إنّ من أعظم النوافل التي يُتقرب به إلى الله- تبارك وتعالى- كثرة تلاوة القرآن الكريم، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، وعدم هجرانه، خصوصًا من الذين قد أتموا حفظه وتجويده، فهناك كثير من الشباب قد حفظوا كتاب الله تعالى في الحلقات القرآنية، أو حفظوا جزءًا كبيرًا منه ثم هم لا يواظبون على تلاوته، وليس لهم ورد يومي منه.
وإذا كانت هذه حال كثير من حفظة القرآن، فما بالنا بغيرهم ممن لم يحفظوه، وفي بحث للدكتور فايز بن سعيد الزهراني، يُحاول أن يعالج هذه القضية الخطيرة التي أقضت مضاجع هؤلاء الفتية الأخيار، والتي ربما أورثتهم إحباطًا في طريق استقامتهم.
طريقة النبي في تلاوة القرآن الكريم
لخّص ابن القيم الجوزية طريقة النبي- صلى الله عليه وسلم- في تلاوة القرآن الكريم، فقال عن ورده اليومي وملازمته للتلاوة: كان له- صلى الله عليه وسلم- حزب يقرؤه، ولا يخل به، وكان يقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، ومتوضئًا ومحدثًا، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة.
وأما عن صفة قراءته- صلى الله عليه وسلم- للقرآن الكريم فقال: وكانت قراءته ترتيلًا: لا هذًا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، وكان يقطع قراءته آية. والهذُّ: السرعة في القراءة والإفراط في العجلة.
وكان يمد عند حروف المد، فيمد “الرحمن” ويمد “الرحيم”، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته، فيقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وربما كان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه”، وكان تعوذه قبل القراءة.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يتغنى به، ويرجع صوته به أحيانًا كما رجع يوم الفتح في قراءته: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (الفتح: 1)؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ- أَوْ مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ- قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ: يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ ؟ قَالَ: آ آ آ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
وترجيع الصوت: ترديده في الحلق، قال ابن حجر: وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، فأخرج الترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه وابن أبي داود واللفظ له من حديث أم هانئ: “كنت أسمع صوت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجع القرآن”.
والذي يظهر أن في الترجيع قدرًا زائدًا على الترتيل، وهذا ما يظهر في حديث ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال: “بِتُّ مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حَيِّه: لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع”.
وكان من هديه- صلى الله عليه وسلم- أن يتدبر فيما يقرؤه ويتفكر فيه، كما ثبت عن حذيفة- رضي الله عنه- قال: “صليت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها يقرأ مترسلًا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ”.
تلاوة القرآن الكريم والسلف الصالح
وفصّل الإمام النووي- رحمه الله- طريقة تلاوة القرآن الكريم عند السلف الصالح، وذلك في كتابه “التبيان في آداب حملة القرآن”، وكان السلف- رضي الله عنهم- لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، ثم فَصَّل- رحمه الله- تفصيلًا رائعًا، على النحو التالي:
- منهم من كان يختمه كل شهرين.
- ومنهم من يختمه كل شهر.
- ومنهم من كان يختمه كل عشر ليال.
- ومنهم من كان يختمه كل ثماني ليال.
- والأكثرون يختمونه كل سبع ليال: كعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعلقمة، وإبراهيم النخعي، وغيرهم؛ ونقل عن عثمان بن عفان.
- ومنهم من كان يختمه كل ست ليال، أو خمس، أو أربع.
- وكثيرون يختمونه في ثلاث ليال.
- ومنهم من كان يختمه في ليلتين.
- وكثيرون يختمونه كل يوم وليلة: منهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشافعي…. إلخ.
- وبعد السرد المختصر لأخبار المواظبين على ختم القرآن الكريم تلاوةً- رضي الله عنهم- قال الإمام النووي: “والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف، فليقتصر على قدر يحصل له به كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولًا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة؛ فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة (السرعة في القراءة)”.
إذن، ليس في المسألة قولٌ واحدٌ بالأفضلية، وإنما حال الإنسان وظرفه لهما الاعتبار الأقوى بالأفضلية، سيما أنه لم يرد نص صريح بذلك. وإنما عمل السلف الصالح- رضي الله عنهم- بما أداه إليهم اجتهادهم، والذي بنوه على نظرتهم لواقعهم الشخصي.
وكانوا في رمضان يزيدون من وردهم القرآني، وهذا يدل على أنّ الحال والظرف محكمان في هذه المسألة، ولذلك ذكر الإمام النووي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أنه ختمه في أسبوع في بعض حاله، وختمه في يوم وليلة في بعضه الآخر.
وللحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- قول تَجْمُل إضافته إلى قول الإمام النووي؛ في المفاضلة بين الإسراع في قراءة القرآن والتدبر والترسل، فقال رحمه الله: “والتحقيق أن لكلٍّ من الإسراع والترتيل جهة أفضل، بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف والحركات والسكون والواجبات. فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر، وأن يستويا، فإن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة مثمنة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة. وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون بالعكس”.
تربية الأبناء على قرآة القرآن
وتربية الأبناء والناشئة عمومًا على تلاوة القرآن الكريم مسألة ينبغي أن يُراعى فيها ما راعاه الإمام المربي النووي- رحمه الله-.
فهناك أربعة أمور ينبغي على المربي أن يفطن إليها وهو يستهدف تربية الطلاب على التلاوة: حال القارئ، والظرف، والملل، والهذرمة، ولا يحسن أن يمضي المربي في حثه على الاستكثار من التلاوة دون النظر إلى هذه الأمور الأربعة.
ويُلاحَظ على بعض المربين حثهم الطلاب على الاستكثار من التلاوة مستشهدين في ذلك بسِيَر أولئك الأفذاذ الذين كانوا يختمون القرآن في يوم وليلة أو في ركعة واحدة أو كل أسبوع، فيندفع المتربي نحو الاقتداء بسيرتهم العطرة فيجد نفسه قد اصطدم في صخرة عاتية تعيقه عن إتمام المسير، فيؤثر عليه سلبًا: من حيث شعوره بالإخفاق وعدم قدرته على الاقتداء بسير السلف الصالح.
ويزداد الأمر إشكالًا حين يكون المربي ذاته مقصرًا في هذا الجانب، فلا توجد لديه الشحنة الكافية من الإقناع والتأثير على المتربين.
والذي يحسن لفت الانتباه إليه أنه ليس بالضرورة أن يكون أولئك الأفذاذ من السلف الصالح قد وصلوا في وقت قصير إلى ما وصلوا إليه من الاستكثار من تلاوة القرآن الكريم إلى درجة الختم في يوم وليلة ونحوه، فإن النفس البشرية لا تقوى على ذلك إلا بالتدرج في الاستكثار. هذا أمر.
أمر آخر، فإن المشترك بين من كان يختم في يوم وليلة ومن كان يختم في شهرين، ومن كان يختم فيما بينهما: الالتزام بالتلاوة وعدم الانقطاع، وهذا الأمر أبلغ بكثير في الأهمية من مدة ختم القرآن تلاوة. ذلك لدلالته على تعظيم قدر القرآن الكريم في النفس وتعظيم الله الذي أنزل القرآن؛ قال عثمان بن عفان- رضي الله عنه-: “لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله، وما أحب أن يأتي عليّ يوم ولا ليلة إلا أنظر في كلام الله- يعني المصحف-“.
وقال ابن مسعود- رضي الله عنه-: “مَن أحب أن يحبه الله ورسوله فلينظر: فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله”، كما أن الالتزام بالتلاوة له دلالته على تجذر المراقبة الداخلية في القلب وكذلك المتابعة الذاتية للواجبات اليومية.
والالتزام مبدأ شرعي حث الإسلام عليه أكثر من حثه على حجم العمل؛ فعن القاسم بن محمد عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ”، قال: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته.
وأيهما أولى: الالتزام بمقدار أم ذات المقدار؟ إذن.. الالتزام بتلاوة مقدار محدد من القرآن يأتي في الدرجة الأولى في التربية على تلاوة القرآن الكريم، ثم يأتي بعده- وهو مهم أيضًا- مقدار ما ينبغي أن يتربى عليه الطلاب في تلاوة القرآن الكريم، ولم يأتِ نص صريح في الأمر بتلاوة مقدار محدد، إلا ما ورد في إجابة لبعض الصحابة رضي الله عنهم.
فعن وهب بن منبه عن عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي- صلى الله عليهم- في كم يُقرأ القرآن؟ قال: “في أربعين يومًا” ثم قال: “في شهر” ثم قال: “في عشرين” ثم قال: “في خمس عشرة” ثم قال: “في عشر” ثم قال: “في سبع” لم ينزل عن سبع. ومع كون هذا النص جاء في حالة عينية، إلا أنه واضح الدلالة في التيسير على السائل رغم قدرته على ما هو أكثر من ذلك، لذلك تنوعت أحوال السلف في الورد القرآني اليومي.
مقترح تربوي
ومقترحات تلاوة القرآن الكريم عديدة، لكن يمكن تربية الطلاب على التلاوة وفق برنامج يومي، بحيث يتلو الطالب كل يوم نصف حزب من القرآن، أي ما يعادل خمس صفحات وفق طبعة المدينة المنورة، وهذا يعني أنه سيختم القرآن تلاوة في أربعة أشهر، أي: أنه سيختم القرآن الكريم ثلاث مرات في العام الواحد، ويستمر على هذه الحال لسنتين فقط، ويكون لهذا البرنامج مستلزماته المعدة له: كوقته، ووسائل متابعته، وحوافزه… إلخ.
ولا تستقل هذا القدر فتراه ضئيلًا أو تظنه تقصيرًا في شأن القرآن الكريم، فإنما هي بداية الطريق، وقليل دائم خير من كثير منقطع. ونحن نرى اندفاعًا من الشباب نحو الاستكثار من تلاوة القرآن، فيقرؤون القرآن بشغف وحماسة ثم لا يلبثون أن ينقطعوا شهورًا عن تلاوته.
إن هذه الطريقة- وهي التلاوة في أربعة أشهر للطالب المبتدئ- سيستفيد الطالب منها قيمةً تربوية، وهي الالتزام، كما سيتهيأ بعدها للارتقاء المتدرج فيطلب بنفسه أن يكون ورده اليومي أكثر من نصف حزب.
ويجري الارتقاء بعد التأكد من نجاح الطالب في الالتزام بورده اليومي- بنسبة معقولة- إلى تلاوة حزب واحد من القرآن الكريم في كل يوم، أي ما يعادل عشر صفحات من القرآن الكريم وفق طبعة المدينة المنورة، وهذا يعني أنه سيختم القرآن كل شهرين، وهذا عين ما كان عليه جماعة من السلف الصالح- رضي الله عنهم ورحمهم-، ويستمر على هذه الحال لسنتين أخريين، وهو ما يعني أنه سيختم القرآن في هذه السنتين اثنتي عشرة ختمة، وهذا إنجاز كبير في العمل التربوي، حيث سيكون لدينا شريحة من الشباب يعيشون مع القرآن كل يوم بمسؤولية شخصية ورقابة داخلية.
ولا شكّ في أنّ هذا الهدف التربوي بحاجة إلى تنظيم إداري، لنضمن الحد الأدنى من النجاح، وأيًّا ما كانت الجدولة الزمانية للورد اليومي؛ فإنّ المقصود هو التدرج في الاستكثار من التلاوة والالتزام بقدر معين من القرآن يوميًّا، وجعل ذلك هدفًا تربويًّا.
ميزان الحفظ والتلاوة
العرف الذي يجري في الحلقات القرآنية أن ورد الطالب اليومي هو المقدار الذي يحفظه كل يوم ويراجعه بوصفه أحد الواجبات المقررة عليه في انضمامه للحلقة. وهذا الواجب يستغرق جُل أو كل وقت الطالب ووقت المعلم، وهو أيضًا يحوز على نصيب الأسد من الأهداف التربوية والتعليمية للحلقة.
أما إذا اقتنعنا بأهمية تغيير خريطة الأهداف التربوية والتعليمية للحلقات القرآنية وفقًا لما كان عليه صحابة نبينا- صلى الله عليه وسلم- وسلفنا الصالح- رضي الله عنهم- فإنه يتحتم القول بأن التربية على تلاوة القرآن الكريم أحد أهم معالم التربية القرآنية في الحلقات، وأن المنهج الذي لا يعتمد التربية على تلاوة القرآن الكريم ضعيف المخرجات وإن..
من جهة أخرى؛ فإن هذه التربية من شأنها أن تزاحم حفظ القرآن الكريم، وعليه فإن على الحلقة القرآنية أن تعيد الموازنة بين الأهداف التربوية، وتقرر نصيب كلٍّ مِن حفظِ القرآن الكريم وتلاوتِه الجديدين بالقدر الذي يضمن سلامة الهدف.
ولا شكّ في أن ذلك يؤدي إلى نقص في مقرر الحفظ لصالح مقرر التلاوة، أرجو ألا تنزعج المؤسسة القرآنية من هذا الأمر؛ فإنّ المهمة المنوطة بها أعمق من تخريج نسخ جديدة من المصاحف المتحركة، إن المهمة الأعظم الملقاة على هذه المؤسسات تكمن في التربية القرآنية وتخريج جيل ملازم للقرآن الكريم حفظًا وتلاوة وعملًا.
أخيرًا
فإن تلاوة القرآن الكريم من المهام التي يجب الحرص عليها وتربية الأبناء عليها منذ الصغر، لتعويدهم عليها في الكبر، ولا بد من المواظبة على ذلك، والمتابعة الجيدة، فمكانة القرآن عظيمة في حياة المسلم، ولا تصحّ الصّلاة من دون القراءة، كما يتضاعف أجر التلاوة في شهر رمضان المبارك، لهذا لا بدّ من الالتزام بها وإتقانها بتمعّن وتدبر.
المصادر والمراجع:
- ابن حجر: فتح الباري، ٩/٧٨.
- ابن القيم: زاد المعاد، 1/463.
- هديه – صلى الله عليه وسلم – في قراءة القرآن .