تتعامل التقوى وفق المقياس الإسلامي مع كل مفردات الحياة فردية كانت أو اجتماعية، فهي بهذا تُمثل حالة تربوية شاملة تعمل على صون الذات وتحقيق نموها، بما يُفضي إلى التورع والاجتهاد في السير على الطريق القويم بأقصى قدر مستطاع.
وهي منهج سلوكي يقوم على إيثار الآخرة، وعدم الطغيان، ووقوف الإنسان أمام أهوائه بالصدق وتحرى الحقيقة ونشدان الحق والسعي لبلوغ الاستقامة وتحصيل السداد، وممارسات حيوية تستمد أصالتها من عُمق الخشية ودوام التعبد لله والالتزام بتعاليمه وأحكامه، وهي حالة روحية قوامها الاستشعار الدائم بأن الله تعالى رقيب على كل شيء.
التقوى وأثرها التربوي في سلوكيات الاختلاف
إنّ إقامة المسلم للفروض والطاعات وممارسة التفكير والخشية والدعوات، واستحضاره الدائم ليوم الحساب، إنما يمثل تربية تنعكس ولا شك على السلوك في مختلف الاتجاهات، ومثل هذه التربية بطبيعتها، وبحكم ما تستخدمه من وسائل عبادية وتأملية، ستجعل من الذات مركزًا لفعل الوقاية والتطهير والمجاهدة، ما يمنحها دورًا مهمًّا في تحديد نمط العلاقة مع الآخرين في مختلف الحالات.
فإذا جئنا إلى حالة الاختلاف التي يمكن أن تنشأ مع المسلم الآخر فيمكننا أن نتوقع مساراتها من خلال معرفتنا بأن الانشغال بعيوب الذات والتوجه نحو اتهامها ولومها- بصفته المنطلق الذي تؤكده التربية الروحية: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحمَ رَبِّي} (يوسف: 53)- سيوفر بطبيعته مناخًا يدفع إلى التركيز على عيوب الذات وأوجه قصورها قبل التركيز على عيوب الآخرين وأوجه قصورهم.
ومن أبرز ما قد تتمخض عنه التقوى سلوكية الزهد، الذي هو الاستغناء بالله عن أي شيء، استغناء يمنح القدرة على التحرر والتحكم وامتلاك ناصية التعالي على الغوايات والفتن وزخرف الأشياء.
والمنطلق الأساس للتربية على الزهد هو التبصير بحقيقة الدنيا بصفتها مرحلة عابرة ودار فناء أدنى من أن تمتلك القلب الذي آمن بالآخرة وبالحساب: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل} (التوبة: 38).
وبهذا تجري المساعدة على مواجهة دوافع المنافسة والشهرة والبحث عن المصالح والاستئثارات النفعية التي كثيرًا ما يختفي وراءها الاختلاف المذموم.
ولا شك أن الاتجاهات التفريقية تزدهر كلما ازدهرت هذه الدوافع التي يسعرها احتدام التضاد. وليس الاختلاف حول المسائل الفرعية أو الهامشية في حقيقته إلا حالة يعيشها ضعاف الورع وقليلو المعرفة ممن تقودهم تلك الدوافع التي قد تتلبس أردية الدين وتوهم بالدفاع عن مقتضياته.
إن التربية على الترفع والامتلاء بحقيقة أن: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبْقى} (القصص: 60) كفيل بوقاية المرء من الانجراف إلى مثل تلك الاختلافات التي لا طائل من ورائها.
والبساطة والتواضع والابتعاد عن الكبر والغرور وتجنب تزكية الذات- وهي من صفات الشخصية الزاهدة- من شأنها أن تمنح القدرة على قراءة الآخر وتفهمه بشكل موضوعي أمين، وكلما نمت مشاعر الزهد وترسخت سلوكياته كلما برزت ملكة التحفظ وسلوكية مراعاة الآخرين.
وبالتالي فإن أي اختلاف يجري في إطار الشخصية الزاهدة لا يتحرك إلا ضمن الأهداف السامية وما يمليه الشعور بواجب إيضاح الحقائق أو الدفاع عنها، أو بما تقتضيه ضرورات إثراء الحوار المفيد.
التقوى ومبدأ المسؤولية الإنقاذية
التقوى ليست صفة احتكارية، فالمؤمن الحق يسعى إلى إشاعة شروطها في معتقدات الناس وسلوكياتهم كافة، وما تحمل تبعات الدعوة والإرشاد عند المؤمن إلا تعبير عن الشعور بالناس وبالمسؤولية الإنقاذية اتجاههم.
والشعور الإنساني إزاء الآخرين ينطوي على (المحبة) التي تدفع إلى (الإحسان)، قال تعالى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْملُونَ خَبِيرًا} (النساء: 128). كما أن التعود على الإحسان ينطوي ضمنًا على فضائل (التقبل) و(المراعاة) و(التسامح) التي تشكل مفردات ضرورية في ضبط سلوكيات الاختلاف بخاصة في الحالة التي قد يلحق بها المرء سوء فهم أو يجابهه أثناءها خطأ قد يصدر بحقه من قبل الآخرين.
لهذا فإن المتقي الذي يتعمق لديه ذلك الشعور لا يستهدف فضح المخالف أو تعريته، وهذا ما كان يُعلّمه الرسول لأصحابه حتى في لحظة إقامة الحد على من أخطأ، حيث ردّ على مَن قال عمن أقيم عليه حد شرب الخمر (أخزاك الله) بقوله: “لا تعينوا عليه الشيطان”.
إن التنشئة على تحمل مسئولية الهداية ستطبع المؤمن على ألا يدير اختلافاته مع الآخرين إلا بمبررات شرعية أو موضوعية، ولا يتبع معهم إلا الحكمة والمنطق والموعظة الحسنة ولا يجادلهم إلا بالتي هي أحسن، وبالتالي فإنه لا يكون مسرورًا إذا ما خسر الآخرون فرصة معرفة الحقيقة أو رؤية الطريق المؤدي إليها ولو بعد حين.
لهذا لا تجتمع تقوى مع نزعة إقصاء تستعجل إصدار الأحكام الباترة لمجرد الاختلاف في فهم أو تفسير أو اجتهاد، ففي ظل التربية على الشعور بمسؤولية الهداية والإنقاذ سيترسخ منطق التعامل السليم مع موضوعات الاختلاف ومفرداته، بحيث لا يطغى فرع على أصل، ولا جزئية على كلية، ولا هامش على متن.
أخلاقيات الاختلاف
ومن الأهداف العامة للتربية الإسلامية بناء الفرد المسلم السليم القلب المُبرء من خبث الدوافع وسوء المسالك وفساد الغايات الذي تحكم اتفاقاته واختلافاته القيم الأخلاقية المتصلة بهذا الخصوص.
ويُعد الصدق والأمانة من أبرز تلك القيم، سواء كان ذلك مع النفس أو مع الآخرين، وتتجلى أهمية الالتزام بهاتين القيمتين فيما تبلوره من سلوك يأبى الكذب والافتراء والتقول والتجني والبهتان والتحايل والتزوير والتحريف ضد الآخرين، إذ لا يُمكن لمن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى أن يجعل من تلك الوسائل مبررات لبلوغ الغايات أو تحقيق المآرب.
أما قيمة العدل التي يقررها الإسلام في تنظيم علاقة المسلم بالآخرين فتضعها التربية الإسلامية في أعلى سلم قيم التعامل، حتى في الحالة التي يبلغ فيها الاختلاف مع الآخر حدود العداوة فالعدل قيمة حاكمة في كل حال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8).
وتعد عفة اللسان ذات أهمية بالغة في ضبط سلوكيات الاختلاف، فمن يتحلى بهذه الصفة لا يلجأ مع غيره إلى أساليب اللعن أو السب أو الإقذاع أو التحقير أو استخدام الألفاظ الجارحة أو السخرية أو الهمز أو اللمز أو تتبع العورات أو الجهر بالسوء دون حق، ذلك أن الغاية التي يسعى إليها المختلف الملتزم لا تبرر له مثل هذه الأساليب.
وإذا جئنا إلى خصلة التواضع فيمكننا القول، إن مَن يتحلى بها مُحصن من لوثة الادعاء والتعالي والزهو على الآخرين: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} (لقمان: 18)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوصى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد” (مسلم)، وما من شك في أن الاغترار والعجب برأي أو اجتهاد مدعاة لحجب الرؤية التي تحول دون الاعتراف بالآخر واستبعاد اعتباره من أهل الرأي أو الصواب، وفي ذلك استبداد يأباه خلق التواضع والتعامل السليم.
ومن الأخلاقيات التي أكدتها التعاليم الإسلامية؛ الرحمة قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} (آل عمران: 159) ففي ظل التنشئة على الرحمة تنبع سلوكية الرفق، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع عن شيء إلا شانه” (مسلم).
أما التسامح فهو النقيض الجذري للتعصب والاستبداد، ويرتبط بمعاني الرحابة والصفح والعطاء، وتأكيد حق المغايرة، والتعايش مع الآخر على المستويين الفكري والاجتماعي، وهو كقاعدة من قواعد السلوك يرتبط بنسبية المعرفة حتى في دائرتها الدينية على اعتبار أن ما يجري في استنباط أو تأويل أو اجتهاد خارج ما هو قطعي من الدين لا يمثل إلا محاولة لا يملك أحد الادعاء بأنها تمثل الحقيقة الدينية المطلقة، لهذا لا بد من تقدير الآخر وقبول حضوره في الساحة دون مصادرة أو تعسف أو إقصاء.
وإنه لمن التقوى التحرز في إصدار الأحكام القاطعة ضد المغايرين في الإطار المذكور، والتعود على ترك ذلك إلى الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (الإسراء: 84)، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} (المائدة: 105).
والاختلاف أيًّا كانت موضوعاته أو مفرداته يتيح بطبيعته المجال للعواطف أن تتسرب لتغطي بألوانها جوانب معتبرة من مساحات الاختلاف، وعلى نحو قد يمس بشكل سالب مبادئ العدالة والموضوعية وحسن التعامل.
ومن تجليات الضبط العاطفي لدى أهل التّقوى امتلاكهم أنفسهم وكبحهم جماحها حتى في لحظات تحقق الانتصار، فالانتصار في جدل أو مناظرة أو حوار أو حتى فيما هو أبعد من ذلك حين يكون مع مسلم لا يمكنه أن يتحول إلى حالات من الزهو أو الغرور أو التشفي، ناهيك عن البغي أو الطغيان.
ولقد ضرب الإمام على بن أبي طالب القدوة الحسنة في هذا المستوى من الضبط في مختلف مواجهاته، فمثلًا حين سمع قومًا من أصحابه يسبون أهل الشام إبّان معركة صفين نهاهم عن ذلك، وقال لهم: “إني لأكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم؛ حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به”.
إن التربية على التقوى من شأنها في النهاية أن تروض على سلوكيات الصبر والتواصي بالحق والبعد عما من شأنه أن يؤدي إلى إحداث الوقيعة والشقاق، وهي بمضامينها وأبعادها الروحية والأخلاقية والفكرية تمثل تربية مميزة لها من المعطيات ما تنضبط في سياقها حالات الاختلاف وتترشد في إطارها سلوكياته على النحو الذي يضعها في مقدمة العوامل الأساسية التي تسهم في حل إشكاليات الاختلاف والوحدة على النحو السليم.
المصادر والمراجع:
- الدكتور علي القريشي: دراسة بعنوان “التقوى وإشكاليات الاختلاف والوحدة في الإطار الإسلامي.. دراسة تربوية” 2000.
- عبد الرحمن حللي: مفهوم التقوى والمنظومة الأخلاقية القرآنية: البنية والسياق.
- رضا الله غايتي: التقوى وأثرها في تقبل الأعمال.
- الدكتور إبراهيم المرشد: التقوى وأثرها في حياة الداعية.
- رشا محمد عبد الحليم: التقوى وأثرھا في سلوك المسلم من خلال القرآن الكریم.