يقع بعض الآباء والأمهات في خطيئة التفرقة بين الأبناء في الأمور المختلفة، ما يُسبب الكثيرَ من الآثار السلبية عليهم في المستقبل، لذا نهى الإسلام عن هذه التفرقة، والمعاملة السيئة من الآباء للأبناء، واعتبرها من بقايا عادات الجاهلية التي فضّلت الأولاد عن البنات وزكّت التفرقة بينهم جميعًا دون وعي.
ولا شك أن التمييز بين الأبناء من الأساليب الخاطئة التي لها آثار وعواقب وخيمة على نفسية المتربّين، فهي تُكسِبهم صفات سيئة، مثل: الحقد، والغيرة، والأنانية، والكراهية، وقطع صلة الرحم، وقد تستمر هذه المشاعر فيما بينهم مدى الحياة، وينظر الأبناء المظلومون إلى الوالدين على أنهما ظالمان ولا يعدلان بين بينهم، لذا لا بد من المعاملة بالمساواة والعدل بينهم، والحرص على ذلك بكل السبل التربوية.
حكم الشرع في التفرقة بين الأبناء
حرّم الإسلام التفرقة بين الأبناء والتمييز بينهم، ونبذ كل أفعال الجاهلية في هذا الشأن، حيث كانوا يغضبون إذا بشروا بولادة الأنثى، كما أخبر الله- عز وجل في كتابه-: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل:٥٨] ، لذلك ربّى الله- عز وجل- المسلمين على الرضا بقسمته، فالمسلم يحمد ربه على الولد ذكرًا كان أو أنثى.
وأمر الله- جل وعلا- بالتسوية بين الأبناء في الرِّعاية والعطية وسائر الشؤون، وذلك في الآيات التي تتحدث عن ضرورة العدل، فقال سبحانه: (إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ وَإِیتَاۤىِٕ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَیَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡیِۚ یَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) [النحل ٩٠]، وقال- عز وجل-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام: 152].
وإذا كان أي من الوالدين يحبُّ أحد أبنائه أكثر من غيره فعليه أن يخفي ذلك ما أمكنه، وألا يفضِّله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء، فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرِّهم به واتفاقهم فيما بينهم؛ لهذا لمّا ظهر لإخوة يوسف من محبَّة يعقوب- عليه السلام- الشديدة ليوسف وعدَم صبره عنه وانشغاله به عنهم، سعَوا في أمرٍ وَخيم، وهو التفريق بينه وبين أبيه، فقالوا: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف: 8، 9].
وَوَصَف النبي- صلى الله عليه وسلم– التفرقة بين الأولاد بالجور، فعن النعمان بن بشير قال: “سَأَلَتْ أُمِّي أبِي بَعْضَ المَوْهِبَةِ لي مِن مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا له فَوَهَبَهَا لِي، فَقالَتْ: لا أرْضَى حتَّى تُشْهِدَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخَذَ بيَدِي وأَنَا غُلَامٌ، فأتَى بيَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: إنَّ أُمَّهُ بنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ المَوْهِبَةِ لِهذا، قالَ: ألَكَ ولَدٌ سِوَاهُ؟، قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَأُرَاهُ، قالَ: لا تُشْهِدْنِي علَى جَوْرٍ” (البخاري ومسلم).
قال ابن القيم- رحمه الله- مبينًا وجوب العدل بين الأبناء: “هذا أمر تهديد لا إباحة، فإنَّ تلك العطية كانت جورًا بنصِّ الحديث، ورسول الله لا يأذن لأحد أن يَشهد على صحَّة الجور، ومن ذا الذي كان يَشهد على تلك العطية وقد أبى رسولُ الله أن يشهد عليها وأخبر أنَّها لا تصلح، وأنها جور، وأنها خلاف العدل؟”.
وشدد النبي- صلى الله عليه وسلم- العدل بين الأبناء حتى في المعاملة والعطف، فقد روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُحدِّث أصحابه إذ جاء صبيٌّ حتى انتهى إلى أبيه، في ناحية القوم، فمسح رأسه وأقعده على فخذه اليمنى، قال: فلبث قليلًا، فجاءت ابنة له حتى انتهَت إليه، فمسح رأسها وأقعدها في الأرض، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “فهلَّا على فخذك الأخرى”، فحملها على فخذه الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: “الآن عَدلتَ”.
وأوصى- صلى الله عليه وسلم- بالنساء خيرًا، وأكَّد أن تربية البنات هي الطريق إلى الجنة، ونهى- صلى الله عليه وسلم- عن كراهيتهن؛ فعن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:”لَا تَكْرَهُوا الْبَنَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ” (رواه أحمد وصححه الألباني).
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يحب ابنتَه فاطمة حبًّا عظيما، فيستقبلها مبتسمًا ويقول: “مَرْحَبًا بِابْنَتِي، فيُقبِّلها بين عينيها ويُجلِسُها مكانَه ويقول: “هَذِهِ أُمُّ أَبِيهَا”. وروى المسور بن مخزمة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي” (البخاري).
وسار الصحابة– رضي الله عنهم– والتابعون– رحمهم الله– على درب نبيهم المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في العدل والمساواة بين الأبناء حتى في القبلة، فعن إبراهيم النخعي قال: “كانوا يستحبون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَل”.
وهذا عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- يضمُّ ابنًا له وكان يحبُّه، فقال: “يا فلان، والله إني لأحبك وما أستطيع أن أوثرك على أخيك بلقمة”، وذلك لأن التفرقة تُولِّد الحقدَ والأنانية والكراهية في الأسرة، ومن ثَم ينعكس ذلك على المجتمع.
أسباب التفرقة بين الأبناء
وهناك أسباب عديدة قد تدفع الآباء إلى التفرقة بين الأبناء، منها:
- قوة شخصية أحد الأبناء: فتطغى على شخصية إخوته الباقين الذين يتصفّون بالهدوء والحكمة في التعامل.
- العوامل النفسية: فقد يكون لبعض الآباء مشاعر أو مخاوف داخلية تدفعهم إلى التمييز بين أبنائهم، فيشعر الأب الذي كان يتعرض للتمييز في طفولته بالحاجة إلى حماية ابنه من التعرض للشيء ذاته، ما قد يؤدي إلى تمييزه.
- العوامل الاجتماعية: فقد يميل الآباء إلى تفضيل الطفل الذي يحقق نجاحًا في المدرسة أو الرياضة أو أي مجال آخر، لأنه يعكس بشكل جيد عليهم أمام المجتمع.
- التحيز الجنسي: وهو التمييز بين الأبناء بناءً على جنسهم، فيفضل بعض الآباء الأبناء الذكور على الإناث، أو العكس.
- الاختلافات الشخصية: فقد يميل بعض الآباء إلى أحد الأبناء أكثر من غيره، بسبب اختلافات شخصية بينهما، مثل التشابه في المظهر أو الشخصية أو السلوك، أو الذكاء.
- ترتيب الابن حسب السن بين إخوته: ففي كثير من الأحيان لا يحظى الابن الأوسط بالرعاية نفسها مقارنة مع باقي إخوته.
- الاختلاف في بر الوالدين: فالقلب قد يلين للولد المطيع المهذب عن الولد العنيد الذي لا ينفذ توجيهات والديه إلا فيما ندر.
آثار التمييز بين الأولاد
وتتسبب التفرقة بين الأبناء في آثار سلبية تظهر على شخصية الصغار، حيث تنتج شخصية حقودة مليئة بالغيرة والغل لدى الأبناء غير المميزين، ومن الآثار:
- تكوين شخصية أنانية تحب الحصول على كل شيء لنفسها عند الشخص المميّز في الأسرة.
- نشر بذور الكراهية والعداء بين الأخوة، وحسد الأخ لأخيه المميز على الحنان والرعاية التي يحظى بها.
- نشوء طفل غير سوي، يظهر عنده سلوك العزلة والانطواء، والانكماش.
- تولّد لدى الطفل إحساسًا بالقهر والظلم وعدم المساواة.
- ظهور الملامح العدوانية اتجاه الطفل المميز.
- الإصابة الطفل الممارس ضده التمييز بالحزن والاكتئاب لمروره بتجارب تفرقة في المعاملة وهو غير قادر على الإفصاح عنها.
- اللجوء إلى أشخاص غرباء بحثًا عن الحنان والعطف، مما يجعلهم عرضة إلى خطر معرفة أصحاب السوء.
- استمرار الشعور بمشاعر الضيق والحقد عندما يكبرون، ويمكن أن ينعكس ذلك سلبًا على طريقة تربيتهم لأبنائهم.
- قد يصبح الأبناء الممارس ضدهم التمييز والتفرقة عاقين لآبائهم في المستقبل، ولا ينصتون إلى نصائحهم.
- قد يصبح الشخص المميز في الأسرة إنسانًا أنانيا، ويحب الحصول على كل شيء لنفسه.
حلول تربوية
ولتجنب مشكلة التفرقة بين الأبناء والتمييز بينهم يمكن اتباع هذه النصائح التربوية:
- عدم إظهار تفضيل لابن دون الآخر: فيجب على الآباء أن يعاملوا جميع أبنائهم بالعدل والمساواة.
- التركيز على نقاط القوة لدى كل طفل: ولا بد من تشجيع كل طفل على تطوير هذه النقاط.
- التحدث مع الأبناء عن أهمية المساواة: وتوضيح أن جميع الأبناء متساوون في الحقوق والواجبات.
- عدم المقارنة بين البنات في الشكل أو المساعدة للأم في المنزل: فهو أسلوب يسبب صدمة كبيرة للأخت الأقل جمالًا ويُولِّد لديها انكسارًا.
- الاعتراف بوجود المشكلة: يجب على الآباء أن يعترفوا بوجود المشكلة إذا كانوا يشعرون أنهم يفضلون أحد أبنائهم على الآخر.
- البحث عن المساعدة المهنية: إذا كان الآباء يشعرون أنهم غير قادرين على التعامل مع المشكلة بمفردهم، فيجب عليهم طلب المساعدة من أخصائي نفسي أو اجتماعي.
- قضاء وقت كاف مع كل طفل: والتأكد من أن كل طفل يشعر بأنه محبوب ومقبول لدى الوالدين.
- تقديم الدعم لكل طفل: والعمل على تحقيق أهدافهم وتطوير إمكاناتهم.
- بث روح التعاون والمحبة بين الأبناء.
- تربية الأبناء على أن الشكل أو الجنس من عند الله، ولا يجوز لأي أحد أن يحب أو يكره على أساسهما.
- رعاية الطفل المعاق أو المريض، وإعلام الأبناء بضرورة مساعدته والعطف عليه وتقديم الرعاية له.
إن التمييز وعدم تحقيق العدل والمساواة بين الأبناء مشكلة تربوية يجب التخلص منها، سواء أكان ذلك بشكل متعمد أو غير متعمد، فالأولاد أمانة في أعناق الآباء والأمهات وينبغي تحقيق العدل بينهم في كل شيء سواء في الكلام أو العطاء أو الطعام أو الإصغاء لهم في الأحاديث أو الاهتمام أو النظرات أو الاحضان والقبلات، لأن ذلك يحميهم من العُقد النَّفسية، والشعور بالنقص، وآفات القلوب.
المصادر والمراجع:
- عبد الرحمن السعدي: فوائد مستنبطة من سورة يوسف، ص 20.
- ابن القيم الجوزية: تحفة المودود 1/ 228.
- ابن أبي الدنيا: العيال 1/ 173.
- ابن أبي شيبة: المصنف: 6/234.
- علي بن راشد المحري: التفرقة بين الأبناء والبنات في الأسرة.
- يحيى بن موسى الزهراني: العدل بين الأولاد.