إنّ التوجيه التربوي في الخطاب القرآني للإنسان هو موضوع العملية التربوية ونقطه البداية، فقد كان التوجيه العقدي الأول الصادر عن كل الرسل لأقوامهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) وكذلك التوجيه الفكري: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت: 20).
ويُسلّط الدكتور صلاح الدين إبراهيم حماد، في بحث له، الضوء على هذا التوجيه من خلال بيان ماهيته، والأهمية الشرعية والتربوية له وطبيعته وخصائصه، وتوجيهه لبني إسرائيل من خلال وجوه عدة، منها ما يحدثنا عن تاريخهم القديم لنأخذ العبرة، ومنها ما تناول ذلك في معـرض ذكر الأنبياء والرسل الذين أُرسلوا إليهم والتوراة التي أُنزلت على موسى- عليه السلام-، ثم التّطرّق للحديث عن أساليب هذا التوجيه الذي يأتي في معرض المدح والذم لهم؛ لاستخلاص العظات والدروس.
خصائص التوجيه التربوي في الخطاب القرآني
وتتمثل خصائص وسمات التوجيه التربوي في الخطاب القرآني في العديد من المعاني، ومنها ما يلي:
- الربانية: فالتوجيه التربوي في خِطاب القرآن الكريم رباني المصدر من لدن عليم خبير: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه: 113) فهو وحي وتكليف من الله وليس من صنع البشر، فجاء خالدًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مُنزلًا من حكيم هاد.
- ثبات الأسس: تتميز التوجيهات التربوية بالثبات والخلود لأنها صالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس:64).
- الوضوح: تتسم التوجيهات التربوية بالبساطة وعدم التكلف وبما يتناسب مع الفطرة الإنسانية، قال تعالى: {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل:36).
- الشمول: تتميز التوجيهات التربوية بالشمول لجميع جوانب الحياة الإنسانية بهدف إصلاح شأن الإنسان والارتقاء به من خلال الدعوة للإصلاح لقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142) وشموله في التوجيه للفرد والجماعة مراعيًا مصلحة الطـرفين ولا تعارض بينهما، كما ورد في ألفاظه: اعبدوا، أوفوا، أتأكلون… إلخ.
- التوازن: راعت التوجيهات التربوية في خطاب القرآن، التوازن بين حاجات الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}. (القصص: 77).
- الواقعية: تعامل هذا التوجيه التربوي بواقعية مع النفس البشرية مراعيًا دوافعها وحاجاتها في حدود قدراته وطاقاته؛ لذلك تأمره بالتقوى لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286). وكما جاء في الهدي القرآني: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16).
- التطبيق العملي: يجسد التوجيه التربوي في كتاب الله، التطبيق العملي في الحث على العمل الصالح الهادف المبني على علم، قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: 88). وكما جاء في الهدي القرآني، قال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2)
- الاستمرارية: فقد عزز المنهج التربوي في القرآن الاستمرارية في الدعوة لكل من يحتاج إليها صغيرًا وكبيرًا وكذلك المجتمع، ويتضح ذلك في نصح إبراهيم- عليه السلام- لأبيه، ونوح عليه السلام لابنه، ودعوته لقومه ليلًا ونهارًا، قال تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (نوح: 9-10) قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43).
مجالات التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل
يرتكز التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل على أصول عقائدية وتهذيبية وتشريعية تتلاقي جميعًا في منهج تكاملي يُصلح من شأن الإنسان ويعمل على إسعاده في الدنيا والآخرة.
وقد تبيّن من خلال البحث في الآيات القرآنية ورود خِطَاب القرآن الكريم بصيغة بني إسرائيل في مجالات عدة تناولت الأدب التربوي في تاريخهم القديم، ومنها ما تناول الجانب الأخلاقي والفكري والاجتماعي أو غيره في معرض ذكر الأنبياء والرسل الذين أرسلوا إليهم، والتوراة التي أنزلت على موسى- عليه السلام-؛ وفي مجال آخر يرد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل عندما يحدثنا الحق عن التشريعات التي شرعها لهم.
وقد وَرَدَ- أيضًا- التوجيه التربوي بصيغة بني إسرائيل لليهود في زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أحوال مختلفة، لكل مجال منها جانبه التطبيقي التربوي، وذلك على النحو التالي:
أولًا: يرد التوجيه التربوي بصيغة (بني إسرائيل) حتى يحدثنا عن تاريخهم القديم لنأخذ العبرة والعظة التي نستمد من التعاليم القرآنية قيمتها بصفة عامة من حيث إنها موجهة إلى من يملك من الناس عقلًا راجحًا.
ثانيًا: يرد التوجيه التربوي بصيغة (بني إسرائيل) في معرض ذكر الأنبياء والرسل الذي أرسلوا إليهم والتوراة التي أنزلت على موسى- عليه السلام-؛ فقد أرسل الله لهم رسلًا فكذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم الآخر: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (المائدة: 70).
ثالثًا: يرد الخطاب القرآني بصيغة (بني إسرائيل) عندما يحدثنا الحق في محكم التنزيل عـن التشريعات التي شرعها لهم؛ ليذكرهم بحدود الله ونعمه عليهم؛ فقد ورد هذا الاسم عند ذكر أخذ العهود، والمواثيق منهم،: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (المائدة:12).
رابعًا: ويرد هذا الاسم في معرض بيان أن هذا القرآن يبين الحق الذي اختلف فيه بنو إسرائيل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76).
بهذا فقد اشتمل التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل على إشارات تربويـة لبيـان أهمية الانتباه في التوجيه والتعليم واكتساب المعرفة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37).
خامسًا: كما ورد التوجيه التربوي في الخطاب القرآني بصيغة بني إسرائيل لليهود في زمـن المصطفى- صلى الله عليه وسلم- منها: ما أطلق على الذين أسلموا منهم واتبعوا الحق وآمنوا بمبعثه وصفاته- صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الأحقاف: 10).
أساليب التوجيه التربوي في خِطَاب القرآن لبني إسرائيل
على هذا يُمكن إجمال أساليب التوجيه التربوي- على سبيل المثال لا الحصر- التي أمكن اشتقاقها من خلال الخطاب القرآني لبني إسرائيل على النحو الآتي:
- القدوة: يكتسب التوجيه القدوة أهميته من خلال كونه يقدم نموذجًا سلوكيًّا عمليًّا يوفر الجهد والوقت على المعلم ويتبع الفرص للمتعلم لاكتساب خبرات جديدة، كما ورد على لسان موس- عليه السلام-: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:142).
- أسلوب النداء الإقناعي: إنه نداء إقناعي مصحوب بالتودد وإثارة العاطفة، كما ورد على لسان هارون لموسى عليهما السلام: {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} (طه: 94). وكما ورد في خطاب إبراهيم- عليه السلام- لأبيه قائلًا: “يا أبت” أربع مرات، وفي هذا دلالة على الأدب والتوقير وتوظيف البعد الإنساني.
- توجيه الانتباه: ويشير التوجيه التربوي إلى خطأ ليصحوا من ضلالتهم، وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 47). وهذا نداء التنبيه والإنذار والتذكير.
- أسلوب التوجيه بالحوار: قد استخدم خِطَاب القرآن هذا الأسلوب عندما استخدم الأنبياء عليهم السلام أسلوب الحوار مع بني إسرائيل، فقال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 211).
- أسلوب التوجيه بالتوبة والاستغفار: إن التوبة والاستغفار أسلوب مهم في التعليم والتربية، وينفرد الفكر الإسلامي في فتح هذا الباب الواسع للمسلم ويجعله مفتوحًا إلى نهاية العمر. ويشير التوجيه التربوي إلى أساليب تغيير الذات وذلك بالاستعانة بالله، فقد جاء على لسان موسى- عليه السلام- لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (الأعراف: 128).
- أسلوب التوجيه ببيان الخطأ وإصلاحه: كما ورد في الحوار بين موسى- عليه السلام- وقومه: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138)؛ فموسى- عليه السلام- قد وجه قومه للإله الحق عندما انحرف فكرهم، فقد وجههم إلى خطئهم وقام بتصحيح مفهوم الإله عندهم فورا لأن التأخر في عملية التوجيه قد يضعف ويقلل تأثيرها على النفس الإنسانية.
- أسلوب التذكير بالنعم: كما جاء على لسان موسى لقومه: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (المائدة: 20). فلقد أمتن عليهم وذكرهم بأنه منحهم الحرية والنعم والملك بعد أن استكانوا للعبودية والذل.
إنّ التوجيه التربوي في الخطاب القرآني لبني إسرائيل حمل العديد من الأوجه، منه ما تحدث عن تاريخهم القديم لاستلهام العبرة منه، ومنه جاء على لسان الأنبياء والرسل الذين أُرسلوا إليهم، والتوراة التي أُنزلت على النبي موسى- عليه السلام-، كما شمل هذا التوجيه على خصائص، منها: الربانية، والوضوح، والشمول، والتوازن، إضافة إلى العديد من الأساليب، ومنها: النداء، والحوار، والتوجيه بالتوبة والاستغفار، وغيرها.
المصادر والمراجع:
- لافي محمد محمود زقوت: لغة الخطاب القرآني في بني إسرائل https://bit.ly/3CnZJPd.
- المراد بالخطاب في بني إسرائيل.
- المنهج القرآني في عرض قضايا بني إسرائيل.. المرحلة المدنية.