نهى الإسلام عن التشاؤم والتطير ودعا إلى التفاؤل في جميع الأمور، لذا فإنّ المسلم يعتقد اعتقادا جازمًا بأنّ الأمور تجري بيد الله وحده، لا يُشاركه إنسٌ ولا جنّ ولا طير، فَمَا كان وما هو كائن وما سيكون يجري بقدر الله، وعلى المسلم أن يأخذ بالأسباب ويسعى ويُفوّض الأمر إلى الله ويتوكل عليه.
ولقد جاء الإسلام ليُخلّص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويُقوّم السُّلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويُقدّم العلاج الشافي للأمراض، وهو علاج تقبله كل نفسٍّ سويّة، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، وجاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة، ومن هذه الأمراض التي وضع لها الإسلام علاجًا ناجعًا، مرض التطير والتّشاؤم.
مفهوم التشاؤم
ويُعرف التشاؤم في اللغة بأنه مصدر شؤم، والشّؤم: خلاف اليُمن، يقال: رجل مَشؤُوم على قومه، أي: غير مبارك، والجمع مَشَائِيم، وتشاءَم القوم به مثل تطيّروا به، ويقال: شُؤْم الدار: ضيقُها وسوءُ جارها، نَذِير شُؤم: علامة وقوع مكروه، ما ينبئ بشر ويبعث على الخوف، والتّشاؤم: توقع الشّر. وفي المعجم الوسيط: ” تشاءم: تطيّر به وعدّه شُؤْمًا”، ويضيف الإمام ابن عبد البر: “الشّؤم في كلام العرب: النحس”.
وفي اصطلاح أهل الشرع لا يختلف المعنى كثيرًا، فإنه يعني عندهم توقّع حصول الشرّ مطلقًا، وعرّفه الحليمي، بأنه “سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق”، أو هو توقع حدوث الشر أو المكروه من شيء ما تراه أو تسمعه وتتوهم وقوع المكروه به، ويكون وجوده سببًا في وجود ما يحزن ويضر.
ويأتي بمعنى تشاؤم الإنسان بشيء يقع تحت المناظر والمسامع مما تنفر منه النفس، ومما ليس بطبيعي، فأما نفارها مما هو طبيعي في الإنسان كنفاره من صرير الحديد وصوت الحمار فلا يعد من هذا.
الإسلام يحذر من التشاؤم
وحذر الإسلام من التشاؤم باعتباره عادة جاهلية، ولِمَا يُنافي قول الله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].
وهو باب من أبواب الشّرك، ويُذهب التّوكل على الله، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، وقال- سبحانه وتعالى-: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود: 123]، وقال- جل وعلا-: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [الشورى: 10].
وكان التطير والتّشاؤم عادة لكثير من الأمم السابقة قبل الإسلام، فقد ذكر الله تعالى شيئا عنهم، فقال سبحانه في قصة ثمود وتشاؤمهم من نبيهم صالح- عليه السلام-: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) [النمل: 47].
وفي قصة موسى- عليه الصلاة والسلام- مع قومه، قال الله- عز وجل-: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 131].
وفي قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، قال الله- تبارك وتعالى-: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ۚ أَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) [يس: 18، 19].
وقد أوضح النبي- صلى الله عليه وسلم- فساد الطيرة والتشاؤم، وكان يُعجبه الفأل، لأنه حسن الظن بالله، وأوصى المُسلم بإدخال السرور على أخيه المسلم، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: “بَشِّروا وَلا تُنفِّروا، ويَسِّروا وَلا تُعسِّروا” (صحيح أبي داود).
وروى أبو هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: “لا عَدوى ولا طِيَرةَ وأُحِبُّ الفألَ، قالوا يا رَسولَ اللَّهِ: وما الفَألُ؟ قالَ: الكلِمةُ الطَّيِّبةُ” (صحيح الترمذي).
وعن قبيصة بن المخارق قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “الْعِيَافَةُ (زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل)، وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ (الخط يخط في الأرض، ويضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة) مِنَ الْجِبْتِ (السحر والطاغوت أي الشيطان) (رواه أبو داود).
وعن بريدة- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ” (أبو داود). وعن عروة بن عامر- رضي الله عنه- قال: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَقُوَّةَ إِلَّا بِكَ” (أبو داود).
ونهى النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- عن التّشاؤُم وهو في آخر حياته المباركة؛ فعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَقُولُ: “لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ” (مسلم).
قال ابن القيم- رحمه الله-: “فَمَنْ ظَنَّ بِأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَلَا يُتِمُّ أَمْرَهُ، وَلَا يُؤَيِّدُهُ وَيُؤَيِّدُ حِزْبَهُ، وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ، وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ، وَأَنَّهُ يُدِيلُ الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا التَّوْحِيدُ وَالْحَقُّ اضْمِحْلَالًا؛ فَقَدْ ظَنَّ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَنَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ”.
وسائل تربوية للعلاج
ومن تعاليم الشريعة الإسلامية يُمكن استخراج العديد من الوسائل التربوية لعلاج التشاؤم والتطير، من ذلك:
- الإيمان بالقضاء والقدر: فهو ركن من أركان العقيدة الصحيحة، وأصل من أصول الإيمان، ومعلوم أنّ التّشاؤُم ينافيه؛ لأنّ فيه اعتراضًا وتسخطًا على أقدار الله تعالى الجارية على خلقه، وأنه لا يقع شيء إلا بقدر الله وقضائه ومشيئته، فالمؤمن يجب أن يؤمن بذلك، ويتوكل على الله تعالى، ولا يرده شعوره بالتّشاؤم عن شيء فإنه لا يضره بشيء. قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]. أي: قدّر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، وإن كل كائن في هذه الحياة، فهو بتقدير الله وتكوينه على مقتضى الحكمة البالغة والنظام الشامل.
- مصاحبة المتفائلين: فللصُحبة الصالحة مكانة عظيمة في الإسلام، لِمَا لها من أثر واضح في حياة الإنسان، وذلك في معتقده وسلوكه وأفعاله وتوجهاته، والإنسان يميل بفطرته إلى مخالطة الآخرين ومصاحبتهم، ومجالستهم والتأثر بهم. ولعل المبتلى بالتّشاؤم أولى من غيره بمصاحبة المتقين الأخيار؛ لأنّ مصاحبتهم وملازمتهم ستؤدي إلى اكتساب صفاتهم من تقوى وإيمان، ومكارم أخلاق، وتفاؤل وجد وإقدام، وحُسن توكّلٍ على الله تعالى في السراء والضراء. لذلك أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتزام الصادقين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
- الدعاء: فهو الصلة القوية بين الخالق والمخلوق، وهو وقوف العبد بين يدي الله تعالى وسؤاله على وجه الافتقار والعجز والانكسار. وقيل في معناه إنه: “استدعاء العبد ربه- عز وجل- العناية واستمداده إياه المعونة”.
- الفأل الحسن: حثّ الله تعالى عباده على التفاؤل والبعد عن التشاؤم في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. وقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5-6]. وعلى هذا فالتوكّل مرتبط بحُسن الظن بالله تعالى، وكلاهما علاج لما يصيب المسلم من دواعي الشّؤم.
- حسن الظن بالله والتوكل عليه: فهو له أثر كبير في حياة المؤمن وبعد مماته، فالمؤمن حين يحسن الظن بالله تعالى لا يزال قلبه مطمئنًا، ونفسه راضية بقضاء الله وقدره وما يصيبه في السراء والضراء، بخلاف التّشاؤُم الذي هو سوء ظن بالله- عز وجل- بغير سبب، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى والتوكل عليه في كل أحواله.
- العلم النافع: فما كان التّشاؤم عادة من عادات الجاهلية والأمم السالفة إلا بسبب جهلهم وضلالتهم، لذلك عندما جاء الإسلام حثّ على طلب العلم، ومدح الله- سبحانه وتعالى- أهل العلم في آيات كثيرة، وكذلك السُّنة الشريفة، إذ هو من أفضل الأعمال الصالحة، ومن أفضل العبادات وأجلها، فقد رفع الله تعالى شأن أهل العلم بقوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
إنّ التطير والتشاؤم يُنافي كمال الإيمان، ويضاد التوكل الخالص، ولا يجلب خيرًا ولا محبوبًا، بل يدعو إلى تعطيل العقل، وبلبلة الفكر، واضطراب النفس، وتعطيل المصالح، وترك السعي والتوكل، وهذا كله يقود إلى الفشل في الحياة، ولا يزال بالمرء حتى يصير عبدا للخُزعبلات، وضحية للدجل والضلالات، بل هو من الشّرك المُنافي لكمال التوحيد الواجب.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 12/315.
- الجوهري: الصحاح 5/1957.
- الفيومي: المصباح المنير 1/328.
- أحمد مختار: معجم اللغة العربية المعاصرة 2/1154.
- ابن حجر: فتح الباري 10/215.
- ابن الجوزي: كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/482.
- ابن عاشور: التحرير والتنوير 9/66.
- الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 148.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 7/482.
- تفسير المراغي 28/141.
- الرازي: مفاتيح الغيب 1/778.
- ابن القيم: زاد المعاد 3/206.