لا تقوم الدعوات إلا على التضحية والبذل والعطاء بشتى صنوفه، فلا يظن المسلم أنه سيسير في الحياة دون أن يُضحي بشيء من وقته وماله وجهده بل وبنفسه، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، والتابعون من بعدهم.
والدعوة التي يبخل عليها أفرادها بالبذل والعطاء يُكتب لها الفشل، وما حال أمتنا وما يحدث لها إلا خوف كل فرد فيها على نفسه وماله وأهله، فبخل كل واحد بالتّضحية ببعض الأشياء فكبلت الأمة بالمصائب، وكما أنّ العطاء في الدين مأجور، فإن القعود والتقصير فيه إثم يحاسب عليه المسلم.
مفهوم التضحية
ومفهوم التضحية في اللغة، من مصدر الفعل ضحى، وضحى بالشاة أو نحوها مما يحل أكله أي ذبحها في الضحى يوم عيد الأضحى وقد سميت بذلك في الشرع.
وفي الاصطلاح هي بذل كل ما هو باستطاعة الإنسان أن يبذله من نفسٍ ومالٍ ووقتٍ وجهدٍ، من أجل كسب رضا الله تعالى وتبليغ رسالة الدعوة الإسلامية لجميع البشر؛ وذلك لإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
فالمطلوب من المسلمين الجهاد في سبيله تعالى الذي لا يتحقق إلا بأناسٍ يُضحُّون بكل شيءٍ من أجل إظهار الحق وإزهاق الباطل ونشر العدالة بين الناس، فلا غنىً عن التّضحية وبذل الغالي والنفيس من أجل مرضاة الله عزَّ وجلًّ والفوز بجنته.
التضحية في الإسلام
ولقد استطاع المنهج الإسلامي تخريج جيل عظيم يدرك أنّ سر السعادة في التضحية والعطاء، حتى أصبح الموت والاستشهاد عين الحياة، فالقرآن الكريم وهو أساس الإسلام ودستوره يلفت الأنظار إلى الفداء منذ مطلع الخليقة، يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
ويحدثنا القرآن عن ألوان من الفدية في الدين، ففي الصوم يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، وفي الحج يقول {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، في الحرب يقول {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].
وإذا كان القرآن قد حث المؤمنين على البذل والفداء في سبيل الحق والعدل والعزة والكرامة والحرية ووعد بقبول الفداء الصادق المستقيم الخالص، وضمن لأصحابه عاجل الثواب وآجله، فإنه حذرنا ألوانا من هذا البذل لا تجدي ولا تنفع، لأنها لم تصدر عن إيمان، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 91].
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أول من ضحّى بوقته كله وجهده وأهله وعشيرته ووطنه وماله، وعصمه المولى سبحانه من الناس فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
وضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في العطاء والبذل من أجل الدين، وكان من تضحيته أن تحمل الشدائد واحتمل صنوف الأذى، وكيف لا وهو القدوة والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
وروى أنس بن مالك- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ. ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ. ولقد أتت عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأْكلُهُ ذو كبدٍ إلاَّ شيءٌ يواريهِ إبطُ بلالٍ”.
وربى النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه على التمسك بهذا الخُلُق، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النَّبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَن خَرَجَ في سَبيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا إيمَانٌ بي وتَصْدِيقٌ برُسُلِي، أنْ أَرْجِعَهُ بما نَالَ مِن أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ، أوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، ولَوْلَا أنْ أشُقَّ علَى أُمَّتي ما قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، ولَوَدِدْتُ أنِّي أُقْتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ” (البخاري).
وعنه أيضًا رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ما نقصت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع عبدٌ إلا رفعه اللهُ” (مسلم).
لقد طُبِعَت هذه التربية النّبوية في نفوس وقلوب الصحابة الكرام، فترجموها عمليّا في سلوكهم وحياتهم، فها هو مصعب بن عمير- رضي الله عنه- لما اقتنع بداخله بسلامة الدين والتوحيد وبخطأ ما عليه قومه أقبل مبايعًا للنبي- عليه الصلاة والسلام- فحرمته أمه من كل شيء كانت تعطيه إياه؛ من المال والمتاع والتجارة والثياب والطعام والرائحة الحسنة وما شابه ذلك من أنواع النعيم حتى إنه كان ساترًا ممكنًا منعمًا مرفهًا من أحسن وأجمل وأرفه شباب مكة.
وهذا كان ديدن الصحابة جميعًا في البذل والعطاء من أجل الدين، فسيدنا عثمان بن عفان- رضي الله عنه- عندما ضحَّى بماله وجهَّز ثلث جيش العسرة، قال صلى الله عليه وسلم: “ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ” (صحيح الترمذي).
مجالات مختلفة للتضحية
وتتسع ميادين التضحية في الإسلام لتشمل جوانب كثيرة، نذكر أهمها هنا على النحو التالي:
- التضحية بالنَّفس: وهي أعلى أنواع التضحية، ويكون ذلك بالجهاد في سبيل الله تعالى الذي يُعد ذُروة سنام الإسلام، وهو من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأفضلها، ومن التجارة الرابحة للإنسان، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” [التوبة: 111].
وتوعد الله- عز وجل- من ترك الجهاد والتضحية في سبيله، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ” (رواه أحمد).
- التضحية بالمال: فقد حثَّ الإسلام على الإنفاق وجعل ذلك من أعلى مراتب الإيمان واليقين بالله تعالى، يقول الحق- جل وعلا-: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات: 15].
- التضحية بالعلاقات الاجتماعية: وتشمل الأهل والعشيرة والأقربين، وأعظم موقف تجسدت فيه هذه هي هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة بعد أن تخلوا عن كل ما يتعلق بهم استجابةً لأمر الله تعالى الذي قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” [التوبة: 23].
- التضحية بالوقت والجهد: ومن أفضل الأمور التي تُضحي بوقتنا من أجلها هي الدعوة إلى الله عز وجل وإعطاء الجهد الكامل في تبليغها للناس، وفي قضاء حوائجهم وأجر ذلك مثل المجاهدِ في سبيلِ اللهِ، أو مِثلُ أجرِ الذي يَقومُ لَيلَه بالصَّلاةِ والذِّكرِ والدُّعاءِ، والصَّائمُ بالنَّهارِ، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ، كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهار” َ(البخاري).
- التضحية من أجل الوطن: فمتى كان وطن المرء وطنًا مسلمًا يُقيم شعائر الله تعالى، فإن التّضحية في سبيله واجبة على جميع أفراده، وللوطن في نفس المرء قيمة وقامة ومنزلة عظيمة، والله تعالى سوَّى بين القتل وبين الخروج من الأوطان؛ فقال: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66].
والدفاع عن البلاد وأهلها من الجهاد المشروع، ومن يُقتل في ذلك وهو مسلم يُعد شهيدًا؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صَلى الله عَلَيه وسَلم- يَقُولُ: “مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دَونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دَونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دَونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ” (الترمذي).
نماذج من التضحية
وكثيرة هي الصور المشرقة عن التضحية في الإسلام، فلقد ضحَّى النبي- صلى الله عليه وسلم تضحيات كبرى، وكان قدوة لكل مسلم إلى قيام الساعة، وسار الصحابة رضي الله عنهم على هذا الطريق، فقدموا من أجل دينهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلًا، وزخر التاريخ الإسلامي بأمثلة رائعة على تضحيات عظيمة قدمها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، نذكر بعضها كالتالي:
قال ابن إسحاق في السيرة النبوية: وفيمن نصب لعداوة النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب، وإنما سماها الله بهذا الاسم لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر، فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)} (سورة المسد).
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، “فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [غافر: 28] (البخاري).
وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطَّاب، يقول: “أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ، وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؛ فقالَ: أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا” (الترمذي).
وروى ابن عمر- رضي الله عنهما-: “أنَّ عمر بن الخطَّاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إنِّي أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قطُّ أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها. قال: فتصدَّق بها عمر: أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدَّق بها في الفقراء، وفي القُرْبى، وفي الرِّقاب، وفي سبيل الله، وابن السَّبيل، والضَّيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير مُتَمَوِّلٍ” (البخاري ومسلم).
ويقول ابن كثير، وهو يستعرض غزوة تبوك: “وقد كان فيمن شهد اليرموك: الزُّبير بن العوَّام، وهو أفضل من هناك من الصَّحابة، وكان من فرسان النَّاس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ، فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟ فقال: إنَّكم لا تثبتون، فقالوا: بلى! فحمل وحملوا، فلمَّا واجهوا صفوف الرُّوم، أحجموا، وأقدم هو، فاخترق صفوف الرُّوم حتَّى خرج من الجانب الآخر، وعاد إلى أصحابه. ثم جاؤا إليه مرَّة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجُرِح يومئذ جرحين بين كتفيه، وفي رواية: جُرح”.
وعن أنس- رضي الله عنه- أنَّ عمَّه غاب عن بدر، فقال: “غبت عن أوَّل قتال النَّبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أجد، فلقي يوم أحد، فهزم النَّاس، فقال: اللهم إنِّي أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدَّم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد، إنِّي أجد ريح الجنَّة دون أحد، فمضى فقُتل، فما عُرف، حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم” (البخاري ومسلم).
هكذا، لا يُمكن لفكرة أن تسود أو مبدأ أن ينتشر أو قيمة أن تعلو أو منهج أن يطبق أو نظام أن يستقر إلا برجال يؤثرون التضحية على القعود ويبذلون ما يملكون من نفس أو مال أو جهد أو وقت مهما كلفهم ذلك، وما من شك في أن الفرد الذي يُربَّى على العطاء ويتعودَ عليه، ويتحلى به؛ يكون قد قطع شوطًا كبيرًا في التخلص من سلطان الهوى، ونوزاع الأثَرَة، وكان قادرًا على مخالفة النفس الأمارة بالسوء، ومن يصبح كذلك يفُز بمثوبة الله عز وجل، ويربح رضاه، ثم رضا الصالحين من عباده.
المصادر والمراجع:
- مجموعة رسائل الإمام البنا: (رسالة الأسر – دعوتنا- بين الأمس واليوم- المؤتمر السادس
- مجلة الإخوان المسلمين – السنة الخامسة – العدد 12 – صـ 5 – 29 جمادى الأولى 1356هـ / 6 أغسطس 1937م.
- الدكتور إسماعيل علي محمد: التضحية.. مفهومها ونماذج منها.
- بكر أبو طاعة: التضحية والفداء في الإسلام.
- محمد بن عبد الرحمن العريفي: التضحية.
- عبد الحكيم بن محمد بلال: حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية.
- ابن كثير: البداية والنهاية، 7/15.