يعد التسويف عقبة من العقبات الكبرى التي تقف أمام إنجاز الأعمال، والتطور نحو الأفضل، بل إنّ المُسوف في العبادات يقضي دهره متعديًا على حدود الله، مفرطًا في جنبه حتى إذا جاءه الموت، وكشف عنه الغطاء، وعاين الأمور على حقيقتها يتحسر ويندم، ويتمنى التأخير، أو الرجعة إلى الدنيا ليتدارك أمره، وأنى له ذلك! وقد ضاعت منه الفرصة وفات الأوان.
ولا شك أنّ الوقت أهم سلعة في يدي الإنسان، والفطن مَن يستطيع إنجاز أكبر الآمال في الوقت المحدد له دون تسويف؛ لأنّ الوقت هو الحياة، فإذا انقضى جزء يوشك أن ينقضى الكل، والإنسان خُلق في نصب، أي أنه سيواجه كثيرًا من العراقيل التي قد تقعده عن المسير، مما قد يُركنه إلى التسويف، الأمر الذي يضيع عليه كثيرًا من الوقت الذي لن يعود أبدًا، وفي هذا الموضوع نعرض أسباب التسويف وعلاجها.
مفهوم التسويف وأسبابه وأنواعه
يُعرف التسويف في اللغة بالتأخير، من قول سوف أو إضافة السين إلى الفعل مثل قول: سوف أفعل، أو سأفعل. وفي الاصطلاح هو ميل الإنسان إلى تأجيل المهام الواجب القيام بها، دون أن يكون هناك مبرر منطقي يستدعي ذلك، على الرغم من علمه المسبق بالأضرار السلبية الناتجة عن تأجيلها.
ويرى البعض أنه فشل تنظيمي ذاتي، حيث يقوم الناس طواعية ولكن بشكل غير عقلاني بتأخير المهام الأساسية.
وتتعدد أسباب التّسويف وتشتمل على العديد من العوامل كالسّمات الشخصية، وأنماط اتخاذ القرار، ووجهات النظر الزمنية، والتنظيم العاطفي، وحتى العوامل البيولوجية، ومن أهم أسبابه:
- ضعف الهمة: وهو مرض يُصيب الإنسان مع ضعف جانب الخوف وتغليب جانب الرجاء، بالإضافة إلى مصاحبة أهل التّسويف.
- السمات الشخصية: حيث تركن بعض الشخصيات إلى تأخير المهام، وعدم القدرة على ضبط النفس، والتشتت، وعدم القدرة على التنظيم، فتركن للتسويف دائمًا.
- الرغبة الملحة في الإشباع الفوري: وبسببها يُصاب الكثيرون بحالات من الملل وعدم الصبر، ولا يمتلكون القدرة على انتظار النتائج طويلة الأجل، لذلك يفضلون التسويف عن العمل والسعي.
- الصحة النفسية: ولها تأثير كبير في إيجابية الإنسان وسلبيته، فالإنسان المُقبل على الحياة، المُقدّر لغاياته، لا يُسوّف عمله أو يُؤخّره، على عكس الإنسان المُكتئب أو المصاب بالاضطراب والقلق، وقد تقعده هذه الأمور عن التعجيل بمهامه.
- ضعف الإرادة: حيث يعجز البعض أمام المشتتات التي تواجهه على تنظيمها أو إنجاز المنوط به من مهام، فيهرب لوسائل أخرى ليقضي فيها وقته كوسائل التواصل أو المقاهي أو غيرها.
- غياب الغاية: فعدم وضوح الغاية من العمل وقيمته وأهميته واستشعار المردود من ورائه يدفع الإنسان للكسل والتسويف.
- الخوف من البداية: فهناك أناس يُضخّمون ويُعقّدون أمور الحياة، ويتصورون سيناريوهات في غاية الصعوبة، لذلك لا يعرفون كيف يبدأون.
- التوقعات العالية: فالبعض يضع أهدافًا وتوقعات وطموحات أكبر من قدراته، فإذا أخفق مرة أصابه الإحباط والتّسويف.
- وليس كل تسويف ضرر، فكثير من الشخصيات الناجحة المنظمة لشؤون حياتها، تؤجل بعض الأعمال لاستعادة نشاطها ولتخفيف الضغط عليها، وهو ما يجعل بعض أنواع التأجيل إيجابي والآخر سلبي غير مرحب به:
- تسويف إيجابي: حيث يعد الشكل الآخر للتسويف، ويتمثل في دافع الشخص نحو تأجيل المهمة عن قصد ورغبة، لأنّ العمل تحت ضغط يمثل له حافزًا قويًا وتحديًا سريعًا لإتمام المهام.
- تسويف السلبي: وهو الشكل غير المحمود من أشكال التأجيل التي تدفع المرء إلى تأجيل المهام والأعمال لوقت قد يطول أو يقصر، لفقدان الهمة العالية أو الشغف أو الصعوبة في اتخاذ القرارات المناسبة بشأن إنجاز المهمة.
ويضيف علم النفس بعض أنواع الشخصيات المُسوّفة، ومنها:
- الشّخصية الباحثة عن الكمال: الذي يهتم صاحبها بكل التفاصيل حتى الثانوية، فكثير من الناس يخشون البدء في المهمة لشعورهم بالتوتر والخوف من الفشل، فهم يريدون تنفيذ كل المهام بإتقان، فيجعلهم ذلك أسرى المهمة والخوف من المضي قدمًا.
- الشخصية الحالمة: الذي يستمتع صاحبها بوضع الخطة أكثر من تنفيذها أو القيام بها، ويكون مبدعًا للغاية؛ لكنه يجد صعوبة في تنفيذ المهمة أو إنهائها.
- الشخصية المتهربة: وهو الخائف من الإقدام على المهمة ويعمد لتأجيلها خوفًا من فشله وهربًا من كلام الآخرين.
- الشخصية الروتينية: ولديها مشكلة في تحديد الأولويات في المهام ويصعب إرضاؤها، وبخاصة إذا حُمّل بالكثير من المهام، بل يُعطّل المهام لأنه يرى أن جهده المبذول أكبر مما يحصل عليه.
- الشخصية صانعة الأزمات: وهي التي تتعمد صنع الأزمات وتؤجل العمل في المهمة لآخر لحظة ما يدفعه للاستعجال.
الإسلام يُحذر من التسويف
ولقد حذر الإسلام من التسويف وواجهه بطرق تربوية وسطية لا غلو فيها ولا تفريط ومتناسبة مع طبيعة النفس البشرية مع بذل بعض الجهد، إذ نادى الله- جل وعلا- على العباد بقطع حبل التسويف بسيف الإنجاز والمسارعة، والجد والمسابقة.
يقول تبارك وتعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133]. وقال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}[الحديد: 21].
وحينما وصف خير عباده وأصفياءه من خلقه من الأنبياء والمرسلين قال جل شأنه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، ووصف أهل خشيته من ورثة جنته فقال: {أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
وحذر كل مَن يسوف في فعل الخيرات، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(المنافقون:10-11).
وهذا النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- يحث على اغتنام العمر والصحة والشباب والفراغ فيقول: “اغتَنِم خمسًا قبل خمسٍ: حياتَك قبل موتك، وصحَّتك قبل سقَمِك، وفَراغك قبل شُغلك، وشَبابك قبل هَرَمِك، وغِناك قبل فَقرِك”، (حديثٌ الصحيحٌ رواه أحمد في “الزهد”، والحاكم والبيهقي وأبو نعيم).
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمبادرة بالأعمال قبل تبدل وتغير الأحوال فقال: “بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْظُرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ”. (رواه الترمذي وقال حسن غريب).
خطرٌ على الفرد والمجتمع
وخطر التسويف على الفرد والمجتمع عظيم، ذلك أنه من شر الأدواء التي تخالط القلب، وتخامر العقل، لأنَّهُ إيحاءٌ مُضِلٌ مِنْ إيحاءاتِ الشيطانِ، وهو جند من جنود إبليس، يغر به الإنسان ويمنيه حتى يجنح به إلى الدَّعَةِ والهَوان، فهو ألد أعداء الزمن، هادم للعمر بلا فائدة، ومضيع للوقت بلا منفعة، ومفوت لمصالح الإنسان الدنيوية والأخروية.
وهذا الداء يَصدُّ عَنْ جادَّةِ السَّبيلِ، ويُحِيلُ القُوى والطَّاقَاتِ إلى وِجْهَةِ الضياعِ والتعطيل، يَهدِمُ عُمرَ الإنسانِ ويُرديه، وعنِ كل إنجاز ورفعة يُبعدُه ويُعمِيه، ولكأسِ التعاسةِ والشقاوةِ يجرعه ويَسقيه، وهو المسؤول عن الإخفاقات، والقصور عن المعالي والكمالات، من اتخذه طريقًا عظمت تبعاته ودامت حسراته، فمن زرع “سوف” لا بُد وأن يحصد يومًا “ليت”، ومن أبرز مخاطر هذا الداء:
- فقدان الوقت الثمين وإضاعة الفرص، والعجز عن إنجاز المهام.
- الحسرة والندم والحرمان من الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
- تراكم الأعمال والمهام وصعوبة الأداء وتأخر الواجبات، فلا يدري المرء أيها يقدم، وأيها يؤخر، ومن ثم يتشتت فكره ويضيع سعيه، ويصبح أمره فرطًا، ولا يمكن أن ينجز واجبًا من الواجبات.
- ضياع الهيبة وعدم القدرة على إنجاز المهام، فتضيع هيبته وتأثيره في قلوب ونفوس الناس فلا يستمع له أحد بعد ذلك.
- اتخاذ قرارات سلبية وغير سليمة، بسبب ضيق الوقت والتأخر في إنجاز العمل.
- الحرمان من العون والمدد الإلهي، ذلك لأن الله لا يمنح عونه للمسوفين والمفرطين في جنبه.
كيفية العلاج
لقد جعل الله لكل داء دواء، وأول مراحل العلاج أن يُحدد الإنسان الداء ويقف على مظاهره وأسبابه حتى يستطيع وضع العلاج المناسب والفعال له، ومن طرق علاج التسويف التي يستطيع كل إنسان التفاعل معها:
- وضوح الغايات وأخذ النفس بالحزم، وقوة العزيمة، ولأن تتعب النفس اليوم لتستريح غدًا، خير لها من أن تستريح اليوم، وتتعب غدًا.
- حسن الاستعانة بالله سبحانه ومداومة الدعاء والضراعة إليه بالتحرر من العجز والكسل، فكان من دعائه- صلى الله عليه وسلم- “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل”.
- الابتعاد عن مصاحبة الكسالى، والمُسوّفين، والبحث والتقرب والارتماء بين يدي ذوي الحزم، والعزم، والقوة.
- كن واضحًا حول هدفك المنشود من المهام التي تقوم بها، وحدد جدولًا زمنيًا لكل منها؛ حيث سيرغمك هذا على التركيز والانتهاء من مهمتك خلال الإطار الزمني المحدد.
- الواقعية وعدم الانجرار وراء الأحلام، بل تحديد الهدف وواقعيته والالتزام به والسير وفق منهجية واضحة.
- تربية النَّفس على الجديَّة والصرامة في تَنفيذ الأعمال وتحقيق الأحلام بعزيمة وهمَّة ونشاط.
- النظر في سيرة السلَف الصالح، وكيف كانوا ينأَون بأنفسهم عن هذه الخصلة الذميمة.
- تحديد الأولويات المهمة أولًا وعدم الانسياق وراء الثانويات والفرعيات أو الانشغال بها والتركيز على ما ينفعك وينفع غيرك.
- مراجعة الأعمال والوقوف على الإيجابيات والسلبيات ونقاط الضعف والقوة التي قد تكون أصابتك ووقفت عليها أثناء إنجاز المهمة من أجل تلافيها في المهام المقبلة.
- تقسيم العمل لأجزاء صغيرة: حيث يساعد على زيادة الشغف والحماس لإنجاز باقي المهام والتغلب على الخوف الذي يلازم الإنسان عند الشروع في أي عمل جديد.
- التغلب على المشتتات: لتأثيرها الكبير على تثبيط الإنسان وعدم إنجاز المهام أو صرفه عن إتقان أو إنجاز المهمة.
- عدم العمل تحت تأثير الاختناق من شدة الضغوطات فيجب التخلص منها والعمل بهدوء وتروي ونفس راضية.
التسويف يعني ضعف إدراك قيمة الوقت، كما قال الحسن البصري- رحمه الله-: “يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب بعضك أن يذهب كلك”، وقد يعني وجود مشاكل عامة في الحياة وضعت الإنسان تحت ضغوط كبيرة يعجز عن إدارتها، وإدارة أعماله، وعلاجه يكمن في التدرب على مهارات اتخاذ القرار والاستعانة بالله في كل الأمور.
المصادر والمراجع:
- مدونة إدراك: ما هو التسويف؟ معناه، وأسبابه!: 2 فبراير 2022.
- رقية مقلد: مفهوم التّسويف؛ وأهم 6 مصطلحات تفسر المماطلة والتأجيل، نوفمبر 2022.
- موقع النجاح: 5 أنواع للمماطلة، وكيف نتغلب على كلٍّ منها؟: 25 أغسطس 2020.
- إسلام ويب: احذروا .. (سوف) !!: 26 نوفمبر 2017.
- هبة سعيد: تأثير تأجيل الأعمال والتسويف على حياتك، 25 فبراير 2020.
- محمود أبو عادي: لا تُؤجّل قراءة هذا التقرير إلى وقتٍ لاحق: إليك نصائح علم النفس للتغلّب على عادة التسويف، 1 يونيو 2022.