لقد حضّ الإسلام على التفكير الإبداعي واستخدام العقل والحواس في إدراك الحقائق، فسَبَقَ بذلك الثقافات الأخرى التي لم تنهض العلوم فيها إلا بعد الثورة على القيود الدينية المُفتعلة والتي كانت تعوق التفكير العلمي.
وَوَرد في القرآن الكريم آيات عديدة تدعو إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفي الوقت نفسه تُحذر من اتّباع الآباء والأجداد بلا حجة ولا برهان، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وتوعد الله – عز وجل- أقوامًا آخرين انساقوا وراء شهوات أنفسهم، ولم يستخدموا عقولهم وحواسهم التي حَبَاهم الله بها، فكان ذلك سببًا في تعرضهم للعذاب الشديد يوم القيامة، قال – جل شأنه-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]
تعريف التفكير الإبداعي
ويُعرف التفكير الإبداعي في اللغة، بأنه ابتداء الشيء من غير أصل أو مادة، أو صنعه على غير مثال سابق، وبدع الشيء، أبدعه بدعا، وابتدعه يعني: أنشأه على غير نظير، والبديع هو المبدع الذي يحدث الأشياء على غير مثال.
وقد يوصف الشيء “الجديد” بأنه بديع، والبديع من أسماء الله تعالى لابتدائه وإحداثه الكون وما فيه ومن فيه على غير مثال، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ …} [البقرة: 117]، أي خالقها ومبدعها لا من مثال سابق.
ويُميز ابن سينا في كتاب الشفاء بين الإبداع وهو إيجاد شيء غير مسبوق، وبين الصنع أو الاختراع الذي هو إيجاد شيء مسبوق، أو تكوين شيء جديد من عناصر سبق وجودها.
ويمثل الإبداع من المنظور الفلسفي مفهومًا عامًّا يشتمل على كل من “التكوين”، أي الوجود المادي الجديد على غير مثال سابق، و”الإحداث”، أي حدوث الشيء أو الفكرة في لحظة معينة من الزمان لأول مرة.
أي أن الإبداع هو إيجاد شيء جديد غير مسبوق بمادة أو بزمان، وهو في هذا على العكس من التكوين أو الخلق أو الاختراع، الذي يتم فيه إيجاد أو تقدير شيء جديد من عناصر سبق وجودها قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، لأن الحدوث هو كون الشىء لم يكن، وأحدثه الله فحدث، أما الإبداع أو عدم السبق بالزمان فهو حدوث الشيء أو الفكرة في لحظة معينة من الزمان لأول مرة.
ويُمكن تعريف الإبداع لدى البشر بأنه القدرة على التفكير الذي يتسم بالخبرة والمهارة والأصالة والمرونة والطلاقة، وتتوفر هذه القدرة بدرجات متفاوتة لدى معظم الأشخاص الأسوياء، كما تتوفر بدرجات مرتفعة لدى المبدعين من العلماء المخترعين والأدباء والشعراء.
التفكير الإبداعي وجذوره في التربية الإسلامية
إنّ الإبداع أو التجديد والاجتهاد وإطلاق الطاقات الخلاقة ليس غريبًا على الأمة الإسلامية، فهو من أهم سماتها وازدهارها في عصور نهضتها، عندما كانت تأخذ بأسباب التفكير الإبداعي في العمل والسلوك والإنتاج، بمختلف مواقف الحياة الفردية والاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية والعلمية والتشريعية والفقهية.
وتمثل الإبداع في الحضارة العربية والإسلامية في إطلاق طاقات التجديد والاجتهاد دون قيد على العقل، إلى الحد الذي ينال فيه المجتهد أجرًا إذا أخطا بشرط الالتزام بإطار أخلاقي، فلا يحكمه الهوي وإنما يحكمه الضمير الواعي بمسؤوليته الإنسانية عن توجيه طاقات الإبداع لدى الأفراد والجماعات توجيهًا بنَّاءً؛ لأن من أبدع بدعة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن أبدع بدعة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
فالتفكير ليس غريبًا على روح التربية الإسلامية التي تضيف إلى الإبداع بعدًا خُلقيًّا لا يُقيد الطلاقة والإبداع، وإنما يوجه استخداماته بشكل يثري حياة الإنسان ويرفع من قدره.
وإذا كانت الدراسات الحديثة عن الإبداع تُقرر أنه لا يكفي أن تكون الفكرة جديدة حتى تكون إبداعية، حيث لا بُد أن تتوفر لها خاصية الملاءمة للموقف، والكفاءة وإلا اختلط الإبداع بالخرافة بل وبالجنون، فإن التربية الإسلامية قد أضافت خاصية أخرى للعمل الإبداعي ليكون ملائمًا تتمثل في دعم الإنتاجات الإبداعية للقيم والتوجهات الإنسانية والخلقية، وإلا صار الإبداع قوة هائلة بلا قلب أو عقل رشيد، وهو ما يعاني منه عالمنا المعاصر، الذي تُسخر فيه الإنتاجات الإبداعية عظيمة القوة ضد القيم وضد الشعوب المستضعفة.
مظاهر عناية التربية الإسلامية بالإبداع
لقد أدّت سيادة روح التفكير الإبداعي والاجتهاد والتجديد وحرية البحث العلمي إلى ازدهار المجتمعات الإسلامية، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، التي امتد إشعاعها إلى جميع أنحاء العالم.
وإذا كانت نهضة العالم الإسلامي قد ارتبطت بازدهار العلوم الكونية – جنبًا إلى جنب مع ازدهار العلوم الشرعية، فقد كان هذا لأن علماء المسلمين كانوا يرون أن في سعيهم للتفوق في العلوم الكونية طاعة لأمر الله تعالى بتدبر سنن الكون وتسخيرها لمصلحة الإنسان، ما جعلهم يحملون لقرون عديدة لواء هذه العلوم.
ونظرا لوضع المجتمعات الإسلامية في هذا العصر الذي تسوده علوم الكون وتطبيقاتها، دون التزام في معظم الأحيان بالأخلاق الفاضلة، فإنّ الحاجة ملحة للتذكير بالدور الحضاري لنهضة المجتمعات الإسلامية في مختلف أوجه الحياة بوجه عام، وفي العلوم الكونية بوجه خاص، لما يحتاجه العالم المعاصر من الجمع بين كل من التقدم المادي والالتزام بأخلاق الفضيلة والعدالة والتراحم.
لهذا نعرض هنا لنماذج من الإنجازات العلمية لبعض علماء المسلمين في عصر النهضة الإسلامية التي صاحبها ازدهار للعلوم الكونية وتسخيرها لمصلحة الإنسان، مع احتفاظها بطابعها الأخلاقي الفريد الذي شهدت به الدنيا، وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأخلاقِ”، (مسند أحمد).
جابر بن حيان (۱۰۲ – ۱۹6هـ): هو أبو الكيمياء لأنه حوّل هذا العلم إلى علم طبیعي تجریبي موضوعي، يعتمد على التجريب والقياس، سماه “علم الميزان”، وهو صاحب نظرية أن كل المواد القابلة للاحتراق، والمعادن القابلة للتأكسد، تتكون من أصول زئبقية وكبريتية وملحية (وهي نظرية الفلوجستين) التي لم يعرفها العالم إلا بعد جابر بألف سنة، وهكذا كان في كثير من اختراعاته.
الخوارزمي، المتوفى عام 232هـ – 836م: درس الرياضيات على يد ثلاثة من كبار علمائها، وبعد أن أجيز عينه الخليفة هارون الرشيد – بناء على توصية أحد أساتذته- عالما للرياضيات في بيت الحكمة. وكان الخوارزمي يرى حاجة العلوم الإسلامية الشرعية إلى تعلم الرياضيات، لأهميتها لكل من: فقه المواريث والبيع والشراء والرهن والوقف والإيجار والمزارعة، وتحديد مساحة الأراضي، والهندسة، وغيرها.
وبعد جهد في الاطلاع على أساليب الأمم السابقة في التعبير عن الأعداد وخاصة الهنود ، ابتكر منظومة الرقم العربية (1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 0) واخترع المنظومة العشرية للأرقام العربية.
الحسن ابن الهيثم، (354- 431 هـ): وهو عالم الفيزياء والرياضيات الذي درس تشريح جهاز الإبصار فأبدع في دراسته إلى حد أن بعض الباحثين يرى أن أعظم الإسهامات دلالة وأكثرها ابتكارا في مجال تشريح العين وجراحتها، لم يأت من أطباء العين وجراحيها، بل من أعمال ابن الهيثم الفيزيائي الرياضي.
وقدم ابن الهيثم عددا من الإبداعات منها: حل معادلة من الدرجة الرابعة عرفت باسم “مسألة ابن الهيثم”، ووضع أربعة قوانين في حساب مجموع الأعداد الطبيعية ومجموع مربعاتها، ومكعباتها والقوة الرابعة، وتوصل إلى قوانين صحيحة لمساحات الكرة والهرم والأسطوانة والمنطقة الدائرة، كما قدم طريقة تثليث الدائرة، وتربيع الدائرة، وطريقة إثبات قانون الانكسار الأول في الضوء، وتلقاها عنه علماء الغرب مثل ديكارت وفرمات ونيوتن وأثبتوا بها قانون الانكسار الثاني.
هذه بعض نماذج من إبداعات علماء المسلمين التي أثرت ۔ بأطرها النظرية وتطبيقاتها العملية – المجتمع الإسلامي وامتد إشعاعها إلى جميع أنحاء العالم، الذي نهل منها، واتخذ منها خطوة نحو النهضة العلمية الحديثة.
ونستطيع من خلال استعراض هذه الإبداعات العلمية، الوقوف على أهمية التربية الإسلامية في الآتي:
1- التشجيع على اكتشاف قوانين وسنن الله في الكون والأنفس وتسخيرها لمصلحة الإنسان.
٢- التشجيع على الاستفادة من علوم الثقافات الأخرى ومعارفها ومهاراتها، ثم هضمها وإعادة تشكيلها وابتكار حلول جديدة للمشكلات المتجددة.
٣- تكاد تشترك معظم سير العلماء المسلمين المبدعين في وجود أسرة ميسرة للعلم ومشجعة للإبداع، ومحيط اجتماعي مساند على عملية التعلم والابتكار.
4- كل المبدعين من علماء المسلمين بدأوا حياتهم بتعلم أساسيات التربية الإسلامية، المتمثلة في حفظ القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- واللغة العربية قراءة وكتابة، ومبادئ الخط العربي ومبادئ الحساب.
5- سبق الإبداعات العلمية لعلماء المسلمين – وصاحب هذه الإبداعات، إبداعات رائعة في العلوم الأساسية التي تمثل جوهر التربية الإسلامية.
6- تحقق علماء المسلمين بالرؤية الإسلامية للتعليم.
7- لا يوجد تعارض بين أن يكون الإنسان عالمًا وفي الوقت ذاته متدینًا.
۸- لا تعرف التربية الإسلامية الأصيلة، أنواع الثنائيات التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، ما يتمثل في وجود وجود تعلیم دیني، وآخر علماني.
السمات الشخصية وعلاقتها بالإبداع
لاحظ كثير من العلماء والتربويين المهتمين بقضية التفكير الإبداعي أنّ الأشخاص فائقو القدرة على الإبداع لا يختلفون عن باقي الأشخاص الأسوياء من حيث نوع العمليات العقلية التي يقومون بها، لكن الاختلاف من حيث قدرتهم على تفعيل هذه العمليات، ودافعيتهم لمواصلة الإبداع، والبيئة الاجتماعية الداعمة للإبداع.
على الجانب الآخر، أدى ظهور أنماط من السلوك الغريب لدى بعض المبدعين، إلى الربط بين الإبداع والاضطراب النفسي، وحاول بعض الباحثين دراسة السمات الشخصية المميزة للمبدعين من خلال مقارنة مجموعات من المبدعين في مختلف فروع العلم والمعرفة الإنسانية بالجمهور العام، على أساس مقاييس للسمات المزاجية للشخصية.
ومن البحوث التي أجريت لدراسة السمات الشخصية المميزة للمبدعين بحث في جامعة كاليفورنيا على عدد البارزين من العلماء في مجالات: علم الحياة، وعلم الطبيعة، وعلم النفس، بالمقارنة بكل من الجمهور العام وجمهور طلبة الجامعات من الكليات نفسها التي تخرج فيها هؤلاء العلماء، وتبيّن من هذا البحث ارتفاع السمات الشخصية التالية لدى العلماء البارزين المبدعين: الميل إلى المخاطرة، والاكتفاء الذاتي، والميل إلى الاستقلال وعدم الانصياع للآخرين.
هذا في الوقت نفسه الذي ارتفعت لديهم درجات مقاييس تمثل جوانب للاضطراب النفسى مثل: الحساسية الانفعالية، والانسحاب الاجتماعي، وعدم الاستقرار الانفعالي.
وأجري بحث مشابه على عددٍ من الكتاب والفنانين، للتحقق من الفروق بين سمات الشخصية لديهم وبين الجمهور العام، وكانت نتائج هذا البحث هي نتائج البحث الآخر نفسه تقريبًا.
وهذه النتيجة تؤكد أن الأشخاص المبدعين يتميزون بالسمات المزاجية الإيجابية مثل: توكيد الذات، والاستقلال، وقدر ملائم من الاتزان الوجداني، إلا أنهم – في الوقت نفسه- يتسمون بالحساسية الانفعالية، وبعض الخصال التي تجعلهم أقرب إلى الاضطراب الوجداني، ما يُمثل نوعًا من الألغاز النفسية.
وفي بحث آخر أُجري لتحديد العلاقة بين الصحة النفسية والإبداع لدى مجموعة من الأدباء المبدعين، وبين الجمهور العام، انتهى إلى استخلاص أنّ الأدباء المبدعين يبدون من الناحية النفسية أكثر صحة من عامة الناس، إلا أنهم في الوقت ذاته أكثر اضطرابًا منهم، وهى النتائج نفسها التي توصل إليها بحث آخر أجري للمقارنة بين مجموعة من المهندسين المعماريين الأكثر إبداعا، وبين مجموعة المهندسين الأقل إبداعا.
وقد أوجز الإمام الشافعي ملامح الخصال المرتبطة بأبعاد الإنجاز العلمي الإبداعي في البيتين التاليين:
أَخي لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّةٍ *********** سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ
ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ *********** وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ.
وتثير هذه النتائج عددا من الإيحاءات التربوية والاجتماعية بالغة الأهمية، يمكن الإفادة منها في تنشئة الأبناء في الأسرة والمدرسة أو التنشئة الاجتماعية والسياسية للأشخاص من خلال وسائل الإعلام بوجه عام، وتنشئة المبدعين بوجه خاص، حيث إن هذه النتائج تؤكد أن الاسترخاء والدعة وعدم شعور الأفراد والجماعات بأي توتر أو خطر، يضعف الهمة، ويقلل الدافع للتعلم والإنتاج بل ويؤدي إلى الغفلة التي قد تهلك صاحبها.
وعلى العكس فإن المبالغة في تصور المخاطر ومصادر التهديد، يُوقع في اليأس ويمنع المبادأة، أما توفر حد أمثل متوسط غالبا – من التوتر – فيشحذ الهمة، مع التمتع بالثقة بالنفس التي تساعد على مواصلة الجهد، مما يمكن من متابعة السعي للتوصل إلى حلول إبداعية.
طرق التفكير وعلاقتها بالإبداع
ولقياس التفكير الإبداعي لدى الأفراد يجب التمييز بين نوعين من التفكير يعتمد عليهما حل المشكلات هما: التفكير الالتقائي التقريري الذي تعتمد عليه اختبارات الذكاء، وتعتمد عليه – غالبا- اختبارات التحصيل الدراسي، وبين التفكير الافتراقي التغييري الذي يعتمد عليه الأداء الإبداعي في مختلف المجالات الأدبية والفنية والعلمية، بل وفي كل مواقف الحياة.
وفيما يلي مقارنة بين أهم خصائص التفكير التقريري الالتقائي والتفكير التغييري الافتراقي، فالأول محدد ويتجه في مسار واحد، ويفحص موضوعات محددة، ولا يطالب الشخص بالتجديد، وإنما يطالبه بالدقة ويعاقب مَن يجيب إجابة غير متوقعة، كما يعتمد على التذكر والاسترجاع والتقليد والاتباع، وعلى الشخص أن تظل أهدافه نصب عينيه طوال الوقت.
أمّا التفكير الافتراقي التغييري فينطلق في اتجاهات متعددة، ويبحث أكبر عددٍ من الأفكار، ويسمح للشخص، أن تمتد أفكاره إلى أكبر عددٍ من الموضوعات، ويتطلب التعامل بطرق مبتكرة مع رموز اللغة والأرقام وعلاقات الزمان والمكان، كما يعتمد على التجديد ودمج الأفكار والابتكار والاختراع، والاهتمام بالتركيز على التوليف بين أشياء مختلفة حتى إذا لم تبد على صلة مباشرة بالهدف.
الإبداع وحاجتنا إليه
تعاني العديد من الدول العربية والإسلامية، من مشكلات كثيرة في مختلف القطاعات؛ التربوية، والتعليمية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، ومنها: انتشار الأمية والجهل، والبطالة، وانخفاض الإنتاجية، وتعاطى المخدرات، وانتشار الجريمة، بل لم يعد للمجتمعات قدرة على تحديد مصيرها، وأصبحت هوية الأمة مهددة بالضياع أو الذوبان في هويات أخرى.
والتخلص من حالة الوهن هذه مرهون بقدرة المجتمعات العربية والإسلامية على تنشئة أجيال قادرة على تحقيق التمايز الحضاري، والأخذ بأسباب التقدم التكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، واستخدام وسائل مبتكرة في تنمية الثروة البشرية والمادية، بما يحميها من أنواع العدوان والاستغلال، أو طمس هويتها الثقافية، ويُمكنها من حل مشكلاتها وإطلاق طاقات الخلق والإبداع لدى أبنائها.
إن حاجة المجتمعات العربية والإسلامية ماسة إلى أنماط من التفكير الإبداعي الذي يتجاوز ثنائيات التعلم السائدة في العالم العربي والإسلامي، والمتمثلة في التعليم الديني في مقابل التعليم المدني، والتعليم الوطني في مقابل التعليم الأجنبي.
وقد أصبح هذا التعليم الأجنبي نمطا من الجيوب الثقافية التي تهدد الانتماء الوطني والثقافي في المجتمعات العربية والإسلامية، نظرا لأنه يؤكد الانتماء للثقافة التي يمثلها، ولا ينتظم في منظومة تعليم وطني ينطلق من قيم المجتمع وتقاليده.
وهذا النوع من التفكير من شأنه أن يحل معضلة الحاجة إلى تعليم اللغة الأجنبية، حيث تنتشر الآن – للأسف- المدارس التي تدرس اللغات الأجنبية ويقبل الناس عليها بدعوى أنها مدارس نموذجية، رغم ما تؤكده البحوث العلمية من أن تعليم التلاميذ بلغة أجنبية يؤدي إلى انخفاض قدرتهم على التحصيل، فضلا عن انقطاع صلته بالتراث الثقافي للغته الأم.
وتحتاج المجتمعات العربية والإسلامية كذلك إلى تطوير سياسات تربوية وتعليمية إبداعية، تهدف إلى اكتشاف المبدعين والموهوبين وتنمية قدرات التفكير لتوجيه مسيرة التقدم في مختلف المجالات، مع تأكيد أن الهدف من تنمية الإبداع هو تنمية الانتماء الثقافي والاجتماعي، والاستقلال الاقتصادي، وتحقيق التواصل بين رواد التعليم والمتعلمين من الجماهير بالمجتمعات العربية والإسلامية التي من حقها أن تتعلم وأن تتحرر.
والمجتمعات العربية والإسلامية تحتاج – أيضًا- إلى حلول إبداعية، لمعضلة الصراع بين التجديد لكل جوانب ومنتجات الحضارة الحديثة من ناحية، وتأكيد الأصالة أو الانتماء إلى الهوية العربية والحضارة الإسلامية من ناحية أخرى.
كل هذا من خلال آليات وصيغ تجمع بين الأخذ بالجديد، والحصول على وسائل التقدم التكنولوجي، مع صبغها بالقيم الإسلامية ذات الطابع الإنساني والأخلاقي بعد إتقانها وابتكار طرق وأنواع منها، وتطويعها لخدمة القيم الإسلامية في المجتمعات العربية والإسلامية، وهذا يعني إيجاد صيغ للتفاعل مع الثقافة الغربية لأخذ أفضل ما فيها، مع تأكيد الهوية الثقافية العربية والإسلامية.
وكذلك فإنها في حاجة إلى ابتكار أساليب فعالة في تنشئة أبناء المسلمين تنشئة تتكامل فيها كل من: سلوكيات النهضة والسيادة التي هي شرط لتقدم أي مجتمع، وتتمثل في: المثابرة، والشجاعة، واحترام الوقت، واحترام الإنسان، وحسن تدبير الثروة المادية والأخذ بأسباب القوة المادية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التنشئة على الأخلاق القويمة التي توجه السلوك وجهة الخير بدلا من أن توجهه وجهة الشر.
وتجمع كذلك بين الأخذ بأساليب التحضر والتقدم التكنولوجي، وبين إعطاء نموذج للالتزام بالقيم الإسلامية التي يفتقدها العالم الحديث، والتي لن يتمكن العالم العربي والإسلامي من إعطاء نموذج لها وحمايتها ما لم يكن قادرا على حماية ثرواته المادية والبشرية، وتعظيم طاقاته من خلال برامج منظمة لتفعيل طاقات وقدرات الإبداع في مختلف مجالات الحياة.
اللغة العربية دعامة الهوية الثقافية
إنّ اللغة العربية هي أساس الهوية الإسلامية ووسيلة للإحاطة بالتراث الثقافي العربي الإسلامي، ورابطة للتواصل بين الناطقين بها بطريقة تجعلها أساسًا قويًّا لتحصيل الآداب والفنون والعلوم، وأداة أساسية للإنتاج الأدبي والفني والعلمي والتخاطب الشخصي والمؤسسي والإعلامي، في كل بلد إسلامي وعربي، بل وعبر العالم.
ومن غير المناسب أن يتقاعس أبناء هذه اللغة ذات التاريخ العريق عن تيسير لغتهم وتفعيل استخدامها، وإبراز جوانب الإبداع فيها، التي تُسهم في إثراء العقل والوجدان العربي من ناحية، كما تسهم في إثراء الحضارة الإنسانية كلها.
والمجتمعات العربية والإسلامية في حاجة إلى التفكير الإبداعي والأساليب المبتكرة، لتيسير تعليم اللغة العربية قراءة وكتابة وفهما بما يمكن من استخدامها في مختلف مجالات الحياة، وتيسير تعليمها للراغبين في المجتمعات غير العربية، وتقديم نماذج من روائع الفكر العربي بأساليب شائقة وميسرة في مختلف مستويات التعليم والإعلام، بالإضافة إلى ما يُسهم به تقدمها على مستوى الحضارة الإنسانية لما تحتويه من كنوز للتعبير والتفكير.
وتمثل هذه النقطة أهمية خاصة في ظل المحاولات المشبوهة لتشويه اللغة العربية ومعالم الإبداع بالفكر العربي التي تحاول طمس معالم عبقرية تلك اللغة والإسهامات العظيمة للمفكرين العرب والمسلمين في تقدم مسيرة العلم والفكر الإنساني.
والمجتمعات العربية تحتاج إلى ابتكار أساليب وآليات، تُسهم في زيادة التفاعل وإبراز الملامح المشتركة في الثقافة الإسلامية، وتجعل من التنوع عامل إثراء للحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وليس سببًا للتنافر والتنازع والصراع، مع احترام الخصوصيات الثقافية الأخرى.
الإصلاح الاجتماعي والتفاعل السياسي
والمجتمعات العربية والإسلامية في حاجة إلى ابتكار أساليب فعالة حقيقية وليست صورية لبناء العلاقات بين جميع الأفراد بطريقة تمكن من تحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي الداخلي، دون تأثر بتوجهات أو تعليمات خارجية بطريقة ملائمة للخصوصية الثقافية للبلاد العربية والإسلامية، بما يكفل شعور المواطنين بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية والجغرافية بكرامتهم وبمشاركتهم في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات.
ويجري ذلك بتنمية مهارات التفاعل مع الآخرين وتأكيد جوانب الاتفاق وتجاوز جوانب الاختلاف غير الجوهري، وتحويل جوانب التنوع إلى مصادر للخصوبة والقوة، بدلا من أن تصبح مصادر للشقاق والصراع، مع الاستفادة من دروس الماضي، على مستوى المجتمعات العربية والإسلامية بل على مستوى العالم كله.
ومن الضروري ابتكار صيغ فعالة للتفاعل مع العالم المتقدم من منظور المصلحة المتبادلة؛ اقتصاديا، وثقافيا، وعلميا وعدم التردي إلى موقف متطرف يتمثل إما في الرفض والعداء التام، أو الخضوع والتبعية، ما يُمكّن من قيام العالم العربي والإسلامي بدور حضاري فعال، بالتفاعل مع مختلف القوى الإيجابية في العالم.
إنّ الحاجة إلى التفكير الإبداعي وابتكار الأساليب والاستراتيجيات تقوم على أسس علمية، واجتماعية، وتاريخية، وإعلامية لمخاطبة الرأي العام في العالم، وكذلك مخاطبة المفكرين والمثقفين ما يمكن من تقديم الصورة الحقيقية للتاريخ الإسلامي، وللمسلمين، وكشف الزيف وفضح الافتراءات التي روجها ويروج لها أعداء الأمة الذين يقدمون افتراءاتهم بخبث ودهاء مع ادعاء الحياد والموضوعية، والذين يسيطرون على أقسام ومراكز البحوث والدراسات في الجامعات، وبخاصة الأوروبية والأمريكية.
دور الأسرة في تنمية الإبداع لدى الأطفال
ويؤكد العلماء والباحثون في المجال التربوي أنّ الخسائر في مصادر الثروة الإنسانية ضخمة، وتتمثل في الأطفال النابغين الذين لا يجدون تشجيعًا على إظهار نبوغهم العقلي والبحث عن مجال تميزهم، ويلعب الآباء والمعلمون الدور الرئيس في هذا الأمر دون قصد لكن النتيجة واحدة.
ويرجح أن من يتوقفون عن تحقيق إمكاناتهم في سياق نفسي اجتماعي ملائم، قد يصبحون أشقياء، وقد يحاول الواحد منهم أن يُثبت قيمته في تصرفات غير بنّاءة أو الوقوع فريسة لليأس والإحباط، بل إنّ منهم من يصبح مجرمًا أو مدمنًا للمخدرات والمسكرات، ومنهم من يقبل على الانتحار.
وتُمثل الأسرة المؤثر الاجتماعي الأساسي في تنمية التفكير الإبداعي للأطفال، حيث يتلقُّون فيها الخبرات التي تعدّهم للاستجابة بطريقة إيجابية أو سلبية للخبرات القادمة في حياتهم.
فالأسرة إما أن تنشئ الأبناء على الثقة بالنفس وبالآخرين، والشعور بأنهم قادرون على الإنجاز الجيد والجديد، من خلال إتاحة الحرية لتوجيه الأسئلة والاستفسارات ومحاولات الاستكشاف، والإثابة على السعي إلى الاستكشاف والتجديد، أو أن تنشئ الأبناء على تلقّي الحلول الجاهزة أو المحفوظة، لكل ما يُواجههم من مشكلات.
وقال عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته إنّ “من كان مرباه (تربيته) بالعنف والقهر، سطا به القهر، وضيق على النفس انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له، من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا (معتمدا) على غيره، وكسلت نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل”.
وأبرزت الدراسات الحديثة، أهمية توفر بيئة اجتماعية ملائمة – بشكل عام- وفي الأسرة -على الأخص-، تُساعد على إطلاق طاقات الإبداع لدى الأبناء، فقط لُوحظ أنّ ارتفاع درجة الإبداع لدى الأبناء يتطلب نوعًا من التصاحب بين نوعين متعارضين من معاملة كل من الأب والأم للأبناء ففى ظل مناخ نفسي يتسم بارتفاع درجة عدم التشدد في التأديب من الأب للابن، يرتبط الإبداع ارتباطا موجبًا.
ولا يكفى لنهضة أي مجتمع أن يظهر فيه بعض الأفراد شديدي الارتفاع في القدرة على الإبداع؛ لأن الأمم لا تنهض إلا من خلال بيئة اجتماعية تسودها روح التجديد والمبادرة والسعي إلى المزيد من العلم والاختراع وتحقيق الهوية، عبر مختلف مراحل العمر، وعبر مختلف المؤسسات التربوية والعلمية والثقافية والاجتماعية ما يُشكل سياقًا نفسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا محفزًا على الإبداع، ينعكس في برامج وجهود منظمة تستثير الهمم وتحفز على الإبداع.
فن الوالدية والإبداع
إنّ من آيات الله تعالى ونعمه على الإنسان أن جعل الأساس الذي تقوم عليه الأسرة المسلمة هو المودة والرحمة والحب والتقبل والسكينة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21]؛ لأن من شأن السياق النفسي الاجتماعي – في الأسرة – الذي تسوده المودة والرحمة والسكينة أن ينعكس على تنشئة الأطفال وتنمية التفكير الإبداعي لديهم، إضافة إلى زيادة الثقة بالنفس وتحمل المسؤولية والدافعية للاستقلال وتوكيد الذات، مع التحلي بالأخلاق الحميدة.
لهذا فإن الحاجة مُلحة إلى تعليم الوالدين فن الوالدية (الأبوة والأمومة) وزيادة مستوى التفاعل بين كل من الوالدين والأبناء في ظل الأسرة المسلمة، بتوجيه من التعاليم الإسلامية من أجل أبناء أكثر صحة نفسيًّا وأكبر فعالية اجتماعيًّا، وأكثر إنجازًا وإبداعًا، مع تمثل القيم الإسلامية الفاضلة.
اكتشف ابنك المبدع
وتقع مسؤولية اكتشاف الملكات الإبداعية عند الأطفال على عاتق الوالدين أولًا ثمّ المدرسة، وذلك أنّ مرحلة الطفولة تُعدّ الأهم بين مراحل تكوين شخصية الفرد؛ حيث تتشكل فيها الميول والاتجاهات وتتفتح القدرات وتكتسب المهارات والمعارف وتتحدد فيها ملامح شخصية الطفل في جوانبها المختلفة؛ الجسدية، والانفعالية، والعقلية، والسلوكية، والاجتماعية، ويتوقف كل ذلك على ما تُوفره البيئة المحيطة بعناصرها المختلفة.
ويرى العلماء أنّ التفكير الإبداعي الحقيقي للإنسان الناضج هو نتاج عملية طويلة وضعت بذورها منذ الصغر؛ فيجب على كل والد أو مربٍّ أو معلم الاهتمام باكتشاف الاستعدادات الإبداعية عند الأطفال وتنميتها، ومساعدتهم على إبرازها وتنميتها، والاستعدادات الإبداعية تتمثل في عدد من المظاهر الأساسية نوجزها فيما يلي:
- الطلاقة في التفكير: أي إنتاج أكبر عدد من وحدات التفكير في زمن معين. وقد أمكن اكتشاف أربع قدرات للطلاقة، هي: طلاقة الكلمات، وطلاقة التداعي، وطلاقة الأفكار، والطلاقة التعبيرية.
- المرونة في التفكير: وتتمثل في القدرة على تغيير زاوية التفكير، وقد أوضحت البحوث، وجود نوعين منها، هما: المرونة التلقائية، وتتمثل في إمكانية تغيير الشخص لمجرى تفكيره تلقائيا نحو اتجاهات جديدة، بسرعة وسهولة، والمرونة التكيفية وتتمثل في تغيير الشخص لوجهته الذهنية، لمواجهة مستلزمات جديدة تفرضها المشكلات المتغيرة.
- القدرة على رؤية المشكلات والشعور بها، ويتمثل هذا المظهر في القدرة على إدراك المشكلات والشعور بها مبكرًا، أو قدرة الشخص على رؤية أوجه النقص، أو الحاجة للتحسين، أو التطوير في جميع ما يتعرض له من خبرات أو نظم أو معدات أو أدوات أو أساليب ماديّة أو نظم اجتماعية أو إدارية، أي استمرار الشعور بالحاجة إلى الاستفسار وإلقاء أسئلة.
- القدرة على التقويم والتفكير الناقد، وهي الوعي باتفاق شيء معين أو اختلافه مع معيار محدد للملاءمة أو الجودة. وقد يكون التقويم منطقيا، يعتمد على إدراك العلاقات المنطقية بين مواد لفظية، وقد يكون تصوريًّا إدراكيًّا يتصل بمواد إدراكية. والقدرة على التقويم تفترض أن النشاط الإبداعي تم فعلا، ثم يتجه إليه الشخص المبدع، فيعيد النظر فيه؛ سواء كان هو منتجه أو أنتجه شخص آخر.
- الأصالة: وينظر كثير من الباحثين إلى الأصالة على أنها تمثل لب الإبداع نفسه، ويقصد بها: قدرة الشخص على إنتاج سلوك يتسم بالجدية أو الطرافة. إلا أن هناك شرطًا آخر لا بُد من توفره إلى جانب الجد لكي يكون الإنتاج أصيلا، هو أن يكون مناسبًا للهدف أو للوظيفة التي يؤديها هذا الإنتاج الجديد.
واتفق الباحثون على أنه من الأجدر النظر إلى الأصالة كغيرها من السمات، على أنها سمة تتوفر لدى جميع الأشخاص الأسوياء بدرجات، تمتد من أدنى الدرجات إلى أعلاها، وهذا التصور يسمح بالمقارنة الخصبة بين الأفراد بعضهم ببعض، وبين مختلف أنواع السلوك من حيث درجة ما يظهر فيها من الأصالة.
أساليب تنمية الإبداع لدى الأطفال
تهتم كثيرٌ من الهيئات العلمية والتربوية في العالم، بإعداد برامج لرعاية النّابغين والمُبدعين في مختلف المجالات، بدءًا من مراحل العمر المبكرة وتستمر هذه الرعاية خلال فترة الشباب والنضج، حيث تُوفر بيئة تربوية لتنمية عمليات التفكير الإبداعي عبر برامج وأساليب، منها: برنامج “بوردو”، وبرنامج التدريب على حل مشكلات المستقبل، وبرنامج تنمية الإبداع، إضافة إلى أسلوب التفاكر وأسلوب تأليف المختلف.
وأعدّ برنامج “بوردو” لتنمية الإبداع لدى تلاميذ المدارس الابتدائية من الصف الثالث إلى الخامس، مجموعة من أساتذة جامعة بوردو في الولايات المتحدة الأمريكية، أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين.
وقدّم برنامج التدريب على حل مشكلات المستقبل، لتلاميذ المدارس في مختلف مراحل التعليم، “بول تورانس” بجامعة جورجيا منذ سنة 1972، بهدف إكساب التلاميذ الاتجاهات والعادات والمهارات التي تساعدهم على الوصول إلى حلول مبتكرة.
أمّا برنامج تنمية الإبداع، فيستهدف المخيلة الإبداعية لدى المراهقين من تلاميذ المدارس، لتنمية قدراتهم الإبداعية وتكوين وعي يقدر الأفكار الجديدة، وهو برنامج يجمع بين التشويق وتنمية المهارات والإفادة من المعلومات، وزيادة وعي التلاميذ وحسن تقديرهم للأفكار الجديدة، وتنمية قدرتهم على إنتاج الأفكار والتوفيق بينها لخلق تكوينات فكرية جديدة، وقد نظمه “جاري دافيد” في مركز ماساشوستس للبحوث والتنمية للتعليم المعرفي.
ومع أن الطابع الغالب على هذه البرامج، هو الطابع التطبيقي مع الافتقاد للتأصيل النظري، الذي يُمكّن من التنمية الفعالة لقدرات الإبداع، فإنه كان لهذه البرامج عدد من الآثار الإيجابية في تنمية الوعي بأهمية الإبداع في مختلف مجالات الحياة، وبخاصة المجال التربوي.
ومما يؤسف له أنّ مثل هذه البرامج المنظمة لتنمية الإبداع لم تظهر حتى الآن في العالم العربي بشكل منظم، وإن ظهرت جهود متفرقة.
أساليب تطبيقية لتنمية الإبداع
لقد ظهرت عدة أساليب لتنمية التفكير الإبداعي تركز معظمها على إنتاج أكبر عددٍ من الأفكار الجديدة والملائمة، مثل:
أسلوب التفاكر: وقد ابتكره “أوسبورن”، ويتمثل في تبادل التنبيه بالأفكار في جماعة صغيرة في جوٍّ خالٍ من النقد. ونظرا لأنّ هذا الأسلوب لا يتضمن عصفًا أو صراعًا بين الأفكار، حيث يشترط فيه أن يجري في جوٍّ خالٍ من النقد، يسمح بالتفاعل والبناء على أفكار الآخرين. لهذا فإن المصطلح تفاكر الذي يشير إلى التفاعل بالأفكار، أكثر ملاءمة من مصطلحات أخرى يستخدمها البعض بوصفها ترجمة حرفية للمصطلح الإنجليزي مثل عصف ذهني أو قذف ذهني.
أسلوب تأليف المختلف: وابتكره “جوردن”، والكلمة في أصلها تُوحي بتأليف المختلف أو تأليف العناصر غير المترابطة في الظاهر، ويقوم هذا الأسلوب على أساس التدريب لجعل ما هو مألوف غريبًا، وما هو مختلف مؤتلفًا.
ويوجد عدد آخر من أساليب تنمية الإبداع اتخذت طابعًا تجاريًّا مثل: أسلوب التفكير الالتفافي، أو القبعات الست، أو الأحذية الستة، وأُخِذَ على هذه الأساليب أنها تُركّز على التطبيق العملي دون عناية بالأساس النظري الذي يقوم عليه هذا التطبيق.
نموذج الحل الإبداعي للمشكلات
ويُعد هذا النموذج من أهم النماذج المقترحة لتنمية الإبداع، ومن مزاياه أنه يُسلم بأنّ الحل الإبداعي للمشكلات يعتمد على كل من التفكير التغييري الافتراقي والتفكير التقريري الالتقائي، وبخاصة بعد أن أوضح عدد كبير من البحوث أنّ قدرات الإبداع ليست مستقلة عن قدرات الذكاء التقريري، وإن كان الذكاء يُعد شرطًا ضروريًّا للإبداع، فإنه ليس شرطًا كافيًا، لأنّ قدرًا متوسطًا من الذكاء قد يرتبط بالأداء الإبداعي، إذا صحبه مستوى ملائم من الدافعية ومواصلة الاهتمام من الشخص.
وترجع بداية نموذج الحل الإبداعي للمشكلات إلى أوائل الستينيات من القرن العشرين على يد “بارنز”، ثمّ حاول عدد من الباحثين تطوير هذا النموذج، وهو يقدم نموذجًا يهدف إلى تفعيل برامج التدريب على تنمية مهارات الحلول الإبداعية في ظل إطار نظرى يجمع بين مزايا كل من التفكير التغييري الافتراقي، والتفكير التقريري الالتقائي.
ويمثل أسلوب التفاكر، إحدى خطوات الحل الإبداعي للمشكلات، فهو يُمكن من تحديد أكبر عدد من المشكلات التي تحتاج إلى حلول إبداعية، ويعقب ذلك ترتيب هذه المشكلات وفقًا لأهميتها ودرجة الحاجة إلى حلّها، وعندئذٍ يستخدم أسلوب التفاكر للتوصل إلى أكبر عددٍ ممكن من الحلول الإبداعية للمشكلة المطلوب حلها. ويعقب هذا استخدام عدد من محكات الملاءمة لتقويم الحلول المقترحة لاختيار أكثرها ملاءمة وقابلية للتنفيذ.
ويعتمد أسلوب التفاكر على: تبادل التنبيه بالأفكار، بين أفراد جماعة صغيرة في جوٍّ خالٍ من النقد، أو اللوم، أو التقويم ويدير جلسات التفاكر قائد يزيد من دافعية كل الأفراد للمشاركة دون ممارسة أية قيود أو أحكام نقدية أو تقويمية على بعضهم البعض، بما يحقق مناخًا آمنًا لا تتخلله أية أحكام نقدية أو تقويمية.
وتتبع في جلسات حل المشكلات التي تستخدم أسلوب التفاكر، أربع قواعد هي:
- ضرورة تجنب النقد أو التقويم بكل صوره.
- إطلاق حرية التفكير والترحيب بكل الأفكار، مهما كان نوعها أو مستواها، ما دامت متصلة بالمشكلة، على أساس أنّ إتاحة الفرصة لظهور أكبر عددٍ من الأفكار – حتى إن كانت في صورة فجة أو غير مصقولة- أفضل من منع ظهور هذه الأفكار، التي يمكن بعد صقلها فيما بعد أن تمثل أفكارا جديدة وحلوة مبتكرة.
- مطلوب إنتاج أكبر عدد من الأفكار، على أساس أنه كلما زاد عدد الأفكار المقترحة من أعضاء الجماعة، زاد احتمال التوصل إلى عدد أكبر من الأفكار الجديدة والملائمة.
- البناء على أفكار الآخرين، والإضافة إليها وتطويرها.
مراحل نموذج الحل الإبداعي للمشكلات
ويتمثل نموذج الحل الإبداعي للمشكلات في ثلاث مراحل تضم ست خطوات هي:
(أ) فهم المشكلة: وتضم ثلاث خطوات:
- مواجهة مأزق أو مشكلة.
- جمع البيانات.
- صياغة المشكلة.
(ب) توليد الأفكار: وتشتمل هذه المرحلة على خطوة واحدة هي: إيجاد أفكار ممكنة واختيار أفضل البدائل التي ترتبط بأفضل الاحتمالات.
(ت) التخطيط للتنفيذ: وتضم هذه المرحلة خطوتين هما:
- العثور على حل ملائم.
- قبول الحل.
وقد استخدم أسلوب الحل الإبداعي للمشكلات في عدد كبير من الدراسات للتحقق من كفاءته، كما تم تطبيقه في عدد كبير من المجالات التربوية والإدارية.
ويؤخذ على كل برامج تنمية قدرات الإبداع بما فيها الحل الإبداعي للمشكلات افتقادها للاهتمام بالسمات المزاجية للشخصية، والدوافع الاجتماعية، والبيئة الاجتماعية والثقافية الميسرة أو المعوقة للإنتاج الإبداعي.
المصادر:
- أبو الفضل ابن منظور : لسان العرب، دار المعارف، القاهرة 1981.
- أبو على ابن سينا: الشفاء، دار المعارف، القاهرة 1998.
- عبد الحليم محمود السيد: الأسرة وإبداع الأبناء، دار المعارف، القاهرة 1983.
- محمد بن علي التهانوي: موسوعة اصطلاحات العلوم الإسلامية المعروف بكشاف اصطلاحات الفنون، مكتبة خياط، بیروت 1999.
- ابن الهيثم: كتاب “المناظر” تحقيق عبد الحميد صبره ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1983.
- سليمان فياض: ابن سينا.. أبو الطب ، القاهرة، دار المعارف 1992.
- عبد الحليم محمود السيد: تنمية التفكير الإبداعي واتخاذ القرار، دار حكيم، القاهرة 2000.
- عبد الحليم محمود السيد: التفكير الإبداعي وأساليب تنميته، إيتراك للطباعة والنشر، القاهرة 2009.
- محمد بن إدريس الشافعي، ، ديوان الشافعي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1985 .
- صفاء الأعسر: الإبداع في حل المشكلات، دار قباء ، القاهرة 2000.
- تشارلز فيلبس: التفكير الإبداعي ، مكتبة جرير، الرياض 2014 .
- عبد الحليم أبو شقة: حول أزمة خلق المسلم المعاصر، مكتبة جامعة الزيتونة تونس 1989.
- عبد الحليم محمود السيد: التفكير الإبداعي وأساليب تنميته، إيتراك للطباعة والنشر، القاهرة 2009.
- فهمى هويدى: الصحوة الإسلامية: الحاضر، والمستقبل. مجلة المسلم المعاصر عدد مارس 1988.
- مالك بن نبي: شروط النهضة ومشكلات الحضارة ، دار الفكر، القاهرة 1998.
- محمد إبراهيم كاظم: اعتبارات ومعالم لمسيرة التعليم في مصر، مجلة المسلم المعاصر، مجلة المسلم المعاصر عدد سبتمبر 1988.
- طوقان، قدري حافظ: الأسلوب العلمي عند العرب، مطبعة جامعة القاهرة ، القاهرة. 1946.