّقوى هي خير ما يتزود به، وهي أوْلى الزاد بالعناية والرعاية.
وقال الله- عز وجل-: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18].
أورَد الإمام الرازي فوائد عديدة مستفادة من الآية السابقة، واعتبر الفائدة الأولى التي تدل عليها الآية: “وجوب النظر والاستدلال؛ وذلك لأن الله تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة، فإنه يختار منها ما هو الأحسن والأصوب والآية تدل على أن السماع قَدَرٌ مشترَك فِيه، فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع، وإنما يتأتى بحجة العقل”.
وأضاف الإمام الزمخشري صفة أخرى إلى عباد الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه حيث قال: “وأراد أن يكونوا نُقادًا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران: واجب وندْب؛ اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حرصًا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابًا”.
الإتقان النظري والعملي
ويدخل ضمن الخصائص العقلية لأولي الألباب الإتقان النظري والعلمي، قال الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269].
وقال النبي- النبي صلى الله وسلم-: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”، ونَقَل الإمام القرطبي أقوال العلماء في معنى الحكمة، حيث ذهب (السدي) إلى أنّ الحكمة معناها: النبوة، وورد عن ابن عباس أنها: المعرفة بالقرآن، وعن مجاهد أنها: الإصابة في القول والعمل، وعن ابن القاسم أنها: التفكر في أمر الله والاتباع له، وعن الحسن أنها: الورع، ثم رجح القرطبي أن الحكمة: مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل.
وبالنظر إلى الآية السابقة التي قرنت بين الحكمة وأولي الألباب، ومن خلال ما تم نقله من أقوال المفسرين، يتبين للباحث أنّ الحكمة التي يتصف بها أولو الألباب نوعان متكاملان هما: الحكمة النظرية، والحكمة العملية، فالحِكمة النظرية هي: التي تمنح الإنسان الصواب في الاستدلال والفهم، وبناء التصور الصحيح للمسائل، والحكمة العملية: ترشد الإنسان إلى الإصابة في العمل والتطبيق، وأداء الجانب المهني على خير وجه.
إن المجتمعات المسلمة بحاجة ماسّة إلى تطبيق معنى الحكمة في العملية التربوية من خلال العناية بتعليم الطلبة مهارات التفكير بمختلف أنواعها وهذا ما يحقق الحكمة النظرية، إضافة إلى تدريب المتعلمين مهنيًّا بحيث يتقنون أداءهم إلى أعلى درجة ممكنة، وبذلك يجري تحقيق النهضة الشاملة التي تليق بمقام الأمة المسلمة كما أرادها رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم-.
استقامة الفَهم
وتشتمل الخصائص العقلية لأولي الألباب في القرآن على استقامة الفَهم، قال الله- عز وجل-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].
ذهب الإمام ابن كثير إلى اشتمال القرآن الكريم على آيات محكمات، هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، وهي أصل الكتاب الذي يُرجع إليه عند الاشتباه، ومنه آيات أُخر، فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
وبين الشيخ السعدي منهج الفهم السليم، في التعامل مع كل من المحكم والمتشابه في آيات القرآن الكريم، حيث قال: “فالواجب في هذا أن يُرَدَّ المتشابَه إلى المحكم، والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يُصدّق بعضه بعضًا، ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة”.
لقد بين القرآن الكريم أنّ منهج أهل الحق والفهم السليم، يقوم على اتخاذ الآيات المحكمات- التي هي أم الكتاب- ضوابطَ للفهم ومعايير للنظر، يحكِّمونها في الآيات التي لا تحتمل أكثر من معنى، فيصلون إلى الصواب والحق؛ بخلاف ما عليه أهل الزيغ والضلال من الاجتهاد في معاني الآيات المتشابهات دون معايير أو ضوابط، مما يجعلهم يُطوعون المعاني ويحرفونها بما يوافق أهواءهم وضلالاتهم.
ومن المعاني التربوية المستفادة مما سبق: ضرورة ضبط فهم المتعلم، ووجدانه وسلوكه، بما يتلاءم مع فطرته الأصلية، وعقيدته الإسلامية الراسخة، وخصائصه النمائية: العقلية، والنفسية، والبدنية. وبذلك نحقق المخرج التربوي المبدع، الذي يجمع بين أصالة المنطلق، وحداثة الأساليب والوسائل والطرائق، ويستفيد من الأفكار والمهارات والخبرات المعاصرة بطريقة تخلص الإنسان المسلم من مظهرين خطيرين هما: الجمود الذي يَحْمِل الإنسان على رفض كل جديد نافع، بحجة المحافظة على الثوابت من المحكمات، والتبعية التي تحرف الإنسان بعيدًا عن أصالته وهويته؛ بحجة الحداثة واللحاق بركب الحضارة الغربية.
التفكر المثمر في الآيات الكونية
من أظهر الخصائص العقلية لأولي الألباب التفكر في الآيات الكونية، والنظر في دقة خلقها، وإحكام تكوينها، ومن ثم الاستفادة منها وفق قانون التسخير الذي أودعه الله فيها، قال الله- عز وجل-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
إنّ التفكر المثمر في الآيات الكونية، والنظر الدقيق في مكوناتها ووظائفها، والاستقراء الشامل لجزيئاتها وتفصيلاتها، هو العمل العقلي الذي ينبغي ترسيخه في أذهان طلبة العلم؛ ذلك لأنه طريقة النهضة العلمية، وسبيل إدراك القوانين العلمية التي تُبنى عليها الحضارة المادية، وهو في الوقت ذاته طريق الإنسان المؤمن إلى معرفة خالقه وتقديره قدره، من خلال تلمس مواضع حكمة الله- عز وجل- ومواطن إبداعه، ومن ثم تكتمل الحضارة بشقيها المادي والإيماني ليحقق بذلك الإنسان المسلم حقيقة العبودية.
قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ {21}} [الزمر: 21].
في الآية السابقة يلفت القرآن الكريم نظر العاقل إلى ظاهرة كونية مألوفة، حيث يُنزّل الله ماء المطر، فيُسلكه في ينابيع الأرض، ثم يُخرج الله به زرعًا مختلفًا أصنافه: من بُرٍّ، وشعير، وغيرهما، أو كيفياته: من خضرة، وحمرة، وغيرهما، ثم يهيج ويتم جفافه… فتراه مُصفرًا من يُبْسِه، ثم يجعله حطامًا فُتاتًا.
الاهتمام بمعايير التَّميُّز والجودة
ومن الخصائص العقلية لأولي الألباب اهتمامهم بمعايير الجودة والتميز، من حيث تقديم النوع على الكم، والتطبيق الملازم للعلم الصائب، والجوهر على المظهر، قال الله- عز وجل-: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
ومن الفوائد التربوية المتضمنة في هذه الآية ضرورة اهتمام العملية التربوية بالنوعية والكيفية في جانب إعداد المعلمين، وتصميم المناهج، وتأهيل الطلبة، دون التركيز على العدد والكم فقط، وكذلك اختيار الكفاءات الفاعلة النادرة لقيادة العمل التربوي على مستوى الإشراف وإدارة المدارس وتدريب المعلمين، وبذلك يمكن الارتقاء بجودة العمل التربوي.
وقال الله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ {9}} [الزمر: 9].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ {19}} [الرعد: 19].
إن التلازم بين العلم الصحيح والتطبيق المثمر ينبغي أن يكون مبدأ أصيلًا في العمل التربوي؛ ليكون عملًا يتصف بالتميز والجودة، وهذا يقتضي وجود لجان متخصصة في المؤسسات التربوية بكافة مستوياتها تقوم بمتابعة التوصيات والمقترحات التطويرية التي تصدر عن المؤتمرات التربوية، والندوات والدراسات العلمية، ثم تحويلها إلى إجراءات عملية تأخذ طريقها إلى التطبيق في المؤسسات التربوية، وبذلك يحصل الارتقاء بالعمل التربوي نحو آفاق الجودة التميز.
الاعتبار بالسنن التاريخية
وإن أولي الألباب هم الذين يعتبرون بسنن التاريخ السالف المشحونة بالدروس، والعبر، وقد ذهب الإمام الرازي إلى أن: “الاعتبار: عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر”.
قال الله- عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
قال الإمام النسفي في تفسير الآية السابقة: “أي في قصص الأنبياء وأممهم، أو في قصة يوسف وإخوته عبرة لأولي الألباب، حيث نُقل من غاية الحب إلى غيابة الجب، ومن الحصير إلى السرير، فصارت عاقبة الصبر سلامة وكرامة، ونهاية المكر وخامة وندامة”.
إنّ الاعتبار بالماضي هو الذي يربطه بالحاضر، ويستخرج من الماضي ما يجعل الإنسان أكثر فهمًا لحاضره، وأقل خطأ في التعامل مع الحاضر.
وقال الله- عز وجل-: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]. ذكر ابن عاشور في تفسيره للآية السابقة أن: “في قصة أيوب- مجملها، ومفصلها- ما إذا سمعه العقلاء المعتبرون بالحوادث والقائسون على النظائر، استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج أن ينتظر الفرج”.
وقد جاء في سورة غافر حديث موسى- عليه السلام- وفرعون، وما انتهى إليه أمر موسى ومن معه من النصر والتمكين، وما آل إليه أمر فرعون من العذاب في الدنيا والآخرة، ثم عقب القرآن الكريم على هذه الأحداث التي أشارت إليه سنن النصر والهزيمة بقوله تعالى: {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 54]، وهذا يعني أن سنن الله- التي خلت في عباده- إنما يهتدي بها ويعتبر أولو الأفهام والعقول الناقدة.
وأشارت سورة الطلاق إلى سنة الله تعالى في الأمم التي عتت عن أمر ربها، فحاسبها ربها حسابًا شديدًا وعذبها عذابًا نكرًا، وتلا ذلك تنبيه لأولي الألباب ليأخذوا الدرس والعبرة من تلك السنة الماضية، قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10].
وفي قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} حكمة ذكرها الخطيب، بقوله: “هو إلفات لأهل العقول وأصحاب البصائر، أن يكون لهم مزدجر، من هذا الذي حل بالظالمين المعتدين من نقم الله في الدنيا، ومن العذاب الشديد في الآخرة، وأن يتقوا الله ويلتزموا حدوده، حتى لا يحل بهم ما حل بالظالمين من قبْلهم. وإنما خوطب أولو الألباب؛ لأنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بهذا الخطاب، وأن يكون لهم من عقولهم داعٍ يدعوهم إلى الاعتبار، وإلى تلقي العظة مما وقع لغيرهم، قبل أن ينزل بهم، فالعاقل من اتعظ بغيره، قبل أن يكون هو عظة لغيره”.
التدبر المفضي إلى اليقين
يأتي- أيضًا- ضمن الخصائص العقلية لأولي الألباب في القرآن، التدبر المفضي إلى اليقين، فقال الله- عز وجل-: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52]، وتشير الآية القرآنية إلى بعض صفات آيات الكتاب المشار إليها، وقد رُتبت بحسب حصول بعضها عقب بعض، فابتُدئ بالصفة العامة، وهي حصول التبليغ، ثم ما يعقب حصول التبليغ من الإنذار، ثم ما ينشأ عنه من العلم بالوحدانية.. ثم بالتذكير بما جاء به ذاك البلاغ. وذلك تفاصيل العلم والعمل.
إن التدبّر العقلي الذي يؤدي إلى اليقين، هو نشاط ذهني وجداني، يحقق للنفس الإنسانية الطمأنينة الراسخة من خلال اكتمال القوة النظرية والقوة العملية في الإنسان، ويرى الرازي أن رأس القوة النظرية يتمثل في توحيد الله- عز وجل-، وأن رأس القوة العملية يحصل بالتذكر، الذي يؤدي إلى الإعراض عن الأعمال الباطلة، والإقبال على الأعمال الصالحة.
وقال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، ويُبين الله- عز وجل- في الآية السابقة حكمة إنزال كتابه المتمثلة في تدبر الناس آياته، والتأمل في معانيها لاستخراج ما فيها من بركة وخير، وليتذكر أولو العقول الصحيحة كل علم وعمل مطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله، يحصل له التذكر والانتفاع.
التقوى المُجْلِية للعلم والمعرفة
وارتبطت التقوى بأولي الألباب في أربع آيات من الآيات التي ذكر فيها أولو الألباب، ومجموعها ست عشرة آية، والآيات الأربع هي: قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 179]. وقوله- عز وجل-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197]، وقوله سبحانه: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100]، وقوله تعالى: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) [الطلاق: 10].
إن الربط بين أولي الألباب وصفة التقوى في الآيات السابقة، يبين أن التقوى تورث العقل قوةً وصفاءً وقدرةً على التمييز بين الأمور بطريقة تزيل اللبس والغموض، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة: 282]، وهذا يعني أن الله تعالى هو: “الذي يعلمكم ما يُصلح لكم أمر دنياكم، وما يُصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له”.
وقد بين القرآن الكريم أن تقوى الله تُمكن الإنسان من التمييز بين الأمور والتفريق بينها، حيث قال تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29]. والفرقان المقصود في الآية السابقة- كما فسره السعدى- هو: “العلم والهدى الذي يفرّق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة”.
كذلك فقد بين القرآن الكريم أن التقوى تزود عقل الإنسان بنور كاشف، يدرك به ما لا يدركه غيره، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد: 28]. وقد فسر الشنقيطي النورَ المذكور في الآية السابقة بأنه: العلم والهدى، الذي يفرّق به بين الحق والباطل.
إنّ الخصائص العقلية لأولي الألباب في القرآن الكريم تتلخص في النقاط التالي:
- التقوى التي تمثل مركز إشعاع ينعكس على جميع الخصائص العقلية الأخرى، ويتطلب ذلك اهتمام العملية التعليمية بترسيخ الجانب الإيماني في نفوس الطلبة، بوصفه الأساس الذي تُبنى عليه جميع جوانب الشخصية.
- الموازنة بين المصالح والمفاسد بطريقة تساعد الإنسان على تحصيل المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها، ويقتضي ذلك إسناد المناهج التعليمية الجامعية ببرامج تدريبية تساعد الطلبة على إدراك مقاصد الفقه الإسلامي.
- فقه الأولويات وتقديرها، واختيار أقربها إلى تحقيق المراد. وهذا النوع من الفقه ضروري جدًا، حيث يعيش المسلمون واقعًا معقدًا شائكًا، لا يمكن أن يستقيم دون أن يكون ثمة ترتيب للأهداف المطلوبة بحسب أهميتها.
- الحكمة التي تعني الإتقان النظري والعملي، وجودة الأفكار والممارسات، وذلك من الأمور المهمة التي تحتاجها العملية التربوية في إعدادها جيلًا معاصرًا، يجمع بين المهارات النظرية والعملية ليسهم في تنمية المجتمع.
- استقامة الفهم بناء على استخدام معايير صحيحة، تقوم على رد المتشابهات إلى المحكمات. وهذا من شأنه تصحيح منهجية الفهم للقرآن الكريم.
- التفكر المثمر في الآيات الكونية، والاستفادة منها في خدمة الإنسان، وتحقيق رفاهيته، وهذا الجانب يساعد على الربط بين علوم التسخير الكونية، وغاياتها ووظائفها، التي تؤديها في حياة الأمة.
- الاهتمام بمعايير التميز والجودة، وتقديم الجوهر على المظهر، والنوع على الكم، بما يحقق النهضة الحقيقية للأمة في عصر أصبحت فيه القدرة على المنافسة في البرامج التعليمية وغيرها من المنتجات من أهم مقومات الأمة الحية.
- الاعتبار بالسنن التاريخية، والاستفادة منها في التعامل مع الظواهر الاجتماعية، مما يمنح الإنسان قدرة فائقة على فهم الواقع الاجتماعي، والتعامل معه بالطرق العلمية المناسبة.
- التدبر المفضي إلى اليقين، بمعنى تدبر آيات الوحي والكون بمنهجية علمية سليمة، تؤدي إلى اليقين الذي ينفي الشكوك والظنون.