المؤلف: د. ماجد عرسان الكيلاني.
الناشر: دار القلم- دبي- الإمارات العربية المتحدة- الطبعة الأولى- 1426هـ/2005م.
يركز هذا الكتاب على “التربية التجديدية” التي يستهدفها في تكوين الأفراد والجماعات والمؤسسات، بعيدًا عن تربية القولبة العقلية والإرادية. فالكتاب يهتم بالبحث في مقومات الشخصية الناضجة القادرة على حمل مسؤوليتها، وفي القيم التي تبعث الفاعلية في الأمة وتؤهلها لحسن استثمار مقدراتها، وتلك التي تحول دون النضج والفاعلية، هذه المقومات التي أصبحت ضرورة ماسة لتحديد منطلقات الإصلاح وأولويات التجديد.
ويطرح المؤلف بعض الأسئلة التي ينطلق منها في بحثه: لماذا هذا التناقض الحاد في حياة العرب؟ وأين تبدأ الأزمة؟ ومن أين يبدأ التشخيص؟
ويرجع ذلك كله إلى وجود عطل في نظم التربية التي تمد “الإنسان” إنسان الأمة بالقيم والاتجاهات، وتزوده بالمعلومات والخبرات، وتنمي فيه القدرات والمهارات. ويركز على العوامل التي تعيد إلى الإنسان فاعليته والأمة فاعليتها. وفق تصورات التربية التجديدية، بعيدًا عن تربية القولبة العقلية والإرادية، والمجتمع المغلق.
ويلفت المؤلف انتباه كل مسلم عربي غيور على دينه إلى قوى العدوان التي أخذت تتهيأ لمنازلة الدائرة الإسلامية، والدخول في مواجهة صريحة مع الإسلام نفسه، بغية إلغائه، وأن يستبدل به الإسلام الذي يحفظ لإسرائيل دوام التفوق والوجود، يستمد محتواه من “قرآن أمريكي- يهودي جديد”، تحت مصطلحات: نشر الديمقراطية، وصيانة الحريات، التي تقود إلى التشرد والضياع والحيرة، فلا تقوم للأمة قائمة، ولا يتحرك لدفع العدوان جيل.
الوصف العام للكتاب
يتكون هذا الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب تتضمن تسعة فصول؛ ويعرض الباب الأول: معنى الفاعلية وأهميتها، ومعنى التجديد وأهميته. ويتناول الباب الثاني: التربية وتجديد درجات الشخصية وعاداتها. ويختص الباب الثالث: بالتربية وتجديد الفاعلية عند الأمة. ويخصص الباب الرابع: للخلاصة والتوصيات. وهذا تفصيل موجز لها:
الباب الأول: معنى الفاعلية وأهميتها ومعنى التجديد وأهميته
يوضح المؤلف أن الفاعلية تعني بشكل عام:” العمل على بلوغ أعلى درجات الإنجاز وتحقيق أفضل النتائج”. ويوصف القادة بالفاعلية عندما تكون (المخرجات Output) أو النتائج التي يحصلون عليها أكثر وأحسن من (المدخلات Input)، أي الجهود والتكاليف والموارد البشرية والمادية التي استثمروها.
أما عن معنى (التجديد)، فيوضح المؤلف أن التجديد في بحثه – يعني أربعة أمور: الأول: تجديد معاني مفردات القاموس اللغوي الذي يتكون منه المرجعيات العقدية والمصطلحات العلمية، وذلك بردها إلى أصالتها ومعانيها الشاملة الواسعة. والثاني: تجديد إنزال النصوص المرجعية والثوابت العقدية التي أسهمت في إقلاع الأمة في ميادين الحضارة في العصور التي مضت، على وقائع العصر الحاضر ومشكلاته، بغية استنباط الحلول النظرية والتطبيقية اللازمة لمواجهة التحديات، وتلبية الحاجات التي يواجهها أبناء العصر الجديد. والثالث: تجديد نظام القيم بالقدر الكافي لتنظيم الدائرة الجديدة للعلاقات الإنسانية. والرابع: تجديد أشكال التفكير الملائمة للمعارف والتصورات الحديثة.
ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن التجديد في أمور الإسلام، وأنه أصل أصيل وجَّه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عند قوله: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) أو (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها).
ويشير المؤلف إلى أن الحديث يقصد بالتجديد هنا: ليس تجديد (الدين) نفسه. وأمر الدين هو رسالته، ومعالجته للأمور الجديدة في ميادين الحياة المختلفة، وكيفية التفاعل معها كلها لمواجهة الحاجات والتحديات القائمة في الامة المسلمة. لذلك يتم (التجديد) في الإسلام من خلال أربعة أمور: الأول: تجديد التعرف على محتويات الألفاظ والمصطلحات القرآنية كما هي في القرآن، والتحرر من الأفهام الخاطئة لهذه الألفاظ خلال فترات الانحراف أو الجمود. والثاني: تجديد إنزال نصوص الكتاب والسنة على الواقع الجديد بغية إفراز الاجتهاد المفضي إلى بلورة حلول نظرية وعملية جديدة لمواجهة التحديات وتلبية الحاجات الجديدة. والثالث: تجديد نظام القيم من خلال إعادة قيمة (العدل) أو القسط الجماعي بدل التركيز على (الأخلاق الفردية). والرابع: تجديد مناهج التفكير عند الإنسان العربي، بحيث يحل النقد الذاتي محل التفكير التبريري، والتفكير الشامل محل التفكير الجزئي، ويحل التفكير العلمي محل الظن والهوى إلى آخر أنواع التفكير المنشودة.
ثم يبين المؤلف أن للتجديد ميدانين: ميدان النفوس الفردية، وميدان الحياة الاجتماعية. فالنفوس الفردية مفطورة على التذبذب في النمو عبر درجات فكرية نفسية تبدأ من درجة الاعتماد على الغير، وتنتهي بالنضج الفكري النفسي المميز للرشد الإنساني. أما ميدان الحياة الاجتماعية، فالأمة كذلك مفطورة كذلك على التأرجح في النمو عبر درجات فكرية، بدءًا من درجة الغياب الاجتماعي ودرجة الوعي الساذج، حتى مرحلة الوعي الناضج والقدرة على المشاركة الجماعية في التخطيط والتنفيذ.
الباب الثاني: التربية وتجديد درجات الشخصية وعاداتها
يبين المؤلف أن الأساس الأول الذي تقوم عليه عملية التجديد وتنمية الفاعلية عند الفرد، أن تعي مؤسسات التربية كيفية تحقيق (النضج الكامل في شخصية إنسانها)؛ لأن هذا النضج شرط أساسي في فاعلية الإنسان وقدرته على تحقيق الإنجازات وحمل المسؤوليات ونجاح المشروعات. فالتربية الواعية تعمل على تنمية نضج الشخصية الإنسانية عبر درجات ثلاث من العادات النفسية- الاجتماعية، وهي: درجة الاعتماد على الغير، ودرجة الاستقلال عن الغير، ودرجة تبادل الاعتماد مع الغير.
وحين تنمو الشخصية الإنسانية عبر درجاتها الثلاث يرافقها تدرج آخر في عادات الإنسان العقلية والنفسية والاجتماعية والجسدية. والعادات عناصر قوية في أشخاصنا؛ ولذلك فهي إما أن تعمل لصالح الإنسان أو ضده. وتبدأ العادة ببذر الفكر، ومن الفكر نحصد العمل، وحين نبذر العمل نحصد العادة، وحين نبذر العادة نحصد الشخصية، حين نبذر الشخصية نحصد المصير. والتربية الواعية تعي هذا التدرج في نمو العادات ومساراتها ومحطاتها، والدور الذي تؤديه في حياتنا، فتعد لتنمية العادات الحسنة الفاعلة، وتغيير السيئة المعوقة. وهذا هو جوهر التربية النبوية في صدر الإسلام. ثم يبدأ المؤلف في تناول درجات العادات الثلاث في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: درجة الاعتماد على الغير وعاداتها الفكرية والنفسية
صاحب هذه الدرجة مسلوب الفاعلية، ويعتمد على الآخرين للحصول على ما يريده، ويحملهم مسؤولية فشله. وصاحب (درجة الاعتماد على الغير) إنسان حرم (الوعي بالذات)، فهو من أهم منطلقات الفاعلية فينا؛ لأنه يساعدنا على رؤية أنفسنا ورؤية الآخرين، فنستطيع من خلال ذلك أن نطور أنفسنا ونكتسب عادات جديدة. ورؤية الذات ورؤية ذوات الآخرين لا تتيسر للإنسان إلا إذا تضافرت -بوعي- كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية. لكي توفر للإنسان بيئة العدل والحرية واحترام الإنسانية، فإذا فشلت في عملها فسيكون من ثمار هذا الفشل في نفس الإنسان تكوُّن عادتين سلبيتين؛ هما: العادة الأولى: العجز عن رؤية الذات، فهو لا يرى نفسه إلا بمنظار الآخرين. والعادة الثانية: العجز عن المبادرة التلقائية في السلوك، فهو رد فعل لأعمال الآخرين، وبمصطلح الشريعة “إمَّعة”. والقرآن الكريم يسمي صاحب درجة الاعتماد على الغير، كلًّا، وهو الذي يبقى معتمدا على مولاه، وأينما يوجهه هذا المولى لا يأتي بخير (وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير). والرسول صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الدرجة، عجزا، ويعوذ منها، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل). وتتضافر كل من مؤسسات التنشئة والتربية والحكم والإدارة في العالم الثالث، ومنه الأقطار العربية لتنمية (درجة الاعتماد على الغير)، وترسيخ عاداتها القاتلة.
الفصل الثاني: درجة الاستقلال عن الغير وعاداتها الفكرية والنفسية
ويبين المؤلف أن الإنسان المستقل عن الآخرين جسديًا ينجز حاجاته ومسؤولياته المادية وحده. وإذا كان مستقلًا عقليًا طوَّر قناعاته من داخله ووجَّه نفسه بنفسه. وإذا كان مستقلًا عاطفيًا لم يتأثر إحساسه بذاته وقيمته بمعاملة الآخرين أو آرائهم. ودرجة (الاستقلال عن الغير) أفضل من درجة (الاعتماد على الغير). يجسد هذه الدرجة في واقع الحياة ثلاث عادات فاعلة تؤدي إلى فاعلية الأداء والإنجاز. وهذه العادات هي:
- العادة الأولى: القدرة على أخذ زمام المبادرة، وهؤلاء تتحقق لهم درجة عالية من النضج العقلي والنضج العاطفي. تحقيق درجة عالية من النضج العقلي: تجعل أصحابه قادرين على تحديد ما يريدون فعله، إذ الأصل ألا نترك للآخرين تشكيل أحوالنا وتقرير مصائرنا. وحققوا درجة عالية من النضج العاطفي: ولذلك تحررت إرادتهم من الأهواء والانفعالات وصاروا قادرين على اختيار بدائل السلوك المناسب للمواقف وتحديد الأعمال والميادين التي يركزون فيها طاقاتهم وأوقاتهم. وتتحقق درجة فاعلية الإنسان من خلال التعرف على أي من الدائرتين يركز جهوده، ويقضي معظم أوقاته؛ فالذين يركزون جهودهم في دائرة التأثير هم الذين يتصفون بالفاعلية والحكمة. أما الذين لا فاعلية لهم ويصدرون عن استجابات سلوكية تلقائية فيهدرون جهودهم في دائرة الاهتمامات التي لا تأثير لهم فيها؛ فإذا فشلوا عوضوا عن فشلهم بتركيز نقدهم على مظاهر الضعف والنقص عند الآخرين. وعلى المشكلات والقضايا التي لا سلطان لهم عليها، وينتهون من هذا التركيز إلى اتهام الآخرين.
والواقع أننا كلما ركزنا جهودنا في دائرة اهتمامنا، لا في دائرة تأثيرنا- ساعدنا المشكلات التي تقع في أن تسيطر علينا. وهذا هو طابع تفكير الإنسان الذي تخرّجه مؤسسات التربية في الأقطار العربية والإسلامية. فالإنسان في هذه المجتمعات يستهلك طاقته الفكرية والنفسية والمادية في دائرة اهتمامه ويغفل عن دائرة التأثير عنده. وتطبيقات هذا التفكير الخاطئ واضحة جلية في سياسات الحكومات والأحزاب والجماعات والأفراد.
- العادة الثانية: القدرة على الإحساس بحركة سير التاريخ، ثم القدرة على تحديد حاجات وتحديات كل مرحلة، وأهدافها وتطبيقاتها العملية تحديدًا عقليًا؛ كبلورة تصور واضح لما نريد أن ننتهي إليه، وحسن اختيار العناصر البشرية الصالحة المصلحة، من قيادة ماهرة وفريق مدرب، والقدرة على رؤية التكامل بين مكونات العمل بدل التنافر والتصادم. ثم بلورة برنامج عمل واضح.
- العادة الثالثة: إتقان ترتيب الأولويات في برنامج العمل. وهذا يعني وجود الجمع بين الثقافة الفكرية (المتمثلة في العادتين الأوليين) والمهارة التطبيقية (المتمثلة في العادة الثالثة)؛ خاصة عند من يتولون صف القيادة والتنظيم، وهو يعني كذلك خطورة إسناد العمل والقيادة والتنظيم إلى فئات ليس لها فهم راسخ في المبادئ العقدية والعلوم النظرية ذات العلاقة. والنضوج في هذه العادات الثلاث وبلوغ درجة التفوق على الآخرين نتيجته: (النجاح في الإنجازات الفردية وتحقيق الانتصارات الشخصية).
الفصل الثالث: درجة تبادل الاعتماد مع الغير وعاداتها الفكرية والنفسية (النضج)
يبين المؤلف في هذا الفصل أن درجة تبادل الاعتماد مع الغير، هي أعلى درجات نمو الشخصية ونضجها. وأن العادات النفسية المرافقة لهذه الدرجة هي عادات القيادة الفعالة الناجحة التي تدور حول تصور معين لفاعلية الإنجاز محوره (نحن المسؤولون).
ودرجة (تبادل الاعتماد مع الغير) أفضل من درجة (الاستقلال عن الغير)؛ لأن الثانية لا تمثل النضج الثاني للشخصية الإنسانية، ولأن الأفراد المستقلين قد يكونون منتجين ممتازين إلا أنهم لا يصلحون للقيادة أو العمل الجماعي؛ لأنهم يدورون حول أنفسهم.
أما الإنسان الذي يبلغ درجة تبادل الاعتماد مع الغير، فهو عاطفيًا: شخص يعرف قيمة نفسه، ولكنه يوقن بأنه يحتاج إلى تبادل المحبة مع الآخرين. وعقليًا: هو إنسان قادر على التفكير المستقل؛ لكنه يوقن بأهمية تضافر قدراته العقلية مع نظائرها عند الآخرين. واجتماعيًا: هو إنسان قادر على اختيار ما يريد، لكنه يؤمن بأهمية اعتبار إرادات الآخرين.
ويصاحب درجة (تبادل الاعتماد مع الغير) عدد من العادات النفسية- الفكرية الإيجابية المؤدية إلى إثراء الأداء والإنجاز، وهذه العادات هي:
العادة الأول: عادة تفكير (أحب للآخرين ما أحب لنفسي)، وهي عادة وجه إليها الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، رواه البخاري ومسلم. ومن المؤسف أن غالبية الناس الذين تخرجهم المؤسسات التربوية في الأقطار العربية والإسلامية لا يفكرون طبقًا لعادة (أحب للآخرين ما أحب لنفسي)، وإنما يتوزعون بين نماذج تفكير خمسة: 1- أستفيد ويحرم الآخرون 2-أحرم ويستفيد الآخرون 3- أُحرَم ويحرَم الآخرون 4-أستفيد ولا يهمني الآخرون 5- يستفيد الآخرون شريطة أن أستفيد أو لا فائدة على الإطلاق.
وهناك ثلاث مزايا للشخصية التي عادة تفكيرها (أحب للآخرين ما أحب لنفسي):
- المزية الأولى: الاستقامة؛ ومعناها أن يعيش الإنسان منسجمًا مع قيمه التي يؤمن بها في جميع مواقفه وعلاقاته اليومية. والمزية الثانية: النضج؛ وهو يتجسد في الواقع من خلال التوازن بين الشجاعة التي تعني صراحة الإنسان في التعبير عن أفكاره ومشاعره، واعتبار الآخرين، الذي يتحقق من خلال الاجتهاد في فهمهم واحترام مشاعرهم. والتوازن بين الشجاعة والاعتبار هو الذي يؤدي إلى توازن الشخصية. والمزية الثالثة للشخصية الناضجة، هي: عقلية الوفرة؛ أي أصحاب العقلية التي ترى في الحياة عطاء وافرًا ومتسعًا لكل إنسان؛ ولذلك يتصرف صاحب هذه العقلية من إحساس عميق بالثقة والاطمئنان. ويرى أن الناس جميعهم يستطيعون المشاركة في المكانة والاعتبار والمنافع والتخطيط وصناعة القرار، وأن الفرص متاحة لهم جميعًا للعمل والإنجاز والنجاح.
- العادة الثانية: هي عادة (افهم الآخرين ثم دعهم يفهموك). والتطبيق العملي لهذه العادة هو مهارة (التواصل والحوار الإيجابي)؛ لأن التواصل أهم مهارة في حياتنا، ولأن فهم الناس وحسن الاستماع إليهم من أهم مقومات التعامل الناجح معهم. والإنسان الذي تخرجه مؤسسات التنشئة والتربية والتوجيه في العالم الثالث، ومنه الأقطار العربية والإسلامية، لا يسمع ليفهم، وإنما يسمع ليجيب ما يدور في رأسه، وهو يعتقد أن ما في رأسه هو الصواب.
- العادة الثالثة: هي عادة (التعاون الجماعي) وهذه العادة هي جوهر مبادئ القيادة الناجحة، وهي المراد النهائي من ممارسة العادات الخمس التي سبق الحديث عنها. والأساس الذي تقوم عليه عادة (التعاون الجماعي) هو الوعي بقيمة الاختلافات والفروق العقلية والنفسية والعاطفية والجسدية بين الأفراد والجماعات، وأن هذه الفروق تجعل الناس أكثر تعاونًا وتماسكًا مما لو تشابهوا. وتتحمل التربية مسؤولية كبيرة في الآثار السلبية الناتجة عن التمييز القبلي والطائفي والعرقي والإقليمي في الوظائف والمراكز ومصادر الكسب. وما المآسي الدائرة في الأقطار العربية والإسلامية إلا أمثلة حيَّة لذلك كله.
ويشير المؤلف إلى أنه من الموضوعية أن نقول إن الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة تقف حاجزًا صلدًا أمام ممارسة قسم كبير من أشكال هذا التجديد بسبب قيم الآبائية والجمود وإسباغ العصمة على كل قديم، وشيوع التفكير العرفي والأحكام والمقاييس العرفية (نسبة إلى الأعراف والتقاليد) في كل التصورات وشبكة العلاقات. وتتحمل مؤسسات التربية والتوجيه والإعلام مسؤولية كبيرة في ذلك كله. لأنها تربية تعزز الولاء لكل قديم، وتسبغ العصمة عليه، وتهمل مهارات التجديد وتغترب في قضايا لا علاقة لها بمسيرة الحياة التي يعيشها الناس في واقعهم ولا بعلاقاتهم بالعوالم المحيطة.
الباب الثالث: التربية وتجديد الفاعلية عند الأمة
لا تقف التربية الواعية المجددة عند إخراج الشخصية الناضجة، ذات العادات العقلية والنفسية والجسدية الفاعلة، وإنما تتعداها إلى رسم خرائط الأمة القادرة على تعبئة جهود الأفراد وتنظيمها في شبكة علاقات اجتماعية تيسر عمل المؤسسات التنفيذية. فقوة المجتمعات وقيام الحضارات تتحقق عند تحقيق إنسانية الإنسان التي تتحقق أيضًا حين تنجح نظم التربية في إقامة علاقات الإنسان مع الآخرين، ومع العالم المحيط على أساس من الوعي المنفتح القادر على فهم سنن هذا العالم وقوانينه ومعرفته.
الفصل الرابع: التربية التجديدية وإنجاب المجتمع المفتوح وتربية القولبة العقلية والإرادية وإنجاب المجتمع المغلق
يبين المؤلف في هذا الفصل؛ معنى التربية التجديدية وتربية القولبة العقلية والإرادية، وصفات التربية التجديدية وصفات تربية القولبة العقلية والإرادية، وصفات المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق.
1- معنى التربية التجديدية وتربية القولبة العقلية والإرادية:
يعرِّف المؤلف “التربية التجديدية” في هذا البحث (الكتاب)، بأنها: ذلك النظام التربوي الذي يعمل على “تجديد” معلومات المتعلم ومهاراته العقلية والعلمية، واتجاهاته الإرادية إلى الدرجة التي تمكن هذا الإنسان من إقامة علاقاته مع الآخرين على أساس من “التكامل” والفهم المستقل والوعي المنفتح القادر على ابتكار الوسائل اللازمة لمواجهة تحديات الزمان والمكان والمشاركة في صنع قراراته المتعلقة بحاضره ومستقبله.
أما “تربية القولبة والتسخير الإرادي”؛ فهي تعني ذلك النظام التربوي الذي يعمل على صب “فكر منتقى” في قوالب جامدة من التفكير، وتوجيه إرادة الإنسان إلى مرادات تحيل الناس إلى قطعان بشرية سهلة الحشد والتوجيه. وتتم هذه القولبة العقلية والإرادية من خلال مؤسسات التنشئة المتسلطة.
2- صفات التربية التجديدية وصفات تربية القولبة العقلية والإرادية:
أ- تقوم التربية التجديدية على أصول تنطلق من فلسفة تربوية أصيلة المعالم. وتحدد العلاقات بين إنسان التربية، وكل من المنشأ والكون والحياة والإنسان والمصير. وينبثق عن هذه الفلسفة أهداف ومناهج وطرائق ومؤسسات وأدوات عمل وقياس وتقويم… إلخ. أما تربية القولبة العقلية والإرادية، فتقوم على سياسات تعليمية ضبابية تتملق النخبة الحاكمة المتسلطة، وتعمل مؤسساتها متفرقة طبقا لإملاءات القائمين عليها، ومدى قدرتهم على توفير الولاء لــ”النخبة المتسلطة”.
ب- في التربية التجديدية يتدرب الإنسان على تقويم المنجزات وتحليل الموجودات باستمرار، ويبحث في الطرق والوسائل العلمية اللازمة لمواجهة هذا الواقع وفهمه وتطويره. أما “تربية القولبة العقلية والإرادية”؛ فتحذر إنسانها من تقويم واقعه، وتعتبر كل محاولة في هذا المجال إثارة للفتنة والفوضى وهدم النظام. وتظل تعمل للتستر على أمراض هذا الواقع وأدوائه حتى تزمن وتستعصي على العلاج.
ت- في التربية التجديدية يتخرج إنسان قادر على الانعتاق من الآبائية والاغتراب، وتقوم الممارسات على أسس علمية. أما في “تربية القولبة العقلية والإرادية” ، فيصاب الإنسان بالذّعر حينما يتبين أن الواجب يفرض عليه التخلي عن كثير من المعتقدات والقيم والنظم والتقاليد والممارسات الفكرية والتطبيقات العملية المانعة من التحرر والتقدم. ويظل حبيس ما تقرره “النخبة السلطوية”. وينحصر الصواب فيما تقدمه هذه النخبة، ويسبغ عليه طابع العصمة والاستمرار، ويحارب كل من يجرؤ على نقده وإنكاره.
ث- في التربية التجديدية يجري التفاعل مع خبرات “ماضي الآباء: و”حاضر الغرباء” في جميع ميادين الخبرات التي يكشف عنها البحث العلمي، ابتداء من التهامها بواسطة مؤسسات البحث ثم هضمها وامتصاص النافع وتوطينه وتوزيعه على أجهزة الأمة العاملة فيها، ثم طرح المتبقي الضار إلى نفايات المعرفة، ثم تكون نتيجة ذلك كله فاعلية المؤسسات واتصافها بصفات الأصالة والمعاصرة. أما في تربية القولبة العقلية والإرادية، فيتم الانتقاء من “ماضي الآباء”، و “حاضر الغرباء” ما يوافق السياسات التعليمية للنخبة المتسلطة، ثم حقن الأمة مباشرة بهذه الأجزاء التراثية المنتقاة بما يقتل فاعلية الإنسان، ويصيبه بالاضطراب والإحساس بالدونية والإحباط وأزمة في الهوية والانتماء.
ج- في التربية التجديدية يجري التركيز على تشخيص الواقع، وفحص محتوياته لتغيير الجهات المتسببة بأمراض العجز والتخلف، ورد العافية إليه. أما في تربية القولبة والطغيان، فإن الجهود تبدد في “هجاء” الآخرين الذين يغريهم ضعف الواقع إلى مضاعفة ثقافة الطغيان والاستضعاف.
ح- في التربية التجديدية يعي العاملون في مؤسساتها الفرق بين (عالم الثقافة) و(عالم الطبيعة)، أما في تربية القولبة، فإن الخلط يقع بين العالميْن، وتضرب السطحية فهم كل منهما.
خ- أما عن الصلة بين كل من التربية التجديدية وتربية القولبة العقلية والإرادية، وبين المجتمع الذي تنجبه كل منها؛ فإن التربية التجديدية تنجب مجتمعا مفتوحًا يهيئ لحسن استثمار المقدرات، وتنمية قدرات الأفراد والجماعات وتعبئتها إلى القدر الكافي لتلبية الحاجات ومواجهة التحديات. أما تربية القولبة العقلية والإرادية فتنجب مجتمعًا مغلقًا تهدر فيه الطاقات وتعطل فيه القدرات ويعجز الناس عن فهم واقعهم وحمل مسؤولياتهم.
3- صفات (المجتمع المفتوح) وصفات (المجتمع المغلق):
أ- صفات المجتمع المفتوح:
1- هيمنة روح العمل الجماعي على نشاطات الحياة الجارية.
2- إقامة علاقات الناس بعالمهم على أساس من الوعي الراسخ بواقعهم، وإدراك المعلومات المتعلقة بهذا الواقع وفهمها.
3- إقامة علاقات الإنسان بالعالم المحيط على أساس التكامل معه.
4- يستطيع تمييز الحقب الزمنية التي أقام الناس خلالها علاقاتهم مع العالم المحيط باستقلال وفاعلية.
ب- صفات المجتمع المغلق:
1- لا يعي الناس في المجتمع المغلق أهمية العمل الجماعي ولا يحسنونه؛ ولذلك يسلمون زمامهم إلى (نخبة طاغية)؛ تتسلط على الأكثرية وتسحقهم، وتنتقص من إنسانيتهم، وتعزلهم عن التفاعل مع واقعهم، وتفرض عليهم (ثقافة الصمت).
2- عجز الناس في المجتمع المغلق عن فهم قضايا أزمانهم والتطورات الجارية فيها، وعجزهم عن نقدها وتحليلها والتدخل في مجراها.
3- الإنسان في المجتمع المغلق لا يتكامل مع العالم المحيط، وإنما يتكيف له. والإنسان المتكيف لا يكون فاعلًا، وإنما يتحول إلى مفعول به يتأثر بالآخرين ولا يؤثر فيهم.
4- الإنسان في المجتمع المغلق لا يحس بأقسام الزمن، ولذلك يظل يعاني العجز عن فهم التحديات والضعف أمام المشكلات. ويظل يعاني من التغيرات القوية خلال التحول الجاري دون أن يكون له أثر في مجراها، ويرى في تناقضاتها علامات اقتراب الساعة وآخر الوقت.
الفصل الخامس: نظم التربية العربية الحديثة ونشر (القولبة العقلية) و(المجتمع المغلق)
التربية السائدة في الأقطار العربية تربية ليس فيها من صفات التجديد شيء، وذلك لأسباب هي:
السبب الأول: أنها قولبة عقلية وإرادية هدفها إبقاء العقل والإرادة أسيرين للتربية الكلامية والإطناب في اللغة.
السبب الثاني: أن الأساليب المستعملة في مؤسسات التربية الحالية لا تشجع مناقشة الموضوع والجدال حولها، وإنما تفرض نظامًا صارمًا يجبر الجماهير (المدجّنة) على التكيف طبقًا له، فهي لا تعد الناس للتكامل والمشورة والعمل الجماعي.
السبب الثالث: الذي يجعل التربية القائمة العربية تفتقر إلى التجديد أنها تربية متخلفة الولاء عن طور الأمة، وعصر قرية الكرة الأرضية، مغتربة في طور المجتمعات المحلية والولاءات الإقليمية والثقافات المحلية.
السبب الرابع: قصور التربية القائمة عن المستوى المطلوب في (الكم) التربوي، و(النوع) التربوي سواء.
السبب الخامس: افتقار النظم التربوية القائمة إلى المثل الأعلى.
الفصل السادس: التربية والفاعلية وسلم الحاجات الإنسانية
تضع التربية التجديدية في قمة أهدافها تطوير نظام قيم تحترم الحاجات الإنسانية، وتعمل على توفيرها وصيانتها. وليكون عمل التربية التجديدية فعلًا، لا بد أن يقوم على أساس من الوعي الكامل بالحاجات الإنسانية وتوفير إشباعها وأثرها في سلوك الإنسان واتجاهاته ومهاراته. ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
1- الحاجات الإنسانية: يصنف ماسلو هذه الحاجات في مجموعات رئيسية، هي:
- الحاجات الفسيولوجية.
- حاجات الأمن.
- حاجات الانتماء.
- حاجات التقدير.
- حاجات تحقيق الذات.
أما ترتيب هذه الحاجات من حيث القوة والضعف، وأثر ذلك في فاعلية صاحبها ومنجزاته، فهو يتم طبقا للأشكال الآتية:
أ- الشكل الأول: الحاجات الفسيولوجية؛ وهي أقوى الحاجات لأنها حاجات أساسية ضرورية للحياة نفسها مثل الحاجة إلى الطعام والشراب واللباس والمأوى والزواج.. إلخ.
ب- الشكل الثاني: حاجات الأمن؛ وتعني حفظ النفس وصيانة الحرمات وصيانة الممتلكات والعمل أو الوظيفة حتى يستطيع الفرد توفير الغذاء والمأوى.
ت- الشكل الثالث: الحاجة إلى الانتماء؛ بعد استيفاء الحاجة الفسيولوجية والأمنية للإنسان تصبح الحاجة إلى الانتماء أقوى دوافع السلوك لدى الإنسان.
ث- الشكل الرابع: الحاجة إلى التقدير؛ بعد أن يبدأ الفرد بإشباع حاجة الانتماء، فإنه في الغالب يطمح لينال احترام الجماعة التي ينتمي إليها. ويتعلق بحاجة التقدير دافعان: قوة المركز وقوة الشخصية.
ج- الشكل الخامس: الحاجة إلى تحقيق الذات؛ عندما تبدأ الحاجة إلى التقدير بالإشباع بشكل مقبول، فإن الفرد يبدأ في التطلع إلى ما يثبت هذا التقدير ويخلده، ولذلك تصبح الحاجة لتحقيق الذات أقوى دوافع السلوك. وحاجة تحقيق الذات تستدعي مضاعفة إنتاج الفرد، وبلوغ أقصى ما يستطيعه من الإبداع. وهذا ما يجسد الفاعلية في أعلى صورها.
وليس من الضروري – حسب رأي ماسلو- أن تنطبق هذه الحاجات على كل بني الإنسان، ولكنها هي النموذج الغالب.
2- التوجيه القرآني والحاجات الإنسانية:
يلاحظ أن مراعاة سلم الحاجات الإنسانية مبدأ أصيل في الرسالات الإلهية التي يتحدث عنها القرآن الكريم. كما جاء في دعاء إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
فالدعاء من أجل إشباع حاجات الأمن، والفسيولوجية (الثمرات)، وحاجات التقدير (من أفئدة الناس)، وسائل تعين ذرية إبراهيم عليه السلام على التفرغ لحاجات تحقيق الذات حسب المفهوم الإلهي، وهي: (ليقيموا الصلاة)، و(لعلهم يشكرون). وإقامة الصلاة تعني إقامة معانيها في واقع الحياة. أما حقيقة الشكر فهي أن تستعمل نعم الله طبقا للمنهج الذي يوجه إليه، وإقامة الحياة في ضوء هذين المبدأين تجسيد لـ(الفاعلية) الفاعلة التي توظف (الجهد) الإنساني و(وسع) البشر؛ لإنجاز مراد الله في بناء حضارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد كان دعاء إبراهيم لمن آمن من ذريته، لكن الله تعالى قال (وَمَن كَفَرَ فُأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا). والقليل هو فترة الحياة الدنيا مقارنة بالآخرة. ويستنتج من ذلك عدم جواز العبث والمساس بحاجات الغذاء والإيواء والأمن والاحترام، بسبب الاختلاف في المعتقدات والسلوك والآراء والمواقف. فلا نفي، ولا مصادرة، ولا قطع لموارد العيش، ولا إيقاف عن العمل، ولا اعتداء على الحريات والكرامات.
3- العبث بالحاجات الإنسانية وتوقف فاعلية العربي المعاصر:
يعترف الكثير من خبراء السياسة والمختصين في التربية أن قوانين- ماسلو- وعلم النفس في سلم الحاجات الإنسانية تطبق في كل المجتمعات. ففي المجتمعات المتقدمة تقوم السياسة الإدارية والممارسات المدنية والأمنية على توفير جميع الحاجات الجسدية، وحاجات الأمن، والاحترام، والانتماء للمواطن- في الداخل والخارج- إلى درجة الإشباع، حتى يصبح أقوى دافع في سلم حاجاته هو الحاجة إلى تحقيق الذات، من خلال الإبداع العلمي، والإنجاز الاقتصادي، والتوظيف في ميادين الحياة المختلفة.
أما في مجتمعات العالم الثالث- ومنه غالبية المجتمعات العربية- فقد جرى تطبيق سلم الحاجات تطبيقًا عكسيًا أدى إلى تدمير فاعلية الإنسان في هذه المجتمعات؛ فالأغلبية الساحقة من إنسان هذه المجتمعات مثبتة عند دوامة البحث عن الغذاء والكساء والسكن والزواج، أي (الحاجات الفسيولوجية)، مما جعل ارتقاء الإنسان إلى درجة تحقيق الذات- أي درجة الجدارة والإنجاز- أمرًا مستحيلًا. أما أدوات تدمير هذه الحاجات فتتم من خلال إهدار الموارد الطبيعية لهذه الأقطار في الانقلابات العسكرية والخصومات الطائفية والإقليمية والفتن السياسية والأنظمة الديكتاتورية. كذلك هدمت (حاجات الأمن) من خلال إشاعة سوء العلاقة بين القيادات والشعوب. ويعترف الكثير من الخبراء والمختصين بأن أنظمة الحكم الديكتاتورية والإجراءات البوليسية أقيمت في أقطار العالم الثالث، لتكون أدوات تهدم أمن الإنسان واحترامه؛ مما يبقيه عاجزًا عن الصعود إلى درجة تحقيق الذات، حيث الجدارة والإبداع والإنجاز. وكذلك هدمت (حاجات الانتماء) من خلال نشر المذاهب والأيديولوجيات المتنافرة المتناحرة، والتمزيق الجغرافي. ومحاربة عوامل الوحدة، وتنظيم مناهج التربية والثقافة لإشاعة ظواهر (الاغتراب الثقافي) عند الناشئة، وتركهم فريسة الإحساس بالنقص والظواهر المرضية في الاجتماع والأخلاق. فتضاعفت بذلك الانفجارات الفكرية والنفسية، وانتهت بالكثير من الأفراد- خاصة الأذكياء والموهوبين- إلى الكفر بقضايا العروبة والإسلام، وعبرت عن نفسها في مظاهر شتى تتنوع بين العزلة والتقوقع، أو الكيد والانتقام، أو الانحلال الاجتماعي والأخلاقي. ويزيد الإحباط لدى إنسان المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة عندما يقارن نفسه بالأمريكيين والأوربيين مثلا الذين يعيشون في قارة كاملة، ولكنهم لا يتدابرون ولا يتناحرون، وتتوفر لهم كل حاجاتهم الإنسانية؛ فيتحولون إلى فاعلين على مستوى الإنجاز والإبداع.
الفصل السابع: التربية والفاعلية والقوى المحافظة والمتطرفة والمتجددة
1- التجديد والتحول التاريخي:
المجتمعات الإنسانية والظواهر الكونية في تغير دائم؛ وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (كُلَّ يّوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29]. ومن سنن هذا الخلق الجديد أنه يفرز علاقات جديدة، والعلاقات الجديدة تتطلب صياغة جديدة للقيم التي تنظم هذه العلاقات. والقيم الجديدة تحتاج إلى تجديد المؤسسات والتطبيقات والوسائل التي تجسد هذه القيم في ممارسات عملية جديدة، والممارسات الجديدة تحتاج إلى تربية جديدة وتدريب جديد، وهكذا.
2- التحول التاريخي وظهور الاختلاف والتنازع:
ولكن الناس لا يعون عمليات التحول التاريخي، ولا يحسنون التعامل مع ما تنفلق عنه بفعالية؛ ولذلك تتقاذفهم التحولات الجديدة، ويقعون ضحية الاختلاف والتنازع.
3- القوى الثلاث والتنازع:
القسم الأول: قسم القوى المحافظة؛ وهي القوى التي تريد المحافظة على ثبات المؤسسات والقيم والأوضاع القائمة، وتعمل على (إيقاف حركة التاريخ)، أي هي قوى تنسى (المثل الأعلى) الذي يطرح نموذج المستقبل.
القسم الثاني: قسم القوى المتطرفة؛ وهي التي تريد تسريع حركة التاريخ أو تغيير مسارها. وغالبا ما يكون أعضاء هذا القسم من (النخب المقهورة). وهي إما يسارية أو آبائية، وحين يصل أي فريق إلى هدفه يتحول إلى (نخبة محافظة) تعمل على إيقاف حركة التاريخ.
القسم الثالث: قسم القوى المجددة؛ وهي القوى التي (تعي) حركة التاريخ وطبيعة الحقبة الزمنية التي تعيش فيها، وتعمل من خلال التربية وتجديد المعرفة وتأصيلها إلى تجديد القيم والمؤسسات والمهارات العقلية والعملية، والاتجاهات الإرادية عند إنسان الحقبة الجديدة. وغياب هذا القسم- من المجددين- أو نقص عدده يتسبب في تعثر مسيرة المجتمع في مساقط الفشل والفتن والإحباط، وفقدان الفاعلية. وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي القائل: (يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله: وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحركها؛ كأنه يريد القتل). ولتكون القوى المجددة قادرة على مواجهة التحولات الجديدة وتنظيرها وتوجيهها تحتاج إلى الوعي الراسخ والإحاطة الشاملة بثلاثة أمور: وعي بطبيعة التغير وما يتخلله من اختلاف وتنازع، وتربية تجديدية تؤهل الناس للتكامل مع التغير الجاري حولهم، وبيئة إدارية تترجم ثمرات التربية التجديدية إلى مؤسسات وإستراتيجيات تنتفع بإيجابيات التغير وتتجنب سلبياته.
4- الاختلاف والتنازع في القرآن الكريم:
نهى القرآن المؤمنين عن التنازع؛ لأنه سبب الفشل وتبديد القوى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) [الأنفال: 46]. وعدم استغراب حدوث التنازع، وتقبله ما دام المتنازعون يحتكمون للخروج منه إلى معايير يستنبطونها في ضوء توجيهات الكتاب والسنة. فهناك إذن تنازع سلبي مدمر، وتنازع إيجابي توجهه تعليمات القرآن والسنة.
5- أهمية الاختلاف والتنازع في الاجتماع الإنساني:
الاختلاف والتنازع سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118-119]. وهو سبب من أسباب التطور والتقدم الحضاري. والاختلاف يكون في الأفكار والقيم، والتنازع يكون في تطبيقات هذه الأفكار وترجمتها إلى إستراتيجيات وبرامج. وانفراد المحافظين بالحياة السياسية والاجتماعية ينتهي بالمجتمعات إلى الآبائية والثبات المؤدي إلى الجمود والتخلف. وانفراد المتطرفين يؤدي إلى تسريع حركة المجتمعات بما يخالف سنن الاجتماع الإنساني ويصطدم وقوانين البناء مما يؤدي إلى إهدار الطاقات وتبديد المقدرات. ولذلك يحتاج الأمر إلى توازن دقيق. وتوفير هذا التوازن والتعايش هو مسؤولية الفريق الثالث: فريق المجددين الذين تنجبهم التربية التجديدية، ويرشدون الفريقين السابقين إلى معايير الاختلاف والتنازع الإيجابيين.
6- التربية التجديدية والاختلاف والتنازع بين القوى المختلفة:
التربية التجديدية هي بوابة (المجتمع الجديد) المنفتح على التحولات الجديدة. والجهل أو تربية القولبة العقلية والإرادية هما النفق المظلم المؤدي إلى (المجتمع المغلق) المتدحرج في مهاوي التخلف والانهيار. ولذلك افتتح الله سبحانه وتعالى الوحي بــ(اقرأ). وكان التأكيد النبوي على طلب العلم. لذلك فإن ما يحتاجه كل من (المجتمع المفتوح) للحفاظ على صحته و(المجتمع المغلق) للخروج من أزمته، هو: نظام تربية قادر على التجديد، لإفراز روح خاصة قادرة على الوعي العميق بتطورات الحقبة التاريخية، وتتصف بالمرونة للتعامل مع أحداثها بعقلية ناقدة محللة لتناقضاتها، وبمهارات فاعلة مؤثرة في وقائعها، ومعارف واقعية مبصرة لحوادثها.
7- أثر حركات التجديد في أمريكا وغرب أوروبا:
في العصر الحديث أدت حركات التجديد والفلسفات التجديدية دورًا حاسمًا في كل من أمريكا وغرب أوروبا في منع انتشار الشيوعية وانتصارها بالمستوى الذي حققته في شرق أوروبا.
8- التوجيهات القرآنية وحركات التجديد المعاصرة:
حين نقارن الممارسات الغربية المذكورة بالتوجيهات القرآنية التي توجه إلى الشورى وليس الاستشارة المظهرية، نجد أن هناك تطابقًا في المبادئ والأصول وبعض الاختلافات في التطبيقات. أما عن جوانب التطابق فهي تتمثل بالاعتراف بالاختلاف والتنازع واحترام الإنسانية. ويكمن الاختلاف في المرجعية في التطبيقات.
9- التربية التجديدية والمجتمعات العربية المعاصرة:
غير أن الاتجاهات السائدة في الأقطار العربية والإسلامية المعاصرة لا تنتمي إلى المفهوم الإسلامي، ولا إلى المفهوم الغربي؛ لأن المرجعية هي مشيئة رأس الدولة، والتطبيق هو أفعاله المعصومة التي لا تناقش.
الفصل الثامن: سنن التحول التاريخي والتناقضات الجارية في (المجتمعات المغلقة) في الأقطار العربية والإسلامية
1-خطورة غياب المدرسة الفكرية:
بعد ضعف الدولة العثمانية وانهيار (المجتمع المغلق) الذي حافظت عليه لقرون، أخذت هذه المجتمعات تدخل حقبة مليئة بالتحديات والمشكلات دون أن تصاحبها حركة تربوية تجديدية مناسبة في النوع والكم، واعية بطبيعة القيم المتصارعة خلال هذه الحقبة والتناقضات المصاحبة لهذا التحول، وتؤهل إنسان هذه المجتمعات لـ(التكامل) مع تحولات الحقبة الجديدة بفاعلية مؤثرة. فكان هناك من قام باستيراد الحلول والمعالجات من (ثقافات) المجتمعات الأخرى. وهناك نواة لحركة تربوية تجديدية تشكلت، ومثلتها جيوب فكرية متناثرة هنا وهناك؛ كحركة الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا في مدرسة المنار، التي نشطت في توجيه الفكر الإسلامي الحديث. وهناك اتجاهات أخرى قومية، وأدبية، وشعرية؛ لكنها كانت كلها جيوب وليدة لم يقدر لها النضج، لتوافق مع سنن التجديد، وتم إجهاضها قبل الأوان؛ حيث تحولت إلى أحزاب وجماعات دب بينها التنازع والاختلاف السلبي الذي أدى إلى الفتن والصدامات والانقلابات العسكرية.
2-ظهور النخب اليسارية والآبائية:
خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين اشتدت حدة التناقضات الجارية في المجتمعات العربية، وبرزت حاجات اقتصادية ومشكلات سياسية، وتحديات عسكرية جديدة. وأفرزت هذه التجمعات نخبتين جديدتين متطرفتين: نخبة يسارية، ونخبة آبائية. وخلال الصراع مع (النخبة المحافظة) الحاكمة استطاعت النخبة اليسارية بمساعدة القوى الخارجية التي استوردت حلولها من ثقافتها، تقويض النخبة المحافظة في عدد من الأقطار، وتكوين عصبيات نخبوية، تربعت فوق واقع المجتمع، ودخلت في مواجهات ساخنة وباردة مع (النخب المحافظة) الحاكمة في الأقطار العربية والإسلامية الأخرى. وامتحنت مفاهيم النخبتين وشعاراتهم وأنظمتهم، ففشلت فشلًا ذريعًا أمام الحاجات الداخلية والتحديات الخارجية. وانتهى الأمر بالمجتمعات العربية والإسلامية إلى ضياع الهوية، وضياع في الحاضر والمستقبل.
3-عجز الصحوة الإسلامية عن فهم سنن التحول التاريخي:
تتصف جماعات الصحوة الإسلامية بصفتين: صفة إيجابية، وهي سلامة هذه الجماعات من(الاغتراب الثقافي)، وصفة سلبية، تكمن في تبني جماعات الصحوة نفس منهاج العمل : اليساري والمحافظ، القائم على إفراز (نخبة) إسلامية تفرض (فهمها) للإسلام على الآخرين، وتطلب منهم التبعية دون حوار، وتحاول تسريع حركة التاريخ، ودون أن تطور مدرسة تربوية تجديدية واعية بتحديات العصر ومشكلات الواقع وحاجات الحاضر، وقادرة على إنزال (آيات الكتاب) على الواقع القائم، والنظر في (الآفاق والأنفس) نظرًا علميًا يبلور مختلف علوم المعرفة اللازمة لتجديد (غايات) العمل الإسلامي، وتجديد (وسائله ومؤسساته). ويطلق القرآن الكريم على العمليتين معًا اسم (تعليم الكتاب والحكمة)، ويدرجهما في الميادين الرئيسية للعمل الإسلامي، والجهاد الدعوي.
لم تطور جماعات الصحوة الإسلامية- المدرسة التجديدية التربوية المنشودة، وإنما اقتصرت على جهود الأفراد الذين ينمون أنفسهم بجهودهم الفردية، وتفرزهم الصدق والتلقائية. ولذلك لم تبلور جماعات الصحوة مشروعًا نهضويًا، ومناهج نافعة في تربية (الأكثرية) وتمكينها من استرجاع إنسانيتها، وتنمية القدرات العقلية والإرادية اللازمة للمشاركة الفاعلة المؤثرة في تحمل مسؤولياتها، والاشتراك في تقرير مستقبلها، وإنما راحت تتوسل إلى عواطفها بعدد من اليافطات الدينية والشعارات الإصلاحية؛ انتهت إلى الدخول في مواجهات باردة وساخنة مع النخب الحاكمة المحافظة واليسارية سواء. كما فرضت جماعات الصحوة الإسلامية التبعية، وعدم الحوار داخل صفوفها بين القيادات والأعضاء، والطاعة في المنشط والمكره، وهذه علاقة أوقعت تنظيمات الصحوة في علاقات (النخبة) و(القطيع)، وجعلت جماعات الصحوة عرضة للانفجار والتمزق والانشطار والنزيف البشري في داخلها، وسهلت مهمة المتربصين بها من القوى الدولية لاستدراجها إلى مزالق الصراع السياسي مع السلطات الحاكمة.
4-مسؤولية نظم التربية العربية:
شكلت نظم التربية المذكورة المحاضن التي تدربت فيها (النخب) والأحزاب، والجماعات، على التنازع المسلح والاختلاف المتصارع. فهذه النظم التربوية كانت وما زالت جاهلة بنسيج المحتوى الدراسي الذي تدرسه؛ فهي لا تعي أن هذا النسيج يتكون من الوقائع المثبتة والفرضيات والمسلمات والتفسيرات والآراء والمصطلحات وقواعد الحكم الأخلاقي والشرائع المعيارية. والوعي بهذه العناصر يتطلب أجواء من التسامح وتقبل الاختلاف؛ وهو ما لم يحدث مع ما تم تربية الناشئة عليه. ولذا كانت المحصلة النهائية هي هدر الطاقات، وبعثرة المقدرات، ثم الفشل والإفلاس.
الفصل التاسع: حاجة المجتمعات العربية إلى حركة تربوية- تجديدية تنقلها من (المجتمع المغلق) إلى (المجتمع المفتوح)
1-وظيفة الحركة التجديدية:
يبين المؤلف في هذا الفصل ملامح الحركة التربوية التجديدية التي تحتاجها المجتمعات العربية والإسلامية، تلك التي تعي التحولات التي تجري خلال (الحقبة الزمنية) التي تمر بها، ثم (تتكامل) مع قوى التنفيذ والإدارة، لبلورة الإستراتيجيات التي تتطلبها تحديات الحقبة وحاجاتها، والتكتيكات المرحلية التي تفرضها مرونة المتغيرات المحيطة، وتربي جماهير (الأكثرية) لتنهض بمسؤولياتها ولـ(تتكامل) مع العالم المحيط، بما يجسد إنسانيتها ويحررها من (ثقافة القطيع)، ويؤهلها للتفكير الناقد والقرار المستقل بدل (الآبائية) و(العصبيات) المحلية التي تروضها لـ(التكيف)، لتحديات الواقع، والإذعان لضغوطه ومشكلاته. وهذا هو جوهر التوحيد الذي جاء به الإسلام، وعكسه هو الضحية.
2-مبادئ تراعى في التجديد والمجددين:
لتقوم الحركة التربوية- الفكرية- التجديدية المنشودة بإرجاع إنسانية الإنسان العربي والمسلم الحديث، ولتنهض بهذا الواجب، لابد من طليعة فكرية واعية تراجع موروثاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتنظر لهذه الموروثات من خارجها وباطنها، وتلتزم بالمبادئ التالية:
المبدأ الأول: خطورة العصبيات النخبوية.
المبدأ الثاني: صفات المجدد وأخلاقه.
المبدأ الثالث: قدرة المجددين على التمييز والتشخيص.
المبدأ الرابع: وهو أهم المبادئ؛ التوافق مع حركة التاريخ وسننه.
الباب الرابع: الخلاصة والتوصيات
ينتهي المؤلف بعد الأبواب الثلاثة إلى وضع الخلاصة والتوصيات في هذا الباب الأخير في صورة مركزة؛ ليستعيد العربي المعاصر فاعليته وقدرته على مواجهة مشكلاته بنفسه، واختيار استجاباته المقصودة الهادفة، صار من الضروري أن تبدأ حركات الإصلاح والتجديد إستراتيجية مرحلية تركز في المرحلة الأولى على الميادين التربوية والفكرية والثقافية بغية تحقيق الهدفين:
الهدف الأول: تنمية فاعلية الإنسان العربي، وذلك من خلال التدرج في نموه الجسدي والعقلي والعاطفي، حتى درجة النضج الإنساني، ابتداء من درجة الاعتماد على الغير إلى درجة تبادل التعاون مع الغير.
الهدف الثاني: تنمية الفاعلية عند الأمة، وذلك من خلال تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية منها لتراعي ما يلي:
1- بناء نظم التربية التجديدية القادرة على إشاعة (الوعي الذاتي)، ومحاربة تربية القولبة العقلية، وما ينتج عنها من شيوع الوعي الساذج و(عقلية النخبة التسلطية).
2- إفراز المؤسسات التنفيذية والإدارية القادرة على توفير إشباع الحاجات الإنسانية، ابتداء من الحاجات الفسيولوجية حتى درجة تحقيق الذات.
3- توفير أجواء الشورى السليمة، وليس مجرد الاستشارة، لإفراز القوى المجددة القادرة على دفع مسيرة التجديد.
4- مراعاة مبدأ الأصالة والمعاصرة في كل جوانب الإصلاح، سواء فيما يتعلق بغايات الحياة أو الوسائل والمؤسسات.
ولتحقيق الهدفين المشار إليهما أعلاه، يخلص البحث إلى التوصيات الآتية:
التوصية الأولى: تركيز حركات الإصلاح والتجديد – في المرحلة القائمة- على (تزكية) نظم التنشئة، والتربية العاملة في الأقطار العربية.
التوصية الثانية: هي؛ الحاجة إلى إخراج جيل جديد من المصلحين الذين يعون تفاصيل مسار الانحراف في كل الأقطار التي توصف بالتخلف- خاصة الأقطار العربية، والأقطار التي توصف بالتقدم- خاصة أمريكا وأوروبا. ولعل النظر العلمي الموضوعي يكشف أن مسار الانحراف في الأقطار العربية يبدأ من المظهر السياسي وينتهي في المظهر الاجتماعي. أما في الغرب، فالمسار يبدأ من المظهر الاجتماعي وينتهي إلى المظهر السياسي. والأزمة السياسية التي تعاني منها الأقطار الإسلامية تساوي في استفحالها واستعصائها على العلاج الأزمة الاجتماعية في أمريكا وأوروبا. والأزمتان سببهما واحد هو عدم الاهتداء ببصائر الوحي في ميدان الأزمة.
التوصية الثالثة: هي؛ بلورة تصور شامل لتحقيق التكامل بين ممثلي: المعرفة، والقوة، والمال، في المجتمعات العربية، وعدم ترك الفرقاء الثلاثة ليناقض بعضهم بعضًا.
التوصية الرابعة: هي؛ بلورة تصور شامل لــ (حقوق الإنسان) في الأقطار العربية، بما يكفل له إشباع حاجاته الإنسانية ابتداء من الحاجات الفسيولوجية حتى تحقيق الذات، من خلال فاعلية الإنجاز والإبداع.
التوصية الخامسة: هي؛ العمل الجاد لمحو(الأمية) التي تعانيها مختلف المؤسسات والجماعات والتعبير والاختيار، وتتجلى هذه الأمية الثقافية في أمرين:
الأول: القصور عن فهم الواقع والبيئة المحيطة.
والثاني: اضطراب نظام القيم الموجهة لشبكة العلاقات الاجتماعية، بحيث تهبط القيم الفكرية إلى أدنى درجات سلم القيم، في حين تحتل قيم القوة والثروة والجاه والنسب أعلى هذا السلم.
وإذا كانت منظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم، قد عرفت الأمية المعاصرة بأنها العجز عن التفكير العلمي والعجز عن تعلم الجديد؛ فإن العرب ما زالوا يعتمدون منهج الأمية في إدارتهم ومؤسساتهم وسياساتهم؛ لأنهم ما زالوا (يظنون) للأحداث مسارات وللمشروعات نتائج كتلك التي يشتهونها.
وأخيرًا: إن التحدي الكبير الذي يواجه المجتمعات البشرية على المستويين الإقليمي والعالمي، ليس هو: خطر الحروب وأسلحة التدمير الشامل وانتشار الإرهاب كما يشاع، وإنما هو خطر الزلازل الجارية في ميادين القيم.
إن ما يجري في عالم اليوم هو عمليات مخاض وولادة، وعمليات موت ودفن: ولادة الذين يتهيؤون للحضارة العالمية الجديدة، ويعدون لها عدتها ومتطلبات الحياة فيها، وموت المتشبثين بالعصبيات القديمة الرافضين سماع نداء الطور العالمي الجديد.
والذين يعانون من آثار العمليات الجراحية في كياناتهم الاجتماعية، ويندبون العدل الدولي، ويأخذون على الجراحين الدوليين الكيل بمكيالين اثنين أن يعوا حقيقة الحقبة التاريخية الجديدة وعدتها ومتطلباتها. وأنه لن يستطيعوا الإفلات من عمل السنن التاريخية وقوانين الحقبة العالمية القائمة؛ فإما أن يحققوا الوحدة قولًا وعملًا، والحرية تطبيقًا وإدارة، والعلم تفكيرًا وتقنيًا، والانتماء الإسلامي حياة ومنهجًا؛ وبذلك يبقون في المسار التاريخي، ويدخلون الحقبة التاريخية الجديدة. وإما أن يستمروا في خداع أنفسهم والتلهي بالأماني، وبذلك ينزلون بأنفسهم تطبيقات الحتمية التاريخية، ويخرجون من التاريخ أفرادًا وجماعات.
خلاصات الكتاب و ثمراته وفوائده
– الفاعلية تعني بشكل عام: “العمل على بلوغ أعلى درجات الإنجاز وتحقيق أفضل النتائج”.
– يوصف القادة بالفاعلية عندما تكون (المخرجات Output) أو النتائج التي يحصلون عليها أكثر وأحسن من (المدخلات Input)، أي الجهود والتكاليف والموارد البشرية والمادية التي استثمروها.
– تجديد الدين (الإسلام) يكون من خلال أربعة أمور: الأول: تجديد التعرف على محتويات الألفاظ والمصطلحات القرآنية كما هي في القرآن، والتحرر من الأفهام الخاطئة لهذه الألفاظ خلال فترات الانحراف أو الجمود. والثاني: تجديد إنزال نصوص الكتاب والسنة على الواقع الجديد بغية إفراز الاجتهاد المفضي إلى بلورة حلول نظرية وعملية جديدة لمواجهة التحديات وتلبية الحاجات الجديدة. والثالث: تجديد نظام القيم من خلال إعادة قيمة (العدل) أو القسط الجماعي بدل التركيز على (الأخلاق الفردية). والرابع: تجديد مناهج التفكير عند الإنسان العربي، بحيث يحل النقد الذاتي محل التفكير التبريري، والتفكير الشامل محل التفكير الجزئي، ويحل التفكير العلمي محل الظن والهوى إلى آخر أنواع التفكير المنشودة.
– التربية الواعية تعمل على تنمية نضج الشخصية الإنسانية عبر درجات ثلاث من العادات النفسية- الاجتماعية، وهي: درجة الاعتماد على الغير، ودرجة الاستقلال عن الغير، ودرجة تبادل الاعتماد مع الغير.
– يصاحب درجة (تبادل الاعتماد مع الغير) عدد من العادات النفسية والفكرية الإيجابية المؤدية إلى إثراء الأداء والإنجاز. وهذه العادات هي: عادة تفكير (أحب للآخرين ما أحب لنفسي)، وعادة: (افهم الآخرين ثم دعهم يفهموك)، وعادة (التعاون الجماعي).
– يعرِّف د. ماجد الكيلاني “التربية التجديدية” بأنها: ذلك النظام التربوي الذي يعمل على “تجديد” معلومات المتعلم ومهاراته العقلية والعلمية، واتجاهاته الإرادية إلى الدرجة التي تمكن هذا الإنسان من إقامة علاقاته مع الآخرين على أساس من “التكامل” والفهم المستقل، والوعي المنفتح القادر على ابتكار الوسائل اللازمة لمواجهة تحديات الزمان والمكان والمشاركة في صنع قراراته المتعلقة بحاضره ومستقبله.
– ويعرِّف “تربية القولبة والتسخير الإرادي”؛ بأنها: تعني ذلك النظام التربوي الذي يعمل على صب “فكر منتقى” في قوالب جامدة من التفكير، وتوجيه إرادة الإنسان إلى مرادات تحيل الناس إلى قطعان بشرية سهلة الحشد والتوجيه. وتتم هذه القولبة العقلية والإرادية من خلال مؤسسات التنشئة المتسلطة.
– صفات المجتمع المفتوح: هيمنة روح العمل الجماعي، وإقامة علاقات الناس بعالمهم على أساس من الوعي الراسخ بواقعهم، وعلاقات الإنسان بالعالم المحيط على أساس التكامل معه، وإدراك المعلومات المتعلقة بهذا الواقع وفهمها. وأنه يستطيع تمييز الحقب الزمنية التي أقام الناس خلالها علاقاتهم مع العالم المحيط باستقلال وفاعلية.
– صفات المجتمع المغلق: لا يعي الناس في المجتمع المغلق أهمية العمل الجماعي ولا يحسنونه؛ ولذلك يسلمون زمامهم إلى (نخبة طاغية)؛ تتسلط على الأكثرية وتسحقهم، وتنتقص من إنسانيتهم، وتعزلهم عن التفاعل مع واقعهم، وتفرض عليهم (ثقافة الصمت). ويعجز الناس في المجتمع المغلق عن فهم قضايا أزمانهم والتطورات الجارية فيها، وكذلك يعجزون عن نقدها وتحليلها والتدخل في مجراها. والإنسان في المجتمع المغلق لا يتكامل مع العالم المحيط، وإنما يتكيف له. والإنسان المتكيف لا يكون فاعلا، وإنما يتحول إلى مفعول به يتأثر بالآخرين ولا يؤثر فيهم. والإنسان في المجتمع المغلق لا يحس بأقسام الزمن، ولذلك يظل يعاني العجز عن فهم التحديات والضعف أمام المشكلات. ويظل يعاني من التغيرات القوية خلال التحول الجاري دون أن يكون له أثر في مجراها، ويرى في تناقضاتها علامات اقتراب الساعة وآخر الوقت.
– التربية السائدة في الأقطار العربية تربية ليس فيها من صفات التجديد شيء.
– تضع التربية التجديدية في قمة أهدافها تطوير نظام قيم تحترم الحاجات الإنسانية الخمسة بشكل خاص، وتعمل على توفيرها وصيانتها.
– يلاحظ أن مراعاة سلم الحاجات الإنسانية مبدأ أصيل في الرسالات الإلهية التي يتحدث عنها القرآن الكريم.
– في مجتمعات العالم الثالث- ومنه غالبية المجتمعات العربية- جرى تطبيق سلم الحاجات لــ – ماسلو- تطبيقا عكسيا أدى إلى تدمير فاعلية الإنسان في هذه المجتمعات.
– هناك ثلاث قوى تتحكم في مسيرة المجتمعات، هي: القوى المحافظة والمتطرفة والمتجددة، وأيهما غلبت؛ غلبت عليه.
– نهى القرآن المؤمنين عن التنازع؛ لأنه سبب الفشل وتبديد القوى. ولم يستغرب حدوث التنازع، وتقبله ما دام المتنازعون يحتكمون للخروج منه إلى معايير يستنبطونها في ضوء توجيهات الكتاب والسنة. فهناك إذن تنازع سلبي مدمر، وتنازع إيجابي توجهه تعليمات القرآن والسنة.
– التربية التجديدية هي بوابة (المجتمع الجديد) المنفتح على التحولات الجديدة. والجهل أو تربية القولبة العقلية والإرادية هما النفق المظلم المؤدي إلى (المجتمع المغلق) المتدحرج في مهاوي التخلف والانهيار.
– يلاحظ في سنن التحول التاريخي والتناقضات الجارية في (المجتمعات المغلقة) في الأقطار العربية والإسلامية: 1-غياب المدرسة الفكرية والحركة التربوية التجديدية 2- الصراع بين القوى اليسارية والآبائية والمحافظة (الحاكمة) انتهى بالمجتمعات العربية والإسلامية إلى ضياع الهوية وضياع في الحاضر والمستقبل 3- عجز الصحوة الإسلامية عن فهم سنن التحول التدريجي 4- شكلت نظم التربية القائمة المحاضن التي تدربت فيها (النخب) والأحزاب، والجماعات، على التنازع المسلح والاختلاف المتصارع.
– يوصي البحث بضرورة أن تبدأ حركات الإصلاح والتجديد (الحركة التربوية التجديدية) إستراتيجية مرحلية تركز في المرحلة الأولى على الميادين التربوية والفكرية والثقافية بغية تحقيق هدفين أساسيين: الهدف الأول: تنمية فاعلية الإنسان العربي، والهدف الثاني: تنمية الفاعلية عند الأمة. ولكل هدف آلياته. وقد وضع المؤلف توصيات بشأن تحقيق هذين الهدفين.