لضياعِ الحقِّ وانتشارِ الباطلِ طرقٌ كثيرة
ومعلومٌ ألا أحدَ منا يرغب في أن يكون عونًا على ذلك
لكن حين يحيدُ المرءُ منا عن الموضوعيةِ ويفقدُ الحِيادَ
ويدورُ في مدار الأشخاص والذوات
حينها يُطمسُ الحقُّ ويَقْوَى الباطلُ
متى نفقدُ الحِيادَ؟
حين يحكمُ المرء منا بميلِ هواه
فيعتقد أن الحقَّ مع مَن أحب
ويرفضُ الحقيقة لرفضِه قائلَها
إذا حاز أحدٌ على قلبك حاز على فكرك
ومُنح بطاقة خضراء للولوج إلى عقلك
يُقنعك منطقُه في الأمور بلا مراجعة
والصوابُ .. أنَّ الحذرَ مطلوبٌ
والكلُّ مأخوذٌ من كلامِه ومردود
إلا المعصومْ من لا ينطق عن الهوى
لئلا تظلَّ أسيرًا لأشخاصٍ وتخسرَ الموضوعيةَ
عوِّد نفسَك ألا ترتبطَ بأفراد .. بل بمبادئَ وأفكارٍ
فالحقُّ لا يُعرف باتباعِ الرجال
وإنما يُعرف الرجالُ باتباعِهُمُ الحقَّ
كلما اهتزت قيمُ المرءِ وصارَ بلا مرجعيةٍ؛
حكمَ بهواه ووقفَ عند حدودِ تجاربِه وظنِّه
فصارت نفسُه هي المرجعية
ذاك المتضخمةُ ذاتُه المعجبُ بنفسِه
يتعاملُ مع الأمورِ برؤيةٍ شخصيةٍ
ويَبعدُ كثيرًا عن الموضوعيةِ
يستقبلُ كلَّ حوارٍ وكأنَّه موجه لشخصه
ويعُدُّ نفسَه فيه طرفًا يجب أن يخرجَ منه رابحًا
في حينِ وُجهت لخيرِ الرجال كلماتٌ ما عدُّوها وإنما تعدَّوْها
حين تعثرَ خليفةُ المسلمين عمرُ بن عبد العزيز برجلٍ في الظلام
غضبَ الرجل قائلًا لعمر: أمجنون أنت؟!
ردَّ عمرُ بغيرِ انفعالٍ وقال: (لا)
ولما همّ أحد الجنودِ بالبطش بالرجل لسوءِ خُلُقه
نهاه عمر، وقال: لقد سألني وأنا أجبته!
ولعل عمرُ قد تأسى في ذلك بالحبيب محمد
الذي ما انتقمَ لنفسِه في شيءٍ قط
مع صنوفٍ من التنكيلِ والعذاب لسنوات
ما شُغل خلالَها إلا بالرسالةِ التي بُعث من أجلها
وما ادخر في سبيلها جَهدًا
لم يسعَ خلفَ خصومةٍ أو انتقام
بل سألَ الله لقومه الهداية
رؤيةُ النفس والإعجاب بها آفةٌ لا تصيبُ الفرد فقط
بل قد تصيبُ أمةً أو جماعةً من الناس
يظنون أنهم مُيِّزوا عن سائر الخلق أو أنهم أكثرُ قربى من الله
كظن اليهود والنصارى حين قالوا (نَحْنُ أبناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)
أما توجيهُ اللهِ لخلقه فقد جاء في الآية الكريمة
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )
سابقُ الخصومة
قد تؤدي بالمرءِ للبعد عن الموضوعية والحياد
فالكراهيةُ والحقدُ يطمسانِ البصيرةَ
في حينِ قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
يُرمزُ للقضاءِ العادل بامرأةٍ معصوبةِ العينين
لأنه لا يَرى فيمن أمامَه جنسَه ولا دينَه ولا ماضيه
بل أدلةَ الحالةِ التي تستلزمُ حكمًا
فلعل من كان ماضيه سيئًا قد تابَ اللهُ عليه
أو لعله أخطأَ في موقفٍ فاتَ وأصاب فيما هو آت
فلا يؤاخذُ إنسانٌ بجريرةِ ماضيه
قد كان من كبارِ الصحابة من تأخرَ إسلامُهم
فشاركَ بعضهم في قتلِ بعضٍ من أكارمِ الصحابة
لكن بعد إسلامِهم لما يُعاملوا بثأريةٍ أو تَفْرقةٍ
بل صارَ منهم من لقَّبَهُ رسولُ الله بـ(سيفِ اللهِ المسلول)
حين تلجأُ لشخصنةِ الأمور فإنك تسعى لانتصارِ رأيك
ولا تجدُ بصدرك متسعًا لأي رأي آخر
فلا تحسنُ الإنصات ولا تفهم
لا تتعلمُ، ولا تتقدمُ
إذ كلُّ تقدمٍ يلزمُه تجردٌ
ولن يمكنك أن تتعاونَ أو ترى ما يجمعُك بمن حولك
إلا أن تضعَ هذه القاعدةَ نصبَ عينيك
(رأيي صوابٌ يحتمل الخطأَ ورأيُ غيري خطأٌ يحتمل الصوابَ)
المنتصرُ لرأيه لا يجتهدُ في الوصولِ للحقيقة
وإنما لإثباتِ صحةِ رأيه
ساعيًا بذلك خلفَ كلِّ دليلٍ ممكن
حتى وإن لزمَ الأمرُ كتمانَ كلِّ دليلٍ يخالف رأيه
فلا يظهرُ الحقَّ على يديه
كمثلِ أهل الكتاب لما عَرَفوا من الحقِّ المذكور عن رسولِ الله في كُتُبهم
كتموا ما عرفوا عنه من صفاتٍ لأنه لم يُبعث منهم
فأنكر عليهم هذا ربُّ العزة قائلا:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)
الحقُّ الذي كتمَه أبو جهلٍ لما قال:
(واللهِ إني لأعلمُ أنه لنبيّ ولكن متى كنا لبني عبدِ مناف تبعًا!)
البعضُ منا قد يبتعدُ عن الموضوعيةِ لكونه يفتقدُ الحُجة ولا يعلمُ
ولا ضيرَ إن كنت لا تدري .. لكن قفْ حينها عند حدودِ جهلِك
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
فالخوضُ بغيرِ علمٍ عواقبُه غيرُ محمودةٍ
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)
وإذا كنت لا تعلمُ فلا ضيرَ .. لكن أحسِنِ الظنَّ حتى تعلمَ
(لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا)
البعضُ لا يدورُ حيثُما دارَ الحقُّ
وإنما يدورُ حيثما دارت مصلحتُه الشخصية
فهو مع الحقِّ ما دام هذا الحقُّ عائدٌ عليه بالنفعِ
فإذا انقطعَ ذاك النفعُ انقطعَ دورانُه مع الحق!
وكلما امتلأَ الإنسانُ بأهدافٍ كبرى وجعلَ رضا الله نُصبَ عينيه
كان أكثرَ تجردًا
كتجردِ رسولِ اللهِ حينَ كان يعارضه الصحابةُ بأدبٍ
فيقول الحبابُ بن المنذرِ عن مَنزلِ بدر
(يا رسول الله إنّ هذا ليس بمَنزلٍ)
ويعارضُ الشبابُ المُكثَ في المدينةِ في غزوة أحد
فيخرجَ نزولًا على رأيهم مخالفًا رأيَه
لم تحدثه نفسه بأنه نبي لا ينطق عن الهوى
ولا بأنه مؤيدٌ مختار من السماء
لم يدفعه هذا أن يسفه من رأيٍ أحدٍ أو يأبى السماع لأحد
بل مصلحةُ الرسالة الكبرى
كثيرًا ما قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)
فلم يدفعْه كونُه نبيًّا أن يحكمَ كلَّ صغيرةٍ في حياةِ الناس
بل تركَ لهم متسعًا لإدارةِ شؤونِ حياتِهم
يميلُ عن الحيادِ مَن مالَ لطرَفٍ بعد سماعِه دون سماعِ الطرفِ الآخر
لأجلِ هذا خرّ نبيُّ الله داوود راكعًا وأناب
لما جاءه الخصمُ إذ تسوروا المحراب
اشتكى أحدهم أخاه فحكم له نبيُّ اللهِ داوود قبل أن يسمعَ للآخر
التجردُ والموضوعيةُ يلزمهما سماعُ الطرفين
لئلا يستميل طرفٌ هوى السامعِ فيغلبَه هواهُ
يحيدُ عن الموضوعيةِ مَن سار بين الخلقِ بأحكامِه المسبَّقة
ووضعَ الناسَ في قوالبَ من صنعِه
يعتقدُ عن شخصٍ أنه كذا
فيصدِّقُ بسهولةٍ أنه يفعل كذا وكذا
دون الحاجة إلى تثبُّتٍ أو دليلٍ
وإنما نحنُ مأمورون دائمًا بالتبيِّنِ أولًا
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)