“كلمةُ حق عندَ سلطانٍ جائرْ”
هكذا كان ردُّ النبيِّ المعصومْ
صلى الله عليه وسلمَ
حين سُئِلَ: أيُّ الجهادِ أفضلْ؟
وكذا قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهْ
حيثُ عدَّ قولَ الحقِّ مع العلمِ بكثرةِ رافضيه
من أفضلِ الجهادْ
وقد تكونُ هذه الممانعةُ مِمَّنْ تُخشى سطوتُه ونفوذُه
كسلطانٍ أو رئيسٍ أو أميرٍ أو وزيرْ
أو ذي صلاتٍ بأهلِ الحُكمِ والرياسةْ
وقد تكون كذلك من عوامِ الناسِ والمتابعينْ
فيَخشى صاحبُ الرأي هجومَ المتابعينْ
وانفضاضَ الأتباعْ
وغضبَ الجمهورْ
وفي هذه الحالاتِ تكونُ كلمةُ الحقِّ عزيزةً نادرةْ
قَلَّ مُعلِنُوها
وشَحَّ رافِعوا رايتِها
ولذا اعتبرَ العلماءُ أنَّ جهادَ المنافقينَ والظالمينَ بالكلمةِ وقولِ الحقِّ أصعبُ من جهادِ الكفارْ
وقد ذكرَ ابنُ القيمِ رحمه اللهُ أنَّه جهادُ خواصِّ الأُمةْ
وَوَرَثَةِ الرسلْ
وأنَّ المشاركينَ فيه والمعاونينَ عليه
همُ الأعظمُ عندَ الله قدرًا
وإن كانوا الأقلَّ عددًا
ولقد ربى الإسلامُ أبناءَه على الجرأةِ في قولِ الحقِّ ونصرةِ المظلومْ
معتبرًا أن “الساكتَ عن الحقِّ شيطانٌ أخرسْ”
وجعل أتباعَه يبايعون نبيَّ الإسلامِ على قولِ الحقِّ أينما كانوا
لا يخافونَ في الله لومَةَ لائمْ
فأخرجَ من بين ظهرانيهم أمةً لا تهابُ الخطوبْ
تتجشمُ الأهوالَ وتقتحمُ الصعابْ
وترى الموتَ في سبيلِ إعلاءِ كلمةِ الحقِّ خيرًا من ألفِ حياةٍ تكتنفُها المهانةُ والذلُّ
أمامَ باطلٍ منتفشٍ مستكبرٍ يمشي في الأرضِ مَرَحًا
وكلمةُ الحقِّ قذيفةٌ ربانيةٌ في وجهِ الباطلْ
تزلزلُ كِيانَهْ
وتحطمُ أركانَهْ
ففي سورةِ الأنبياءْ:
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}
وفي سورةِ سبأْ:
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
والحقُّ مجلجلٌ أبلجْ
والباطلُ مهلهلٌ لجلجْ
كما أن الحقَّ ناطقٌ ساحقٌ ماحقْ
والباطلُ مخبَّطٌ مخلَّطٌ زاهقْ
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
وقولُ الحقِّ تسيلُ به الأوديةْ
وتفيضُ به العيونْ
وتُسقَى به الأرضُ بعدَ موتِها
والحقُّ باقٍ نافعٌ وإنْ كانَ قليلًا
والباطلُ زائلٌ ماضٍ وإن كان كثيرًا
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}
وقد رأينا أعظمَ المجاهدينَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ
يصدحُ بالحقِّ وهو يدركُ تبعاتِه
ويوقنُ بمعارضةِ قومِه لهْ
فصعدَ أولَ ما صعدَ على الجبلْ
ونادى في الناسِ قائلًا: “إنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ”
فانفضَّ عنهُ سادةُ قومهِ وكبراؤهمْ
وأجابَه أبو لهبْ: “تبًا لكَ سائرَ اليومِ ألهذا جمعتنا!”
ورأيناه- صلى الله عليه وسلم- ماضيًا لا يتراجعْ
رغمَ اتهامِه إفكًا وكذبًا وزورًا بالسحرِ والجنونِ والكَهَانَةِ والكَذِبْ
وبقولِ الحقِّ استطاعَ أبو الأنبياءِ إبراهيمُ مواجهةَ أبيه وقومِهْ
مستخِفًّا بآلهتهمْ وما يعبدونْ
{مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
وهذا سعدُ بنِ أبي وقاصٍ
يقولُ بعدَ إصرارِ أمِّه على الجوعِ والعطشِ حتى يرتدَّ عن دينِهِ ويكفَّ عن قولِ الحقْ
“يا أماه. تعلمين واللهِ لو كانت لكِ مِائةُ نَفْسٍ، فخرجتْ نَفْسًا نَفْسًا؛ ما تركتُ ديني هذا؛ فإن شئتِ فَكُلي، وإن شئتِ لا تأكلي”.
وذاكُ سلطانُ العلماءِ العزُّ بنُ عبدِ السلامْ
الذي دخلَ مرةً على السلطانِ
فشاهدَ العساكرَ مصطَفِّينَ بين يديهْ
ورأى كُبراءَ الدولةِ في مجلسهْ
وأخذَ الأمراءُ يُقبلونَ الأرضَ بين يدي السلطانْ
فناداه العِزُّ باسمهِ قائلًا:
يا أيوبْ
ما حُجَّتُكَ عندَ اللهِ إذا قالَ لكَ: ألم أُبَوِّئْكَ مُلكَ مصرَ فأَبَحْتَ الخمورْ؟
فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانةُ الفلانيَّةُ يباعُ فيها الخمورُ؛ فأمرَ السلطانُ بإغلاقِها
وذاكُ الإمامُ صاحبُ المسندْ
أَبَى إلَّا أنْ يتمسكَ بقولِ الحقِّ في فتنةِ خلقِ القرآنْ
وذلكَ في مواجهةِ ثلاثةٍ من السلاطينِ العباسيينْ
المأمونِ والمعتصمِ والواثقْ
الذين أذاقوا العلماءَ والفقهاءَ صنوفَ العذابِ في سبيلِ تبديلِ رأيهم والقولِ بخلقِ القرآنْ
وقد ترخَّصَ كثيرون آنذاكَ وَأَوْصُوا غيرهم بذلك
وكان يَسَعُ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ ما وسِعَ غيرَه من الترخُّصِ حين الإكراهْ
وكان يسعُهُ الصمتُ لينجُوَ من بطشِ السلطانْ
إلا أنَّه أخذَ بالعزيمةِ ورفضَ الرُّخْصةْ
فآثرَ أن يقولَ الحقَّ ويصدحَ به ويَثْبُتَ عليهْ
وواجَهَ في سبيلِ ذلكَ السَّجْنَ والضَّرْبَ والتعذيبَ سنينَ مديدةْ
وكانَ المآلُ أنْ ثَبَّتَ اللهُ به الأمةَ من بعدهْ
فأعَزَّ ذكرَه
ورفعَ قدرَه
وأجرى إلى يومِنا هذا ألسنةَ الناسِ بالثناءِ عليهْ
وبذلكَ نالَ لقبَ “إمامِ أهلِ السنةِ والجماعةْ”
فما أحوجنا اليومَ -حُكامًا وشعوبًا- إلى التعلمِ من سَلَفِنَا
وما الفوضى التي نراها اليومَ في أُمَّتِنَا إلا نتيجةً لخذلانِ الحقِّ والسكوتِ أمام الباطلْ
وما ذاكَ إلا بسببِ ضعفِ الجرأةِ في النفوسْ
والتي هي وليدةُ الإيمانْ
فيا أيها العلماءُ والخطباءُ والأدباءُ والمثقفونَ والمفكرونْ
ويا نخبةَ الأمةِ وقادتَها وساستَها
أميطوا عنكمْ رداءَ الخوفِ والرهبةْ
وَالْبَسُوا لَأْمَةَ الجرأةِ والشجاعةْ
واجعلوا لأمتِكم وشعوبِكم من نفوسِكم قدوةْ
واصدحوا بالحقِّ في اللهِ وللهِ وباللهْ
لا تخشوْنَ في ربِّكُمْ لومةَ لائمْ
ولا ترهبونَ عقابَ متكبرٍّ جبارْ
واللهُ معكمْ… ولنْ يَتِرَكُمْ أعمالَكُمْ