الحرية ضرورة ومطلب، ولا تستقيم حياة الإنسان السوي إلا بها، وقد رافقت هذه الكلمة الفكر الإنساني عبر التاريخ لأهميتها في حياة البشر، حيث اعتبرها بعض الفلاسفة والمفكرين على رأس هرم أولويات الإنسان قبل كثير من الضروريات، ونرى ذلك واضحا في فكر الإمام البنا.
ولقد عمدت الشرائع السماوية إلى ترسيخ معنى الحرية وتأكيده، بل دعت إلى نبذ العبودية وتحريرهم، وجعلت فدية كثير من الأعمال تحرير رقبة، ولم يختلف أحد حول معناها وأهميتها من الغرب أو الشرق، أو مسلم أو كتابي، بل لم تختلف جميع الديانات السماوية والأعراف على أهميتها، وهو ما ترجمه الإمام حسن البنا من خلال دعوته، وأفكاره، ومواقفه، ورسائله.
مفهوم الحرية
عاش الإنسان في بداية الخليقة حرا لا يقيده شيء، كانت هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، لكن مع زيادة النسل، واستقرار ابن آدم في مجتمعات فرض على نفسه القيود والتقاليد التي يحكمها إما القانون أو العرف.
ومع اختلاف البيئات اختلف مفهوم الحرية من مكان إلى مكان، ومن تجمع بشري إلى تجمع آخر.
والحُريّة في الإسلام كما عرفها ملتقى الفقه الإسلامي: (ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرُّف لاستيفاء حقّه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء).
وعند الغَرْب هي: (الانطلاق بلا قيدٍ، والتحرُّر من كلّ ضابطٍ، والتخلُّص من كلّ رقابةٍ، ولو كانت تلك الرّقابة نابعةً من ذاته هو).
أمّا قانونياً فهي قُدرة الأفراد على مُمارسة الأنشطة التي يُريدونها دون إكراه، على أن يخضعوا للقوانين التي تُنظّم المُجتمع(1).
كما أن معناها يشمل النشاط الإنساني في الاختيار والتفكير والنقد والمعارضة والتقييم في اختيار الدين السياسة والثقافة والاقتصاد.
الحرية في الإسلام
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، بهذه الآية الكريمة وضع القرآن الكريم قاعدة راسخة، وحدد طبيعة وسماحة هذا الدين في تناول هذه القضية المصيرية التي تخص الإنسان. والتي استوحى الإعلان العـالمي لحقـوق الإنسـان نص الحرية من هذه الآية الكريمة حيث جاء في مادته (19): (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل).
وهي المعاني التي تشربها الإمام حسن البنا وسعى لتطبيقها كمنهج وفكرة حيوية وضرورية في حياة المجتمعات، والتي دفعت لمحاربة المستعمر الغربي ومن سعى لتقييد حرية الشعوب الإسلامية وتكبيلها.
أهمية الحرية عند البنا
أسس الأستاذ البنا جماعته على منهج وسطي شامل للإسلام، والحرية جزء منها حيث اعتبرها فريضة وحق لكل إنسان، والمسلم لا يمكن أن يعبد الله بحق، وهو فاقد حريته ذليل، وهو ما ذكره بقوله:[إذا قيل لكم – أيها الإخوان- إلامَ تدعون ؟!، فقولوا: ندعو إلى الإسلام، والحكومة جزءٌ منه، والحرية فريضةٌ من فرائضه، فإذا قيل لكم هذه سياسة!! فقولوا: هذا هو الإسلام، ولا نعرف نحن هذه الأقسام](2).
ولقد تعددت مفاهيم الحرية عند الأستاذ البنا ومنها حرية العقيدة والتي اعتبرها من الحريات الشخصية التي كفلها الإسلام للجميع، بما فيهم الأقليات غير المسلمة والتي كفل الله سبحانه حرية العقيدة لهم في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
أيضا تكلم البنا في حرية الوطن من المستعمر الأجنبي، حيث ظل ينادي في كل وقت ومكان بالحرية لوطنه مصر وللوطن العربي والإسلامي من المحتل الغربي، حيث قال: [الإخوان لهم هدفان: أن يتحرر الوطن الإسلامى من كل سلطان أجنبي، وأن تقوم في هذا الوطن الإسلامي الحر دولة إسلامية حرة.. والشعب على أتم استعداد للبذل، ولكن فى طريق واضحة مرسومة تؤديه إلى الحرية أو الشهادة](3).
والحرية من الدعائم العشر التى حددها الإمام البنا: (الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن طريقتنا، والآخرة عقيدتنا، والجهاد وسيلتنا، والحرية أمنيتنا..)، وفى مقدمة المنجيات العشر التى حددها الإمام البنا: (الحرية …)(4). ويؤكد: تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة والملك والعمل والصحة والحرية والعلم والأمن لكل فرد وتحديد موارد الكسب.
الحرية السياسية عند البنا
الحرية السياسية هي إدارة الشعب لشئون بلده، بداية من حريته في اختيار من يمثله أو يفوضه في إدارة البلاد، حتى مراقبته ومحاسبته على تقصيره والمساهمة في النهوض بالوطن.
ولقد أجمل الإمام البنا هذه الحرية تحت عنوان (إصلاح قانون الانتخابات) وذلك حتى تتحقق حرية التعبير والتي تتطلب الشعور بالأمن وعدم الوقوع تحت أى ضغط يؤثر على حرية الرأي، وهو ما يلزم إقامة الانتخابات على أسس من العدل بين الجميع، وإعطاء الفرص والحرية في المشاركة لكل من يرى في نفسه الكفاءة، بالإضافة إلى أنه لابد أن يكون للمرشحين برامج فاعلة وواقعية تنهض بالبلد، وعدم تجاوز حدود الدعاية أو استعمال المال السياسي في تزكية فرد على حساب آخرين مع وضع عقوبة قاسية للتزوير من أي نوع وللرشوة الانتخابية كذلك، مع ترجيح الانتخابات بالنظام الفردي بدلا من القوائم حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية فى تقدير النواب والاتصال بهم(5).
وفي رسالة (مشكلاتنا في ضوء ) يؤصل الإمام البنا لحرية الرأي (الحرية السياسية) بالأحاديث والآيات القرآنية، فبعد قوله عن الأخوة وأنها من الإيمان، يقول :” ولا يمنع من ذلك حرية الرأي وبذل النصيحة من الصغير والكبير.. ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق المراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها(6).
والحرية لها واجبات على الحاكم والشعب، فطالما اختار أغلبية الشعب رئيسه بحرية وانتخابات نزيهة، فقد وجب على الجميع سواء من اختاره ومن لم يختاه أن يحترمه، وأن يقدم النصيحة له ويعاونه الجميع على إدارة البلاد، ولا ينتهز معارضوه الفرص للانقضاض على حكمه وإثارة القلاقل والفتن حتى يبدو حكمه مضطربا، فليست هذه حرية رأي، بل استبداد الأقلية من الشعب برأيها ومحاولة حمل الجميع عليه(7).
البنا وازدواجية الحريات عند الغرب
انطلق مفهومها لدى الإمام البنا من منهج إسلامي أصيل وهي الحرية الكاملة للإنسان دون عبودية أو سيطرة من الغير مع الالتزام بالضوابط التي سنها الإسلام وتفرضها القوانين.
ولقد فرق الإمام البنا بين الحريات في الدول الإسلامية وبين مثيلتها في الدول الغربية حيث الحرية المطلقة وهي مرفوضا في ديننا ومجتمعاتنا الإسلامية.
كما عاب على الغرب الازدواجية في تناول الحرية مع أبناء شعوبهم ومع باقي الأمم المحتلة، حيث الشعارات البراقة والمزيفة من الغرب. يقول الإمام البنا: “ولنا حساب بعد ذلك مع إنجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق، والتي يفرض الإسلام على أهلها وعلينا معهم أن نعمل لإنقاذها وخلاصها أما فرنسا التي ادعت صداقة الإسلام حينًا من الدهر فلها مع المسلمين حساب طويل، ولا ننسى لها هذا الموقف المخجل مع سوريا الشقيقة، ولا ننسى لها مواقفها في قضية المغرب الأقصى والظهير البربري، ولا ننسى أن كثيرًا من إخواننا الأعزاء شباب المغرب الأقصى الوطني الحر المجاهد في أعماق السجون”(8).
ويؤكد على هذه الازدواجية التي مارسها الغرب مع الشعوب التي كان يحتلها فيقول البنا: (كان طبيعيا وقد احتل الإنجليز هذا الوطن بالحيل والخداع، وأخذوا يوطدون أقدامهم فى أرضه بالمكر والدهاء تارة، وبالتفريق وبذر بذور الخلاف تارة أخرى، والعنف والقسوة مرة ثالثة، أن يضعوا لأهله وأبنائه ومجاهديه وأحراره القيود والأغلال يسمونها قوانين محتمة الطاعة واجبة النفاذ، حتى يحيطوا أنفسهم وصنائعهم بلون من ألوان الحماية ظاهره فيه الرحمة وتتوفر فيه الشكلية القانونية، وباطنه فيه العذاب وتخفي وراءه المظالم الوحشية.. إن الحرية أيها الناس هى الإنسانية، ولا إنسانية بغيرها، فلن يكون الإنسان إنسانا إلا إذا كان حرا)(9).
ويؤكد على أن الحريات المسلوبة تنتزع ولا تؤخذ بالتفاوض خاصة مع المحتل فيقول: (والاستقلال والحرية والحقوق الوطنية لا تنال على كل حال بالجدل والنقاش والرجاء ولكنها تنال دائما بالعمل والكفاح والجهاد والفداء)(10).
منطوق الحرية عمليا عند البنا
لم ينادِ الإمام الشهيد البنا بالحرية مقتصرا على الجانب النظري، لكن سيرته مليئة بالمواقف العملية للعمل من أجل التحرر من العبودية التي كبل بها المستعمر الشعوب الإسلامية.
ففي بداية دعوته واجهته مشكلة البغاء والتي حارب من أجل القضاء عليها وتحرير ربقة النساء من هذه الداء، بل سعى لتوفير سبل العيش الطيب لهن، فاستأجر مبنى مستقل عملوا فيه بأيديهم بالنهار وكانوا يستمعون إلى الدروس الدينية بالليل، بل إن الإمام البنا سعى لتزويج كل من رغبت في ذلك، ومن لم تتزوج منهن تعلمت فن الخياطة والتفصيل، أو فن الطهي، أو تربية الأولاد(11).
وليس ذلك فحسب فحينما طلب عمال شركة جباسات البلاح بالإسماعيلية من الإدارة أن تبني لهم مسجدًا وتم بالفعل والتي طلب من الشيخ البنا أن يرسل إماما ليؤم الناس في الصلاة، لكن الإمام البنا أرسل لهم من يعلمهم حقيقة دينيهم، حتى أن الإدارة لاحظت أن إنتاجهم زاد، لكن مقابل أن امتلكوا عزتهم وكرامتهم وأصبح الواحد منهم يعرف حقوق نفسه ووطنه، حتى ضجرت الشركة من الشيخ محمد فرغلي وأرسلت للإمام البنا أن يسحب إمامه الذي حرر العمال من ربقة عبودية سادة الشركة وأنه أفسدهم على الإدارة، إلا أن الإمام البنا أوضح لهم أنهم هم السبب في أكل حقوق العمال وما قام به الشيخ فرغلي أن عرف العمال حقوقهم فحسب. ولم تستطع الشركة فعل شيء واستجابت لكل ما أملاه عليهم الشيخ البنا(12).
لقد حفلت فترة حياة الإمام البنا بالمواقف العملية التي أوضحت منهجه وفكره في استحقاق نيل الحرية لكل الشعوب الإسلامية.
فقد فتح المركز العام لجميع الحركات التحررية، حيث رأينا الحبيب بورقيبه من تونس، والعلال الفاسي من المغرب، وعبد الكريم الخطابي، وأمين الحسيني من فلسطين، وزعماء المجاهدين الليبيين والجزائريين، والسوريين حتى نالت سوريا ولبنان حريتها عام 1946م.
أخيرا
وُجد الإمام البنا في عصر الاستعمار إلا أنه تربى على مفاهيم الحرية الحقيقة والتي عمل من أجل أن ينالها الشعب المصري والشعوب الإسلامية سواء التحرر من الاستعمار أو ممن سلبها منهم من حكامهم، وأن لها ضوابط وليست مطلقة كالدول الغربية.
وتجلت مواقف وأعمال الإمام البنا في ترسيخ هذا المبدأ من تربية الأفراد، فكانوا يحيون بهذه الحرية في التفكير وإبداء الرأي فلم يحجر البنا على رأي أحد حتى من اختلفوا معه.
المصادر
1- بانا ضمراوي: تعريف الحرية، 24 يونيو 2019،
2- مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة بين الأمس واليوم، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2008 ، صـ529.
3- جريدة الإخوان المسلمون اليومية: العدد(475)، السنة الثانية ، 6 من محرم 1367هـ / 19 من نوفمبر 1947 ، صـ1ـ
4- مجموعة رسائل الإمام البنا: رسالة نظام الأسر، صـ599.
5- جريدة الإخوان المسلمون اليومية : العدد (482) السنة الثانية ، 14من المحرم 1367هـ / 27 من نوفمبر 1947م، صـ 1.
6- رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي: نسخة البصائر للبحوث والدراسات، صـ730.
7- مجموعة رسائل الإمام البنا: مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين، صـ 234.(بتصرف).
8- رسالة المؤتمر الخامس: مجموعة رسائل الإمام البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م، صـ 413.
9- حسن البنا: بين قوانين الحرية.. وقيود الاستبداد، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (140)، السنة الأولى، 21 ذو القعدة 1365/ 16 أكتوبر 1946، صـ1.
10- حسن البنا: نحن أنفسنا، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (319)، السنة الأولى، 27جمادى الآخرة 1366/ 18 مايو 1947، صـ1.
11- حوار مع عبدالرحمن حسب الله: مجلة لواء الإسلام – السنة 42 – العدد 12– غرة شعبان 1408هـ / 19مارس 1988م – صـ27.
12- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000، صـ120 – 122.