تُعد تربية الأطفال من أولويات الأمهات والآباء، بدءًا من اليوم الأول للولادة ومرورًا بالمراحل العمرية المختلفة، لكن أحيانا يسقط المُربّي في فخ التسلط التربوي الذي يتسبب في كوارث تربوية تعصف بالمتربي، وتُؤدّي إلى خلل في الأسرة.
ورغم صِغَر أعمار الأطفال وبساطة احتياجاتهم، فإنّ مسألة تربيتهم من الأمور الصعبة التي تحتاج إلى تضافر جهود الآباء والأمهات، لإخراج نبتة طيّبة إلى المجتمع. وهذا لا يتطلب بالطبع تعليم النشء بالطريقة التي تعلّم بها أولياء الأمور، لأنّ هناك متغيرات تحدث في كل جيل لا بُد من مراعاتها حتى لا ينفر الأبناء من التربية وتتشوّه أفكارهم.
معنى التسلط التربوي
يعني التسلط التربوي: ممارسة البطش والقوة والإكراه والإرهاب والقمع والعدوان، وتسلط المربي وفرض آرائه وطريقة تعليمه على المتربي بمختلف الوسائل وتنوعها، ويُمارس المربّي التسلط بلا حدودٍ عن طريق القسر والإكراه.
ويرتبط مفهوم التسلّط مع معاني الاضطهاد، والتعصب، والعدوان، والتشدد، والعنف، والإرهاب، والقهر، والعبودية، والإكراه، والسلطوية، والاستبداد، كما يرتبط بمعاني العنف التربوي، والقمع التربوي، والإرهاب التربوي، والإكراه التربوي، والاضطهاد التربوي، والاستلاب التربوي، والقهر التربوي (1).
أسباب التسلط التربوي
إن التسلط التربوي يهدف غالبًا إلى الحفاظ على الوضع القائم، وعدم الرغبة الحقيقية في التغيير، يعود ذلك إلى أسباب كثيرة ومتفرقة ما بين اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية وغيرها، قد تُؤثر في سلوكيّات المُربّي، ومن بين هذه الأسباب:
- الجهل بالطرق التربوية الصحيحة، وبتأثير أسلوب العنف على المتربّي.
- رغبة المُربّي في أن يبقى الحاكم الأوحد، فلا ينازعه أحد في أي أمر، ولا ينبغي أن يخرج أحد عن طوعه أو أن يُخالف أمره في صغيرة أو كبيرة، ناسيًا أنّ لكل متربٍّ شخصيته التي يجب أن يتفرّد بها.
- الاعتقاد بأن التسلط أو فرض الرأي هو الأسلوب الأسهل في ضبط النظام والمحافظة على الهدوء الذي لا يُكلف الكثير من العناء والجهد.
- الظروف الاجتماعية وصعوبات الحياة التي نشأ فيها المُربّي وأثرت عليه كأن يسير على ما تعلّمه من مُربيه السابق، أو أنّ البيئة التي نشأ فيها تفرض عليه ذلك.
- تَتَرُّس المتسلطين خلف ذريعة عدم خبرة المتربين، وأنّ المربين والمعلمين يعرفون مصالحهم أكثر منهم، وهو ما يدل على فقدان الثقة في المتربين.
- قد يكون سبب التسلط رغبة الأب في تحقيق حلم فشل هو في تحقيقه بنفسه، فهو يُريد أن يُحقق حلمه في أبنائه، وهذا بجانب كونه فشلا تربويًّا فهو أيضا أنانية مُطلقة (2).
البذور التربوية للقهر وآثاره
إن التسلط التربوي والقهر يبدأ مُنذ الصغر مع التربية ويكبر مع الإنسان حتى يستسلم ويخضع للأمر الواقع، وهو ما يُؤثر على المتربين فينتج أجيالًا ضعيفة مقهورة ومتسلطة، ما يُؤدي إلى انهيار الأسر والمجتمعات.
يقول الدكتور محمد صديقي: “المقهورون يتوارثون القهر، والقاهرون يتوارثون الجبر والقمع، وإذا ما ظهر ما يخالف هذه العادة المحكمة في العقول، استهجنها المقهورون قبل القاهرين، لأنهم ألفوا الذّل والهوان واستمرؤوا الإهانات والاحتقار ممن تسلط عليهم. وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[الزخرف:54]”.
فالكبت التلقائي للمشاعر – في المراحل العمرية الأولى- يُساهم في طمس الشخصية المستقلة الحرة القادرة على اتخاذ القرار التي تستطيع انتقاد الوضع غير السوي (3).
ويتسبب القهر والتسلط في إحداث مشكلات كبيرة بشخصية المتربي، إذ يؤثر عليه تأثيرًا مباشرًا، فقد يشعر بالاازدراء، أو الاحتقار، أو الامتهان، أو السخرية، أو التهكم، أو التبخيس، أو أحكام الدُّونية، أو التخويف والحرمان وهي أساليب أكثر خطرًا من أثر العقوبات الجسدية.
وبعض المربين يبحثون عن أخطاء المتربي ويُبدون ملاحظات نقدية هدّامة لسلوكه، ما يُفقده ثقته بنفسه، ويجعله مترددًا في أي عمل يقدم عليه، خوفًا من حرمانه من رضا الكبار وحبهم.
وقد تَتَّحِد جهود المدرسة والأسرة التربوية في تكريس حالة التَّسلُّط، فلا يُسمح للأطفال لا في المدرسة ولا في الأسرة بإبداء آرائهم أو توجيه انتقاداتهم، وتكون العصا أو أساليب القمع النفسية مُتوفرة وجاهزة للصراخ وتدمير كيان الطفل البريء ومسخ شخصيته.
وكل ذلك قد ينتج عنه القضاء على أجواء الإبداع والإنجاز والإنتاج، ما يُؤخر المجتمع سنينَ إلى الوراء، وتتفشى حالات الفساد وترتفع نسب الإجرام. كما يُنمِّي القهر في شخصية المتربي قِيَمًا لا أخلاقية سوداوية، مثل: البغضاء، والضغينة، والجمود، والكراهية، والقلق، والخجل، والاضطراب، والإثم، والشعور بالنقص، وفقدان القدرة على التكيف، والاتّكالية وروح الانهزام (4).
بين التربية الحقيقية والتسلط
إنّ التربية الحقيقية القائمة على أُسُس حكيمة تعمد إلى تفجير طاقات الفرد، كما أنّها تسعى إلى بناء شخصية الإنسان بشكل متكامل ومتوازن وطبيعي، وتضع على رأس أولوياتها إعداد الفرد المفكر، والمبدع، والمتفوق.
بينما يعمل التسلط التربوي على قتل طاقات الفرد وكبتها ومنعها من الظهور بأساليب مُباشرة أو غير مباشرة، وإضعاف شخصية المتربي وإضعافها، بل وتشويهها، واغتيال العقول والنفوس، وتقويض مهارات الإنسان وشل قدراته.
وتشير الدكتورة إيمان السيد إلى أنّ التسلط على الطفل يقود إلى نتائج سلبية وخيمة، منها: انخفاض التحصيل الدراسي، والاكتئاب، والشعور بالذنب، والخجل، واختلال الصورة الذاتية، والعزلة، وضعف الثقة بالنفس (6).
وإذا نظرنا إلى قصة لقمان مع ابنه وهو يعظه، نجد أنّه كان حكيمًا حينما خطّ المسيرة التربوية لتعليم فلذة كبده، وذلك بأسلوبٍ خالٍ من القهر أو الاستيلاب التربوي، فهو لم ينظر إلى ابنه على كونه وريثه الذي جاء من ظهره، لكن نظر إليه كمتربٍّ يحتاج إلى معرفة مفاهيم التربية الحقيقية، فعمد إليها بأساليب مختلفة.
لقد اتصف لقمان بصفات القائد التربوي والمُصلح الفاعل المتمحور حول الحكمة ومن هذه الصفات:
- الشمولية في التربية وفي مادة التوجيه، فلم يقتصر لقمان على جانب مُحدد، بل سعى لتربية ابنه على جوانب متعددة، كالعقيدة والشريعة والأخلاق وغيرها.
- ومن حكمة لقمان أنه راعى الأولويات في التربية، حيث ابتدأ بالعقيدة، كونها القاعدة الصلبة للدين الإسلامي والرسالات السماوية وللتربية عمومًا بكل صورها.
- التحبب للمتربين والمتلقين والتلطف بهم والعطف عليهم، وهو أسلوب تربوي استخدمه لقمان بمنادته لابنه: {يَا بُنَيَّ …}.
- في عالم التربية والوعظ لا بُد من التمثيل من الواقع حتى تتضح الوصايا والمسائل والقضايا غير المحسوسة، وهو ما أظهره لقمان في وصاياه التربوية (6).
بدائل التسلط في المنظومة التربوية
رأينا النتائج الناجمة عن التسلط التربوي وأثره على المتربي بل ومردوده على المجتمع ونهضته، وهو ما يجعل المربين يراجعون طُرُق التربية التي يسلكونها مع المتربين، ليكونوا نموذجًا يُحتذى به في الفهم الراقي، وذلك من خلال:
- اتّباع أسلوب الديمقراطية والتسامح وعدم التسلط والتشدد ومعاملة المتربين بطريقة تساعدهم على ازدهار شخصيتهم والتعبير عن استقلاليتهم.
- البعد عن أسلوب التحكم أو التشدد، الذي يتحكم أولياء الأمور أو المربون من خلاله في كل تصرفات المتربي بشكل زائد على الحد، ولا يسمحون له ولو بقدر صغير من الحرية، للتعبير عن نفسه أو ما يُريد.
- عرض الخيارات المختلفة على المتربين يُعطيهم إحساسًا بالاستقلال ويساعدهم على اتخاذ القرارات المناسبة.
- التقرب لهم ومشاركتهم ألعابهم وأعمالهم والسؤال عنهم والاطمئنان على أحوالهم وتفقدهم، ما يزيد من معدلات التواصل والحب بين المربي والمتربي (7).
وأخيرًا، يقول الدكتور محمد أحمد الراشد: إن التربية القائمة على القهر لا تنتج إلا المقهورين، والمجتمع المقهور بحد ذاته لا ينفع في دفع مفسدة ولا جلب مصلحة.
ومحنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلال فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربيةٍ سخَّرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدا صيد المخططات في سرور (8).
المصادر:
1- ظاهرة العنف: المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 132، مركز مطبوعات اليونيسكو، القاهرة، 1989م.
2- إسلام ويب: التَّسلّط التّربوي.. قبضة حديدية وآثار مدمرة، 5 أبريل 2014،
3- محمد صديقي: تربية المقهورين بين المدرسة والمجتمع، 4 مارس 2021،
4- التّسلط وأثره على الطفل: 30 أكتوبر 2013،
5- التّسلط الأُسَري وأثره على التنشئة الاجتماعية:
6- إيهاب برهم: لقمان الحكيم .. قائد تربوي مبدع،
7- رانيا عيسى: نصائح لمساعدتكم في تربية أطفالكم، 7 يونيو 2018،
8- محمد أحمد الراشد: المنطلق، دار المنطلق،1994م، صـ40.