اهتمت الشريعة الإسلامية بصلاح القلب وصفائه واستقامته كاهتمامها بالجسد وصحته وسلامته، بل إنها جعلت أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وأعطتْ القلب دور الرّيادة والقيادة والتوجيه، بينما الجوارح تستجيب لندائه وتخضع لسلطانه. وأعمال القلب- من اليقين والصبر، والإخلاص، والتوكل، والخشية، والتقوى، والتفكر، والرضا، وغير ذلك، هي الغاية من أعمال الجوارح، وهي التي تحفظ على العبد دينه، وتسلحه ضد شياطينه، ولا يزكو القلب ويطهر إلا بهذه الأعمال الشريفة، التي تقرب العبد من ربه وتطوع له جوارحه لعبادته وطاعته.
ولا شك أنَّ التفكُّرَ في خلق الله يكشفُ عن عظمة الخالق سبحانه، ويجعل المرءَ يُقِرُّ بوحدانية الله عز وجل، ويتواضع لعظمته، ويحاسب نفسَه ويربيها؛ فيزداد إيمانًا وصفاءً، ويُورث الحكمة، ويُحيي القلوب، ويُورث فيها الخوف والخشية من الخالق جل وعلا.
معنى التفكر في خلق الله وتأصيله شرعًا
ومعنى التفكر في خلق الله نجده عند ابن منظور في “لسان العرب” حيث يرى أن التّفكر هو إعْمال الخاطر في الشَّيء، وفي “المعجم الوسيط” هو: الفِكرُ مقلوبٌ عن الفرك، لكن يستعمل الفِكرُ في الأمور المعنويَّة، وهو فركُ الأمور وبحثُها للوصول إلى حقيقتها.
وجاء عند ابن فارس: “فكَرَ؛ الفاء والكاف والراء: تردّد القلب في الشيء، يقال: تفكَّر، إذا رَدَّدَ قلبه معتبرًا، ورجل فِكِّيرٌ: كثير الفكر”. وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني؛ وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها”.
أمَّا من الناحية الاصطِلاحيَّة، فقد ورد عند الرَّاغب الأصفهاني بأنَّه: “قوَّة مطردة للعلم إلى معلوم، وجوَلان تلك القوَّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يمكن أن يُقال إلاَّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلْب”. وعرَّفه طه جابر العلواني بأنَّه: “اسم لعمليَّة تردّد القُوى العاقلة المفكّرة في الإنسان، سواء أكان قلبًا أو روحًا أو ذهنًا، بالنَّظر والتدبُّر لطلب المعاني المجْهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحْكام، أو النسب بين الأشياء”.
واهتم القرآن الكريم بعبادة التفكر، وأثنى الله- عز وجل- على من يُفكّر بعقله في عظمة المخلوقات، فقال سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191].
والتفكر يكون في كل شيء، ومن ذلك التدبر والتفكر في آيات القرآن الكريم، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82]. وقال عز وجل: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 68]، وقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
وقصّ علينا القصص مثل قصة الذي آتاه آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، وقال في آخر القصة: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176]، ثم أعطانا الله- وعلا- أمثالاً في القرآن لأمور متعددة وأمرنا بالتفكر فيها كمثل قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس: 24].
وندبنا الله تعالى للتفكر في أنفسنا التي خلقها فقال: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) [الروم: 8]، وفي خلقنا قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:20-21].
ودعا الكفار للتفكر ليتوصلوا إلى وحدانيته ويرجعوا عن كفرهم قال سبحانه، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30].
وجاءت السنة النبوية معضدةً دعوة القرآن الكريم إلى التفكر، فعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة- رضي الله عنها-، فقال ابن عمير: حدّثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فبكت، وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة، ذريني أتعبّد لربي، قالت: قلت: والله، إني لأحبّ قربك، وأحب ما يسرّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي؛ حتى بلّ حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي؛ حتى بلّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكّر ما فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ …)، (ابن حبّان، وقال في السلسلة الصحيحة: وهذا إسناد جيد).
وحينما نزل جبريل- عليه السلام- على النبي- صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، وجده يتفكر، فعن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدأ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، أي في الوضوح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ.. القصة.. إلى أن قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) [العلق: 1-3]. (البخاري).
وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها. يقرأ مسترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ”، فهذه الأحاديث تدل على أنّ تدبر القرآن والتفكر في معانيه كان من هدي النبي- صلى الله عليه وسلم-.
وسار الصحابة والصالحون على هذا النهج النبوي، فقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: “ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ”. وعن عبد الله بن عتبة قال: سألت أم الدرداء: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار.
وعن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- يقولون: إن ضياء الإيمان التفكر. وعن الحسن رحمه الله قال: “إن من أفضل العمل الورع والتفكر”.
وقال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت، فإذا صمت تبين لك مواضع الكلام والمصلحة وعلى الاستنباط بالفكر، هذه الكتب التي سطرها العلماء من استنباطاتهم والاجتهادات التي خرجوا بها، كيف خرجوا بها؟ من تأمل وتدبر لكتاب الله وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، وربما كان الواحد منهم يجلس من بعد العشاء إلى طلوع الفجر يتفكر في مسألة حتى ينقدح في ذهنه جوابها.
وقد تربى الإمام الشهيد حسن البنا على ذكر الله والتفكر في آياته الكونية والقرآنية، وسنته في خلقه وآلائه ونعمه على عباده ورحمته بخلقه أجمعين، فأثمر فيه ذلك محبةً صادقةً وعظيمةً لله جل شأنه على طاعته بحبٍّ وإعظامٍ وإجلالٍ وإكبارٍ، وأقبل على دعوته محبًّا لها متمنيًا أن تنتشر وتنتصر به أو بغيره، فأفنَى ذاته في طاعة الله، وأجهد بدنَه في الدعوة إلى طاعته، وبالجملة كان لله بكليته فكان الله له.
فوائد التفكر في خلق الله
وتتعدد ثمرات التفكر في خلق الله بين الخشية من الله ومهابته واليقين بقدرته على خلق أعظم الأشياء، إضافة إلى العديد من الثمار، منها:
- أنه يورث الحكمة، ويحيي القلوب، ولو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل.
- يفتح آفاق المعرفة والتعلم, فحينما يتفكر المرء في الكون يكتسب معارف جديدة وعلوم نافعة يستفيد منها في جميع أمور حياته .
- تعظيم الله تعالى سبحانه وتعالى، ومعرفة قدرته وجماله، وإبداعه في خلق كل شيء بدقةٍ وروعةٍ لا متناهية.
- تثبيت العقيدة، فلقد حثّ الله الإنسان على استخدام عقله والتّفكر في نفسه، وفي خلق السموات والأرض بآياتٍ كثيرة في كتابه العزيز، فقال سبحانه وتعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
- يورث محبة الله سبحانه وتعالى.
كيف نستفيد من عبادة التفكر؟
ويُمكن أن نستفيد من عبادة التفكر في خلق الله بوسائل عديدة، سيما أنها عبادة مفقودة عند كثير من المسلمين في واقعنا المعاصر، على الرغم من أهميتها، ومن هذه الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لإثراء هذه العبادة ما يلي:
- الاستفادة من الرحلات إلى الأماكن التي تتجلى فيها عظمة الخالق سبحانه وتعالى، والتأمل في المناظر الخلابة، ويكون ذلك مع الأسرة لتدريب الأبناء الصغار على ذلك.
- إقامة حلقات قرآنية أسبوعية لقراءة القرآن الكريم والوقوف عند الآيات الإعجازية والعلمية منها، لتدريب الذهن على التفكر والتدبر أثناء قراءة القرآن.
- تخصيص ساعة أسبوعيا لمشاهدة فيلم علمي عن إعجاز الخالق جل وعلا، وفتح حلقة نقاشية لطرح التساؤلات التي وردت في أذهان أفراد الأسرة أثناء مشاهدة الفيلم.
- استثمار التقنية الحديثة مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية في عمل أبحاث بسيطة عن بعض المواد العلمية التي تتعلق بالمخلوقات.
- التردد على المكتبات العامة، والبحث عن الكتب العلمية، وقراءة ما يناسبنا منها لتنمية حاسة التفكر والتدبر.
- استثمار الأوقات على مائدة الطعام في التفكر في نعم الله سبحانه ولفت انتباه الأبناء إلى ذلك، يقول تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس: 24-32].
- الاهتمام بكتب الإعجاز العلمي والأفلام العلمية المصورة التي تتناول إعجاز الخالق في شتى المخلوقات، وكذلك شراء كتب الأطفال المرتبطة بالإعجاز العلمي، وتخصيص جزء من الوقت في القراءة منها والاطلاع على محتواها.
إن التفكر والتأمل في مخلوقات الله- جل وعلا- هو مفتاح توظيف العقل في النظر والتمعن والوصول إلى حقيقة الأشياء ومعرفة الله- تعالى- وصفاته وكماله وشمول علمه والإبداع في خلقه وهداية الإنسان إلى سنن الحياة ومعرفة أسباب وجوده. لذا على كل مسلم أن يخصص وقتًا ولو قصيرًا في اليوم للتدبر والتفكر في خلق الله، وحث أهله على ذلك.
المصادر والمراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة، مادة (فكر)، 4/446.
- الراغب الأصفهاني: المفردات، ص 643.
- إبراهيم أنيس وآخرون: المعجم الوسيط، مادة (فكر)، 2/698.
- طه جابر العلواني: الأزمة الفكرية، ص27.
- الدكتور بدر عبد الحميد هميسه: عبادة التفكر.
- طريق الإسلام: التفكر في خلق الله وأثره.
- الهيثم زعفان: التربية على التفكر.
- أبو حامد الغزالي: الإحياء 1/151.