تتنوع أساليب التربية في الإسلام لتتناسب مع الاختلافات في التفكير والفروق الفردية بين الأفراد، ومن أهم هذه الأساليب التربية بالموعظة التي حثّ عليها القرآن الكريم، واتبعها النبي- صلى الله عليه وسلم- مع صحابته، وأكد أهميتها علماء التربية في كل العصور.
والموعظة سياط يضرب القلب، ويبقى أثره لفترة طويلة، وهي ذات أثر بالغ في النّفس، لذا لم يكن المربي الأول وهو النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- يغيب عنه هذا الأمر أو يهمله، فكان يتخوّل صحابته بين الحين والآخر بالموعظة الحسنة لتبقى قلوبهم يقظة وعامرة بالإيمان.
مفهوم التربية بالموعظة وأهميتها
ونُعرّف مفهوم التربية بالموعظة من خلال التعرف إلى معنى كل كلمة على حدة، فالتربية من “ربا، يربو بمعنى نما ينمو، فربا الشيء يربو ربوا ورباء”، “وزاد ونما، وأربيته نميته”، أما الموعظة فهي، التخويف والزجر، والتذكير بالخير وما يرق له القلب ويلين له، وهي النصر والتذكير بالعواقب.
وفي الاصطلاح، تعرف التربية بأنها إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئًا، ومجموعة الطرائق والوسائل النقلية والعقلية الاجتماعية والعلمية التجريبية التي يستخدمها العلماء والمربون للتأديب والتهذيب. أما الموعظة فهي الكلام الذي يوجه إلى شخص أو جماعة بهدف إصلاح حالهم وتوجيههم إلى الخير.
والموعظة لها أهمية كبيرة في عملية التربية، لأنها تُنمّي الإيمان والأخلاق، وتهذب السلوك، وتقوم الانحراف، وتأخذ معاني النصح وهو بيان الحق والمصلحة لتجنيب المنصوح الضرر وإرشاده إلى ما يحقق نفعه وسعادته، وتذكر بالموت وبالمرض وبيوم الحساب، فهي مؤثرة وتنفذ مباشرة إلى النفس عبر الوجدان، وتُربي العواطف وتنميها، وقد توقظ العواطف في نفوس النشء بالحوار أو العمل والعبادة والممارسة كعاطفة الخضوع لله والرغبة في جنته.
ويعتمد الوعظ على القُدوة الحسنة وعلى الجماعة المؤمنة التي تعد الوسط الذي يسمح بتقليد القدوة ويشجع على الأسوة بها، والقدوة الحسنة تجعل الموعظة بالغة التأثير في النفس ودافعًا قويًا إلى تزكية النفس وتطهيرها من فجورها وأدرانها.
التربية بالموعظة في القرآن والسنة
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أسلوب التربية بالموعظة في آيات عديدة، منها ما جاء في قوله- سبحانه تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]. وهذا دليل على أنّ من حقوق الأولاد على آبائهم أن يجلسوا معهم للوعظ، كهذا المجلس الذي جلسه لقمان، لأن الله تعالى ما ذكر قصته للتسلية، وإنما من باب البيان لما يجب على الآباء نحو أبنائهم.
وهذا الأسلوب التربوي لم يقتصر على الآباء فحسب، حيث يمكن لكل داعية أن يستعمله في دعوته، يقول الله جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125].
وهو الأسلوب الذي مارسه الرّسل- عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم، قال تعالى آمرا رسوله- صلى الله عليه وسلم-: (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء: 63)، وقال تعالى آمرا موسى وهارون- عليهما السلام- : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44].
وأخبر الله- جل وعلا- أنّ من خصائص رسالاته إلى عباده أنها مواعظ تهدي إلى الحق، قال تعالى مخبرا عن محتويات التوراة: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) [لأعراف:145].
وقال تعالى في وصف الإنجيل: (وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [المائدة:46].
وقال عن القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57].
يقول الرازي عن النفوس المستعدة لتقبل المواعظ: “وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المُخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة”.
وكان من أساليب التربية في السنَّة النبوية، استخدام المواعظ، فقد روي عن عبد الله بن مسعود- رضِي الله عنْه- – أنَّه قال: “كان النَّبيُّ- صلَّى الله عليْه وسلَّم- يَتَخَوَّلنا بالموعِظة في الأيَّام؛ كراهة السَّآمة عليْنا” (البخاري ومسلم).
واستعمل النبي أسلوب ضرب المثل لتوْضيح المواعظ، فعن أنس بن مالك- رضِي الله عنْه- قال: قال رسول الله- صلَّى الله عليْه وسلَّم-: “مَثَل المؤمِن الَّذي يقرأ القُرآن كمثل الأُتْرُجَّة: ريحها طيِّب وطعْمُها طيِّب، ومَثَل المؤمِن الَّذي لا يقرأ القُرآن كمثَل التَّمرة: طعمُها طيِّب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الَّذي يقرأ القُرآن كمثَل الرَّيحانة: ريحها طيِّب وطعمها مرٌّ، ومثَل الفاجر الَّذي لا يقْرأ القُرآن كمثل الحنظلة: طعمُها مرٌّ ولا ريح لها” (البخاري ومسلم).
وكان النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إذا بَعَث أميرًا، أمره بالتَّقوى والتِزامِ تعاليمِ الإسلامِ في الجِهادِ، فعن سُلَيمانَ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، قال: “كان رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ، أو سَرِيَّةٍ، أوصاه في خاصَّتِه بتقوى اللهِ، ومَن معه مِن المُسلِمينَ خَيرًا، ثمَّ قال: اغزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتِلوا مَن كَفَر باللهِ، اغزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا، ولا تَمْثُلوا، ولا تَقتُلوا وليدًا” (مسلم).
نماذج وأمثلة
وحفظت لنا كتب الأحاديث العديد من المواقف والقصص عن أسلوب التربية بالموعظة الحسنة، من ذلك ما يحكيه العرباض بن سارية- رضي الله عنه- عن موعظة وعظها إياهم النبي- صلى الله عليه وسلم-، فيقول: وعظَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يومًا بعدَ صلاةِ الغداةِ موعِظةً بليغةً ذرِفَت منْها العيونُ ووجِلَت منْها القلوبُ فقالَ رجلٌ إنَّ هذِهِ موعظةُ مودِّعٍ فماذا تعْهدُ إلينا يا رسولَ اللَّهِ قالَ أوصيكم بتقوى اللَّهِ والسَّمعِ والطَّاعةِ وإن عبدٌ حبشيٌّ فإنَّهُ من يعِش منْكم يرَ اختلافًا كثيرًا وإيَّاكم ومحدَثاتِ الأمورِ فإنَّها ضَلالةٌ فمن أدرَكَ ذلِكَ منْكم فعليْهِ بِسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ المَهديِّينَ عضُّوا عليْها بالنَّواجذِ” (أبو داود والترمذي).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه-، قال: “خَطَبَ رَسولُ اللَّهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خُطْبَةً ما سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ؛ قالَ: لو تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قالَ: فَغَطَّى أصْحَابُ رَسولِ اللَّهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وُجُوهَهُمْ، لهمْ خَنِينٌ، فَقالَ رَجُلٌ: مَن أبِي؟ قالَ: فُلَانٌ، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
ووعظ النبي- صلى الله عليه وسلم- الغلام- عمر بن أبي سلمة- بأسلوب ليّن هيّن سهل يفهمه، فعن عمر بن أبي سلمة قال: كُنتُ غلاما في حجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة، قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ياغلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك” (متفق عليه)، فما زالت تلك طعمتي بعد”، كذلك ممكن أن تكون الموعظة الحسنة بصورة غير مباشرة وتحدث تأثيراً كبيراً على الإنسان،، كذلك يجب أن يبدأ المربي في موعظة أبنائه بالأهم فالمهم “مثل الصلاة”.
وعندما مر- صلى الله عليه وسلم- بجدي أسك (صغير الأذن) أراد أن يذكرهم من خلاله بحقارة الدنيا، فعن جابر- رضي الله عنه- أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ بالسُّوقِ، دَاخِلًا مِن بَعْضِ العَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فأخَذَ بأُذُنِهِ، ثُمَّ قالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هذا له بدِرْهَمٍ؟ فَقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بشَيءٍ، وَما نَصْنَعُ بهِ؟! قالَ: أَتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟ قالوا: وَاللَّهِ لو كانَ حَيًّا كانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأنَّهُ أَسَكُّ، فَكيفَ وَهو مَيِّتٌ؟! فَقالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ علَى اللهِ مِن هذا علَيْكُم” (البخاري).
ومن هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- في المواعظ أنه كان يستعين أحيانا بالرسوم الإيضاحية، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطأً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط. فقال: “هذا الإنسان وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج- أي عن الخط- أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا”.
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: “شَهِدْتُ مع رَسولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- الصَّلَاةَ يَومَ العِيدِ، فَبَدَأَ بالصَّلَاةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ، بغيرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا علَى بلَالٍ، فأمَرَ بتَقْوَى اللهِ، وَحَثَّ علَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقالَ: تَصَدَّقْنَ؛ فإنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِن سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، فَقالَتْ: لِمَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، قالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِن حُلِيِّهِنَّ؛ يُلْقِينَ في ثَوْبِ بلَالٍ مِن أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ” (مسلم).
إن أسلوب التربية بالموعظة له أثره البالغ في القلب والنفس، لذا فإنه على الداعية أو المربية أن تكون موعظته على علم وبصيرة، ومبنيَّة على الكتاب والسُّنة، ويجتهد أن تكون بليغة ومؤثرة، وأن يراعي فيها الوقت وحال السامع ومدى استعداده وتهيئته؛ حتى لا تكون مملَّة ومُنفّرة، وأن يعتني بمضمون الموعظة؛ فتارة لبيان حكم شرعي، وأخرى لإشباع احتياج المدعوِّين في باب الترغيب والترهيب، وثالثة في إيراد قصص وعرض أمثلة تشويقية لتقريب الصورة المثلى في الأذهان، مثلما كان يفعل النبي- صلى الله عليه وسلم-.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 1/400.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 1/126.
- ابن سيده: المحكم والمحيط الأعظم 2/140.
- الرازي: التفسير الكبير 20/288.
- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية 1/187.
- صفاء الخالدي: تربية الأبناء في الإسلام.
- د. صالح بن علي أبو عراد: مقدمة في التَّربية الإسلامية، ص 74، و75.