ظهرت الخرافات والأحاديث المكذوبة مُنذ زمن بعيد وابتليت بها كثير من الأسر والمجتمعات والشعوب على مر العصور، لكن الغريب هو استمرارها في العصر الحديث الذي يتسم بالعولمة والانفتاح وإمكانية الوصول إلى المعلومات الصحيحة في أقصر وقت ممكن.
وفي دراسة أعدّتها الباحثة مليكة محمد الحامدي، رأت أنّ الخُرافة ما زالت موجودة في كثير من المعتقدات والممارسات الإنسانية المعاصرة، وهي منتشرة بشكل يدعونا إلى وقفة تأملية عميقة، وإلى مراجعة ذاتية لطريقة حياتنا وتربيتنا ومعتقداتنا لمعالجة هذه الظاهرة.
مفهوم الخرافات
تُعرف الخرافات التي مفردها خُرافة، بأنها أساطير أو قصص قصيرة ذات مغزًى أخلاقيّ غالبًا ما يكون أشخاصها وحوشًا أو جمادات، وهي فنّ قصصيّ خُرافيّ ذو مَغْزًى يُمثِّل الحيوانات مثل شخصيّات رئيسيّة في القصّة ولكن بصفات إنسانيّة، وهي – أيضًا- أحاديث باطلة لا يُمكن تصديقها، بل هي جملة الأفعال أو الألفاظ أو الأعداد التي يُظن أنها تجلب السَّعد أو النَّحس.
وحسب لسان العرب لابن منظور فإنّ “الخُرافةُ هِيَ الحديثُ المُسْتَمْلَحُ من الكذِبِ”، وذكر ابن الكلبي في قولهم (حديثُ خُرافة) أَنَّ خُرافةَ من بني عُذْرَةَ أَو من جُهَيْنةَ، اخْتَطَفَتْه الجِنُّ ثم رجع إلى قومه فكان يُحَدِّثُ بأَحاديثَ مما رأى يَعْجَبُ منها الناسُ فكذَّبوه فجرى على أَلْسُنِ الناس”.
والخرافة اعتقاد مغلوط يستند إلى الجهل بطبيعة العالم، إذ يعتقد البعض – على سبيل المثال- أنه إذا لم نقرع الطبول عند كسوف الشمس فإن الأرواح الشريرة لن تعيد الشمس إلى السماء، فهي بالتالي عبارة عن فكرة قائمة على تخيلات دون وجود مُسبّب منطقي مبني على العلم أو المعرفة.
ومن الأحاديث المكذوبة والخرافية المتوارثة في بعض المجتمعات، إيمان بعض الناس بأن الخرزة الزرقاء تدفع الشر، ونعل الفرس مجلبة للخير، كما أن رقم 13 مثير للتشاؤم، وغيرها الكثير من الأمور التي يصنع منها البعض خرافته وتخيلاته.
الإسلام يحارب الخرافة
وحارب الإسلام الخرافات التي تهدم قواعد الشرع الثابتة، حتى ينشأ الفرد والمجتمع على أسس واقعية حقيقية، لا على الوهم والجهل، فأكد ضرورة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الغيب بيد الله لا يعلمه إلا هو، وأنّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وعنده علم الكتاب.
وأكد الإسلام أن الله هو الذي يُحيي ويميت، ويعزّ ويذل، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، [آل عمران: 26].
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بن ميناء قال: سمعتُ أبا هريرة، – رضي الله عنه-، يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “لا عَدْوىَ ولا طِيرَةَ ولا هامةَ ولا صفر، وفِرَّ من المجذُوم كما تَفرُّ من الأسد”، وهو حديث يدل على حرص النبي الكريم على تعليم أمته أن الدين الإسلامي ضد الأوهام والتشاؤم وأي خرافات، وفي المقابل يغرس جذور التوحيد والإيمان واليقين في القلوب والعقول.
الخرافات في حياة أبنائنا
تُعرف التنشئة الاجتماعية بأنها العملية التي يكتسب الأطفال من خلالها خبرات متنوعة تضبط سلوكهم باتجاه إيجابي أو سلبي في ضوء تلك المكتسبات، وبالتالي فإن الخرافات والأحاديث المكذوبة إذا تواجدت في أثناء تربية النشء فإنها تُؤثر سلبًا عليهم.
إن التفاعل الأمومي يجعل الطفل في شهوره الأولى شديد الالتصاق والتأثر بوالدته، فتعد هي المحطة الأولى التي يجري من خلالها عملية الاكتساب، ثمّ فيما بعد يُصبح شديد التعلق بوالده، فيُشكّل له هذا الثنائي محور الحياة، وتبدأ عملية تقمص شخصيتهما منذ السنوات الأولى من عُمره، فيقلدهما فيما يفعلانه، ويصدقهما في كل ما يقولانه، ويُخزّن في ذاكرته صورًا ومواقف كثيرة لهما ويطبقها فى سلوكه، حتى وإن أبدى في إحدى مراحل حياته تمردًا عليهما واستقلالية عنهما، إلا أنه لا إراديًّا ينصاع لنمط تربيتهما.
ومن الأسهل على الأطفال أن يتقمّصوا نماذج أبوية عديدة، ثمّ نماذج من الراشدين، ثم نماذج من أترابهم، وبخاصة عند دخولهم المدرسة. ولأن الأطفال لا يميّزون ولا يقدرون الفروقات التربوية فيجري من خلال النماذج الثلاثة “الآباء والراشدين والأتراب” إدخال معايير وأنماط سلوكية مختلفة، إيجابية أو سلبية، واقعية أو خيالية إلى مخزون الذاكرة وساحة اللاشعور، فيتأثرون بها تأثيرًا بالغًا ويمارسونها بقناعة كبيرة إذا لم يتلقّوا الإرشادات السليمة والمستمرة من أولياء أمورهم.
فإن اكتسبت أصولًا من التربية الصحيحة المعتمدة على الأفكار العلمية الدقيقة فإن ذلك من فضل الله تعالى، وإن جرى العكس فتلك الطامة الكبرى، حيث تعمل المعلومات المشوشة والخرافية في نفوس الأطفال عملها السلبي في أوانها وعلى المدى البعيد من حياتهم، وربما تستمر حتى كهولتهم، فيتشرّبون عقيدة دينية خاطئة، ويتبنّون ثقافة اجتماعية وسياسية واقتصادية مهشمة ومهمشة، ويتصرفون إزاء المواقف المهمة من حياتهم بكثير من الاستهتار المبطن بالقلق والشكوى والضياع.
الآثار السلبية للخرافة
وهناك الكثير من المشكلات النفسية والجسدية والذهنية التي يعانيها أبناؤنا قد تُعزى إلى الخرافات والمعلومات الخاطئة التي ندخلها إلى عالمهم الفطري دون أن نلقي لها بالا، ومنها:
- السلوك العدواني إزاء شخص ما أو إزاء مقتنياته، وكره الذات والانفلات الاجتماعي، وقد يصاحب ذلك السلوك تشنجات عصبية واضطرابات في النوم وسوء الهضم والقلق، والخوف من أبسط الأمور، مثل: الظلام، والأصوات المرتفعة، والتجول على انفراد حتى في الأماكن الآمنة، فضلا عن التأثير السلبي على الأداء الدراسي والإدراكي والحركي.
- وإن استمرت المعلومات الخرافية في أخذ مجال أوسع وصولا إلى سن الرشد دون تصحيح أو تنبيه إلى عدم مصداقيتها، فإنها قد تأخذ بسلوك الراشد إلى منحى أسوأ، حيث تؤدي به إلى الانعزال الاجتماعي التام، وربما إلى الجنوح والشذوذ، وممارسة نشاطات غير إنسانية؛ مثل: السرقة، والاحتيال، والخيانة، ونثر الأكاذيب، وبث الإشاعات و…. إلخ.
- وقد يتخذ أحيانًا الوجه الآخر، فينحو نحو الدّين ويتشبث به في كل صغيرة وكبيرة، إلى أن يصل إلى حد التصوف اللامعقول والتعصب له، والزهد في الحياة، كل ذلك مردّه إلى التناقضات التي يعيشها بشكل مباشر وغير مباشر، التي تنمو استجابة للإحباطات والمعاناة في الطفولة.
- وتلك السلوكيات تجري بدافع الانتقام من ذلك العالم الذي حرمه العيش بأحضان الحياة بصدق وشفافية وعلاقات مباشرة مع ذاته ومحيطه ومدارك حواسه بشكل طبيعي.
محو الخرافة بالعلم
إن والعلم الصحيح يمحو الجنوح نحو الخرافات والأكاذيب، حيث يكون الهدف جعل السلوك القويم للفرد هو منطلق النجاح والتميز والسمو بالمجتمع من خلال الانفتاح الفكري المرتكز على أسس علمية دينية أخلاقية.
والمُربّي سواء كان الأب أو الأم أو الأخ أو المعلم، هو العنصر الفاعل في العملية التربوية، ويكون أثره مرهونًا بما يحمل في رأسه من عمل وفكر، وما يحمل في قلبه من إيمان وصبر، وحتى يحصد ثمرة نجاحه فى التربية، عليه أولا إزالة كل الشوائب المعلوماتية من فكره، ثم يسعى جديًّا للقضاء عليها بالتوعية الإرشادية الدائمة للأسرة والمجتمع والمدرسة، وزرع المعلومات العلمية الدقيقة في عقول ونفوس أبنائه، مع مراعاة بث روح التفاؤل والرضا، وتجنب الحديث عن الأشياء المخفية، مثل: الموت، والجرائم، وما شابه ذلك.
ومن الممكن سرد قصص من الخيال الواقعي على الأطفال لحثهم من خلالها على القيم الأخلاقية والعلمية والدينية الاجتماعية، لكن لا بُد من الابتعاد عن السّرد الخيالي اللاواقعى والتنبيه دائمًا على الأطفال إلى أنّ معظم ما يشاهدونه اليوم من أفلام الرسوم المتحركة، وأفلام “الأكشن” الخيالية إنما هو عالم لا وجود له، وليضبط مدة زمن متابعتهم لها.
من الضروري – أيضًا- سد احتياجات الأطفال إلى كل شيء مُفيد ونافع لهم، مثل: ممارسة الرياضات والهوايات التي يحبذونها، وتعليمهم بعض المهارات الفكرية واليدوية، ومن الأهم أن يقتطع ولي الأمر جزءًا من وقته يوميًّا ولو بضع دقائق للجلوس مع أبنائه، والغوص إلى عالمهم الفكري ليكتشف جوانب خفيّة من مكنوناتهم تُساعده على إرشادهم وتوجيههم للأصوب، ما يزيدهم إحساسًا بالأمان ورفع مستوى الفاعلية الفكرية والإبداعية في جميع مجالات حياتهم، بعيدًا عن التأثر بكل ما يُحيط بهم، خصوصًا كل ما هو خرافة وأحاديث مكذوبة يتناقلها البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو شاشات التلفاز.