خلق الله الإنسان ويسر له التكاليف الشرعية التي أنزلها مع الرسل، كما أنزل الكتب للدلالة على الخير والهداية إلى أقوم السبل، وبيان المنهج الذي يصلحه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} {الملك: 14} رحمةً منه ولطفًا، ثم جعل له حرية الاختيار ليشكر أم يكفر: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُورًا} {الإنسان: 3}.
وقد شُرعت التّكاليف رحمة بالناس في الدنيا ونجاة وفوزًا في الآخرة، وراعت تكوين الإنسان الجسدي والنفسي والعقلي، كما راعت تقلبات الزمان وتغير الأحوال، كل ذلك تحقيقًا لمصلحته في الدارين ورفعًا للحرج.
مفهوم التكاليف الشرعية وسماتها
التكليف لغة: مصدر كَلّف. يقال كَلَّفَه تكليفًا أي: أمره بما يشق عليه، وتَكَلَّفْتُ الشيء تجشمته، ويُقَال: حملت الشيء تَكْلِفَةً، إذا لم تُطِقْه إلا تكلفًا، والكُلْفَةُ: ما يَتَكَلَّفُهُ من نائبةٍ أو حق، وكَلَّفَه أمرًا: إذا أوجبه عليه أو فرض عليه عملًا ذا مشقة.
وفي اصطلاح العلماء: “طلب الشارعُ ما فيه كلفة من فعل أو ترك بطريق الحكم، وهو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير”.
إذًا: فالتكليف إلزام ما فيه كلفة على المخاطب، إذ التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال، سواء كان الفعل طلبًا أو نهيًا.
ولقد جُبل الإنسان على حب الشهوات والملاذ الفانية، كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ} [آل عمران: 14].
والأحكام الشرعية فيها نوع من المشقة على النفس، خلافًا لمن يتتبع متع الحياة والركون إلى الراحة والاسترخاء خصوصًا في بداية سيرها إلى الله، وهذه المشاق منها ما هو عادي ملازم للحياة لا ينفك عن التكليف كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود ورجم الزناة ونحو ذلك.
أما المشقة التي تتجاوز الحدود العادية والطاقة البشرية السوية، كالتي تؤدي إلى هلاك المكلف أو ضياع إحدى الضرورات الخمس، فنحو هذه المشقات إنما هي مرفوعة عن الأمة، ولم يكلفنا الله بها، بل هي موجبة للرخصة.
أما المشاق العادية قد يستشعرها من هو في بداية الطريق إلى الله، أو لم يجد به السير، أما من اعتاد السير في دروب الهداية، وتوغلت نفسه بأنوار التكاليف الربانية، ستكون التكاليف والمشاق المصاحبة معها قرة للعيون وراحة للنفوس، ومن تأمل قوله- صلى الله عليه وسلم-: “أرحنا بها يا بلال” علم مقصود ذلك.
إذا، فإن التكاليف الشرعية محبوبة للمؤمن، إذ بها يتغلب على هوى النفس ويسعى في تزكيتها، ويمتثل أوامر خالقه ومعبوده، مستشعرًا بأن طريق الجنة محفوف بالمكاره كما قال- صلى الله عليه وسلم-: “حُفِّت الجنة بالمكاره، وحُفِّت النار بالشهوات” (ابن حبان).
وعليه: فإطلاق اللفظ من باب بيان امتثال المكلف للقيام بالتكليف طاعة ورجاء ما عند الله، والثواب والأجر ليس مترتب على شدة التعب، بل على إحسان العمل وتأديته كما أمر الله، بل لو وجدت المشقة تكون معتادة قدر وسع المكلف.
سمات التكاليف الشرعية وأوجه الرحمة فيها
وتتميز التكاليف الشرعية بسمات عن غيرها من القوانين والأنظمة، إذ إنها تهدف إلى إيجاد الفرد المستخلف القادر على القيام بالأمانة الموكلة إليه، مراعاة لحاله ووضعه، ولعل أبرز هذه السمات ما يلي:
أولًا: ارتباطها بالغايات:
ما يميز أي عمل أو تكليف ليس صورته أو مظهره، بل الغاية التي يريد تحقيقها، والمقصد الذي سيوصل صاحبه إليه، فليس الغاية من التشريع هو صورة الفعل فقط، فنجد قبول التكاليف من قبل الشارع مرتبطًا بغاياتها: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، ففي الصلاة: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
وفي الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وبعد أن بين سبيل الخير ونهى عن سبل الغواية ختم ببيان الغاية: {ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
والتكليف الذي لا يؤدي غايته ولا يحقق مقصده ليس لصورته قيمة في ميزان الشرع، بل صاحبه مذموم وإن أداه، قال تعالى ذامًا عددًا من المكلفين بسبب عدم تحقق مقاصد التكليف: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) ويمنعون الماعون} [الماعون: 4-7].
وقال- صلى الله عليه وسلم-: “من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. وقال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
ومن هنا ندرك أن قيمة التكليف يتحدد بتحقيق غايته ومقصده وإلا فلا قيمة له، قال تعالى مبينًا عاقبة الأعمال التي لم تحقق غايتها: {وقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23].
وقوله- صلى الله عليه وسلم-: “أتدرون من المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: “إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من سيئاتهم وخطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار” (مسلم).
ثانيًا: السهولة واليسر:
اليُسر مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى وغاية من غاياته، جعله الله منطلقًا لكل تكاليف الشّرع أمرًا ونهيًا، وأمرنا أن نلتزمه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185].
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: “{يُرِيدُ} أي: يحب؛ فالإرادة شرعية؛ والمعنى: يحب لكم اليسر؛ وليست الإرادة الكونية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بنا اليسر كونًا ما تعسرت الأمور على أحد أبدًا؛ فتعين أن يكون المراد بالإرادة هنا الشرعية، ولهذا لا تجد- والحمد لله- في هذه الشريعة عسرًا أبدًا”.
وشرعت أحكامه لتعتنقها البشرية بعيدًا عن العنت والمشقة، قال- صلى الله عليه وسلم-: “إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره”، (صحيح الأدب المفرد)، وفي لفظ: “إنكم أمة أُرِيدَ بكم اليُسر”، ولذا نجدها تتماشى مع الطبيعة البشرية التي تنفر من الصعب، وتمل من كثرة العمل، فنجد تنوعها زمانًا وشخصًا، وذلك بسبب ما فطرت عليه النفس البشرية من الضعف، وما رُكِّب فيها من الملل والتقلب قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].
ثالثًا: مرونة التكاليف:
أرسل الله محمدًا- صلى الله عليه وسلم- للناس كافة مكانًا وزمانًا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، واقتضت حكمته أن تكون شريعته صالحة مصلحة لأحوالهم، حسب حاجاتهم وقدراتهم، فتتنزل عليهم التكاليف مفصلة تفصيلًا كل بما يناسبه والأحوال التي تعيشها المجتمعات المختلفة.
وحكمة الله تعالى اقتضت تفاوت الناس في الفهوم والمدارك والقدرات، قال تعالى: {وهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165].
وانطلاقًا من يسره وسماحته، ورحمته بالمكلف انتشر الإسلام في أوساط المدعوين لما لمسوه من الرحمة عملًا وأثرًا، فمن أسباب انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، أنه دين بسيط، سهل القواعد والأصول، لا يحوج المتدين به بعد الإيمان بالوحدانية وفرائض العبادة إلى شيء من الغوامض التي يدين بها أتباع العقائد الأخرى، ولا يفقهون ما فحواها.
ومن تتبع أبواب الفقه الإسلامي وجد أن التكاليف لا تلقى هكذا، بل سيجد شروط القيام بها، والأعذار المسقطة، والموانع من القيام بالعمل سواء كانت داخلية أو خارجية، وأعذارًا أخرى خارجة عن قدرة المكلف كالجهل بالتحريم، ويترتب على ذلك رحمة الشارع به من حيث عدم إقامة الحدود عليه، ومنه سقوط العبادات وسائر حقوق الله تعالى السابقة على الإسلام، فلا يطالب بقضائها حتى على قول من يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ترغيبًا لهم في الإسلام، ولئلا تكون مشقة القضاء حائلًا بينهم وبين الإسلام.
مقاصد التكاليف وتفاوت درجاتها
تدور التكاليف الشرعية بين الأمر والنهي على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها، والأصل فيها قوله – صلى الله عليه وسلم-: “ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم” (مسلم).
وغاية هذه التكاليف تهذيب الإنسان، وتهيئته للقيام بالاستخلاف في الأرض، وتحقيق مصلحته في العاجل والآجل، فأمرهم “بتحصيل مصالح إجابته وطاعته، ودرء مفاسد معصيته ومخالفته؛ إحسانًا منه إليهم، وإنعامًا عليهم؛ لأنه غني عن طاعتهم وعبادتهم. فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه؛ وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه، وأخبرهم أن الشيطان لهم عدو ليجتنبوه ويعادوه ويخالفوه، فرتب مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته”.
ولذا سنجد النصوص الشرعية تعلل الأحكام، وتركز على غاية التكليف قبل أن تركز على صورته ومظهره، رحمة بالمكلف وسعيًا لتحقيق سعادته في الدارين، ولعل أبرز صور الرحمة في هذا ما يلي:
- دوام الصلة بالله: فالارتباط الدائم بالله نعمة ومنة كبيرة من الله، فأبرز عنوان الارتباط هو القيام بما أمره الله أن يقوم به، والاستمرار على الطاعة إلى النهاية وإن كانت قليلة، قال – صلى الله عليه وسلم-: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ” (البخاري).
ومن رحمة الله بالمكلف أن الأوامر والنواهي الشرعية، ليست على درجة واحدة، وليست في الأهمية سواء: “فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية، ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد”.
ونتيجة لهذا التفاوت، يجب على المكلف في نفسه، وعلى المجتهد في اجتهاده، أن يراعي هذا الترتيب، وهذا التفاوت، في فهم الأوامر والنواهي الشرعية، فينزل كل شيء منزلته، ويقدم ما حقه التقديم، وتأخير ما حقه التأخير، وإعطاء الأولوية في القيام بالتكاليف بحسب درجاتها ومكانتها ووقتها.
وأما إذا أهملنا هذا النظر- وقد اعتبره الشارع- فإننا سنقع في أغلاط جسيمة، وحرج كبير، فضلًا عن مخالفة هدي الشارع بإهمال مفاضلته وترتيبه، فليست الأوامر الشرعية بالدرجة نفسها وتعطي الحكم نفسه، وكذلك الشأن في النواهي. وحتى بالنسبة للأوامر التي تفيد الوجوب، والنواهي التي تفيد التحريم، ليست على درجة واحدة. فالواجبات الشرعية درجات، والمحرمات كذلك.
ونتيجة لهذا التفاوت ندرك وجوه الرحمة في ذلك، والتي من أبرزها ترتب الأجر على حسن العمل لا مشقته وكثرته؛ فقد رتب الله الأجر على حسن العمل لا كثرته أو مشقته قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
ولقد فاضل الشارع بين التكاليف بما ينسجم ومصلحة المكلف، ووازن بين حاجات الإنسان الجسدية والمعنوية، وبين القيم المادية والقيم الروحية. وبين النبي – صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بقوله: “إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا” (النسائي).
ومن خلال هذا التوازن، وهدي الإسلام القائم على الرحمة واليسر، نستطيع القول: إن الإسلام لم يحرم شيئًا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته، كما لم يُبِح له شيئًا يضره في الواقع، كما قدر الظروف التي تعترض حياة الإنسان، وتضغط عليه، وراعاها زمانًا وشخصًا ومكانًا قال تعالى: {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنزِيرِ ومَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 173].
مآلات لتكاليف الشرع وأوجه الرحمة فيها
من أهم ما يتعين على المكلف، وخصوصًا من يتصدر للفُتْيَا، إدراك وفهم قواعد الشريعة الكلية، ومقاصد التشريع وغاياته التي يتوقف عليها تنزيل الأحكام دون إفراط أو تفريط، فمن تصدر للفُتْيَا، وأغفل هذا الباب أوقع الناس في الحرج المرفوع شرعًا، وليس من الفقه في الدين الجمود على ما كتبه السابقون، مراعاة لوقائع معينة، أو أعراف، ومن ثم تنزيل تلك الأحكام على وقائع غير تلك الوقائع، وأعرافٍ وعوائد تغيرت واختلفت.
قال القرافي رحمه الله: “فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك.. والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية” وتتبين أوجه الرحمة من خلال النظر في مآلات التكاليف الشرعية فيما يلي:
- النظر في مآلات الأحكام الشرعية يساعد في فهم تنزيل الأحكام، ويجنب المكلف كثيرًا من الحرج، وكذا المجتمع من حوله، فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟! فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء! فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي- صلى الله عليه وسلم- أُخبر بذلك، فقال: “قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب- شك موسى- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده” (أبو داود).
ففي هذا الموقف يرشد النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى أداة مهمة من أدوات التعلم؛ ألا وهي سؤال أهل العلم؛ إذ أن الجمود يورث المشقة والعنت بالمكلف، قال الإمام الخطابي: “في هذا الحديث من العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب عليهم الفتوى بغير علم بتسرعهم في الإجابة، وقد كانوا صحابة فضلاء من أهل العلم والصلاح والتقوى، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتلة له، وهذا يدل على ارتكابهم كبيرة وهي التعجل في الفتوى، وهي محرمة”. فالنظر إلى مآلات الفعل يورث الرحمة بالمكلف، وعدم تكليفه بما لا يطاق، أو بما يؤدي إلى إتلاف نفسه كما في الحديث السابق.
وهذا النظر قائم على مراعاة أحوال المكلف، فلا يجوز للمفتي أن يغفل عنه، ولأهمية هذا الموضوع، ترجم الإمام البخاري في صحيحه باب: “من ترك بعض الاختيار؛ مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه”، ثم أورد حديث مختصرًا بلفظ: “يا عائشة! لولا قومك حديث عهدهم- قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون”.
- إباحة بعض المحرمات بناء على النظر في المآلات؛ كجواز الأكل والشرب مما حرمته الشريعة كالميتة والخمر إذا اضطر الإنسان إلى أكلها أو شربها، لعدم وجود غيرها، وخاف الهلاك على نفسه، فإنه يتناول القدر الذي يدفع به الضرر والهلاك قال تعالى: {ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119].
وكالنطق بكلمة الكفر: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ولَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، وهذا الأمر مبني على مراعاة مآلات الأفعال؛ فإن المفسدة بهلاك النفس أعظم من المفسدة بأكل المحرم أو شربه، والمصلحة بحفظ النفس أعظم منها بترك أكل المحرم وشربه. وهكذا سائر الأفعال والأقوال كل مؤداها رحمة الشارع بالعباد وغايتها الامتثال والطاعة.
وهكذا، فإن التكاليف الشرعية شُرِّعت رحمةً بالمكلف؛ فراعت تكوينه الجسدي والنفسي والعقلي، كما راعت تقلبات الزمان وتغير الأحوال، وبنت في المكلف قيم الاستخلاف في الأرض والوعي بقضايا الحياة المختلفة، كما أن التنوع في التكاليف زمانًا وشخصًا، يتماشى مع الطبيعة البشرية التي تنفر من الصعب، وتمل من كثرة العمل، وذلك بسبب ما فطرت عليه النفس البشرية من الضعف، وما رُكِّب فيها من الملل والتقلب.
المصادر والمراجع:
- ابن منظور: لسان العرب، 9/307.
- الخطابي: معالم السنن، ص 104.
- القرافي: أنوار البروق في أنواء الفروق 1/177.
- يريد الله بكم اليسر
- الدكتور يحيى مقبل الصباحي: دراسة بعنوان “ملاءمة التكاليف الشرعية للمكلف وأوجه الرحمة فيها”.