اتَّفق التربويون على أنَّ أسلوب التربية بالقصة من أفضل وسائل تربية النشء، مستندين في ذلك إلى القرآن الكريم الذي سبق العديد من الدراسات في إثارة الدافعيَّة إلى التعلُّم باستخدام الأسلوب القصصي وهو ما يُفضله الصغار والكبار.
وقد ساق القرآن العديد من القصص، أبرزها قصة يوسف- عليه السلام- التي وصفها الحق- جل وعلا- بأنها أحسن القصص، فقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وسمَّاها أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فيها مِن العبرِ والحكمِ وَالنُّكَت وَالفوائد التي تصْلُح للدِّينِ وَالدنيا، من سِيَرِ المُلُوك والمماليك والعُلماء ومَكْرِ النساء والصبرِ على أَذى الأَعداء، وحُسْنِ التَّجَاوُزِ عنهم بعد الالتقاء وغيرِ ذلك من الفوائد.
أهمية التربية بالقصة
تُعدّ القصة المعبرة هي الأقرب إلى الإحساس والمشاعر، والأكثر إثارة للعواطف ودفء التصور، والأهم من ذلك الأسرع في إيصال المعنى دون تكلف، فلا يمل السامع ولا يسأم من كلام مخاطب.
والقصة تشرح لنا ما يُراد من المعاني بالأمثلة التي تُجسّد الواقع في صورة الماضي المعروف سلفًا ليرسخ في ذهن المتلقي فلا ينساه. عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: “إنَّما مَثَلِي وَمَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقالَ: يا قَوْمِ، إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وإنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فأطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا علَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ منهمْ، فأصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فأهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذلكَ مَثَلُ مَن أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ ما جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَن عَصَانِي وَكَذَّبَ بِما جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ”(البخاري).
فالنبي- صلى الله عليه وسلم- أراد أن يوصل الغرض من رسالته وأهمية التمسك بها، فجاء بقصة مجسدة لمثل حالته فأبانت ما يريد تبليغه لأصحابه- رضوان الله عليهم أجمعين- الذين تعلموا أن يأخذوا من كل قصة العظة والعبرة، كما يخرجون منها بدرس تربوي سلوكي مستفاد ينفعهم وينفع من بعدهم في الدارين.
وللقصة وظيفة تربوية لا يُحقّقها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي، ولها آثار نفسية بليغة محكمة، بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة في العاطفة وحيوية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه وتجديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجيهها وخاتمتها والعِبرَةِ منها.
والقصة في إطار أساليب التربية الإسلامية، تختلف عن غيرها بكونها تنتهي حتمًا إلى عبرة هي بمثابة موعظة تستنتج استنتاجًا، وغالبًا ما توصف بالتشويق وسهولة الأسلوب وتسلسل الأحداث وترابطها، ما يساعد على تعلق السامع بها والرغبة في الوصول إلى النهاية، الأمر الذي يجعل هذا النوع من التربية مستدامًا.
التربية بالقصة في سورة يوسف
وتهتم التربية بالقصة في سورة يوسف بغرس الأخلاق الإسلامية الحميدة والقيم والمبادئ الدينية الرفيعة، ومن تلك القيم:
- الصدق: وهو أساس الأخلاق، وعلامة الإيمان، وعلامة الإحسان، والقُرب مِن الرحمن، والسبيل إلى الجنان، فبزيادته في شخصية الفرد، تزداد معالي الأخلاق لديه، وبِنقصانه تنقُص. يقول الله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) [يوسف: 26-28]، ولعظيم صِدق يوسف يسّر الله تعالى له من ينطِق ببراءته ويشهد بِصِدقه، ثم أظهر الله براءته وصدقه بشهادة من اتهمته بالخيانة.
- قيمة العدل: وجاءت العديد من القصص القرآنية التي تؤكد أهمية العدل وتعميق الإيمان به في نفوس المسلمين، وضرورة تطبيقه في المعاملات في الحياة الدنيا، ومن ذلك قصة سيدنا داود- عليه السلام-.
- التقوى: وهي فعلُ ما أَمر االلهُ به، وترك ما نهى االلهُ عنه . قال الله تعالى: (ولَأَجر الْآخِرةِ خير لِلَّذِين آمنوا وكَانوا يتقُونَ) [يوسف: 57].
وقال تعالى: (قَالُوا أَإِنك لَأَنت يوسف قَالَ أَنا يوسف وهذَا أَخِي قَد من اللَّه علَينا إِنه من يتقِ ويصبِر فَإِنَّ اللَّه لَا يضِيع أَجر الْمحسِنِين) [يوسف: 90] عند التقوى الأخلاق تتجلى، ويصير العبد متميزاً في سلوكه مع ربه- جلَّ وعلاـ ومع الآخرين؛ لأنّ التقوى تجعله يحرص على مراقبة الله تعالى في قوله وفعله، وسِره وعلانيته.
- قيمة الصبر: وقد تجلت في العديد من القصص، ومنها قصة يوسف عليه السلام، فعندما فوجئ يعقوب عليه السلام بالخبر المحزن بأن يوسف قد أكله الذئب: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) [يوسف:18].
- الشجاعة: وهِي قوة القلب وثباته عند قول الحق. إنّ الشجاعة صفة نبيلة، تحفِّز المرء لقول الحق والصدع به، مِن غير مواربة، وخاصة حينما يكون قول الحق في المواقف المصيرية الصعبة التي ينبني عليها مصير شخصٍ في براءة أو حياة.
مميزات الأسلوب القصصي
وتتعدد الأساليب التربوية في سورة يوسف- عليه السلام-، وعلى رأسها أسلوب التربية بالقصة أو الأسلوب القصصي، الذي يعد من أكثر الأساليب تأثيرًا في النفس؛ بسبب القالب الفني الذي تسرد من خلاله الحكاية، بحيث تصغى إليه الأسماع ولا تمله القلوب.
وتنوع الأحداث في القصة؛ يعطي المتعلم سعة في التفكير، ويبعد عن نفسه السآمة والملل، ومن المعلوم لدى علماء التربية أن القصة من أنجح الوسائل في التوجيه، وقد سبقهم القرآن الكريم بأكثر من أربعة عشر قرنًا في ذلك.
وقد تميزت هذه السورة الكريمة بميزات عدة عن غيرها من القصص القرآني، فهي أحسن القصص، كما قال الحق تبارك وتعالى في ذلك: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} (يوسف: 3).
فالقصّة قد اشتملت على أبطال ذوي أدوار مختلفة، وشخصيّة يوسف- عليه السلام- مثلت الشخصية الرئيسة في السورة الكريمة.
وتظهر شخصيات أخرى ذات دور فعال في القصة وأخرى ذات دور جزئي، إذ إن هذا التعدد في الشخصيات والأدوار يعطي تنوعًا في المبادئ والقيم والمهارات التي يراد غرسها في الناشئة، وأخرى غير مرغوب فيها، يعمل الناشئة على تجنبها.
فلم تقتصر قصة يوسف- عليه السلام- على تنوع في الشخصيات؛ بل إننا نجد أن هناك حديثًا عن المجتمعات التي كانت في ذلك الوقت؛ لزيادة المعرفة في حال تلك المجتمعات وتصوّراتها وقيمها.
وعرضت السورة المجتمعين: الشامي والمصري، زمن يوسف عليه الصلاة والسلام. فأظهرت المدنية التي قامت في مصر وحالة الترف التي كان يعيشها أهلها، وفي المقابل تبين ما كان عليه أهل الشام من بداوة وفقر، وبساطة في العيش.
واحتوت السورة على الكثير من الحوارات، التي يلاحظ أن أغلبها كان متمحورًا حول شخصية يوسف- عليه السلام- بشكل مباشر أو غير مباشر، وأيضًا الحوار الذي يهدف إلى إيصال الفكرة الأساسية المتمثلة في توحيد الله تعالى والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ومن ثم بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة والمتكاملة.
ويعد أسلوب حل المشكلات من التوجهات التربوية الحديثة في هذا العصر، الذي أخذ اهتمامًا متزايدًا؛ نظرًا لما يتطلبه من مهارات مختلفة، وإشراك المتعلم، وذلك من خلال إثارة تفكيره وإتاحة الفرصة له؛ كي يواجه مشكلته ويعمل في حلها، والناظر في سورة يوسف عليه السلام يجد أنها قد رسمت الملامح الأساسية لأسلوب حل المشكلة وهذا ما يرد كثيرًا في القرآن الكريم حينما تثار الأسئلة- التي تستثير المخاطب- فتطلق الطاقات العقلية لديه للبحث عن نهاية محددة، أو التوصل إلى إجابة شافية.
وأوردت السورة الكريمة لنا بعض الإجراءات التي اتخذت من أجل الوصول إلى حل للمشكلة، منها:
- دعوة ملك مصر للعلماء المختصين في عصره، وعرض مشكلته عليهم.
- إعطاؤهم الوقت الكافي للبحث في إيجاد حل لتلك المشكلة.
- عدم توقفه عن تكرار طرح الموضوع، والطلب بضرورة إدامة التفكير من أجل الوصول إلى حل، حتى وصل الأمر إلى أحد ساقته، وتذكر صديقًا له في السجن من الممكن أن يجد الحل عنده، يقول تعالي: (وقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (يوسف: 45).
فوائد تربوية من سورة يوسف
إن عشرات الفوائد التربوية تنساب من سورة يوسف عليه السلام، بحيث نجدها مبثوثة عبر كل المراحل في البداية، وفي الوسط، وفي النهاية، وإن أية محاولة لقراءة هذه السورة؛ لاستخلاص الفوائد العملية المرتبطة بالروح وبالإيمان، وبالأخلاق الزكية، تجعل القارئ المتعمق يشعر فعلًا بما يسميه بعضهم “المدرسة اليوسفية”، أو “الجامعة اليوسفية”، ومن أهم هذه الفوائد:
- كتم التحدث بالنعمة للمصلحة جائز، لذلك قال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ) مع أن الرؤيا نعمة هنا (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) إذا لو كتم إنسانٌ نعمة الله عليه ولم يُفشها كيلا يتضرر من الحسد فهذا لا بأس به.
- على الأب أن يعدل بين أولاده ما أمكن، ولو كان أحد الأولاد يستحق المزيد من العناية، فإنّ على الأب ألا يُظهر ذلك قدر الإمكان حتى لا يُوغر صدور الآخرين.
- البيت الطيب يخرج منه الابن الطيب، يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
- تبييت التوبة قبل الذنب تعد توبة فاسدة؛ قال تعالى: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ).
- أن الشاب إذا نشأ في طاعة الله، فإن الله يؤتيه علمًا وحكمةً، قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
- الخلوة بالمرأة الأجنبية في البيت خطر، قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) فهذه الخلوة المحرمة تؤدي إلى المصائب العظيمة.
- الله تعالى يُعِين أولياءه في اللحظات العصيبة بأمور تثبتهم، (لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) فهو إذا كاد، لكن أراه الله برهانًا جعله ينصرف، فالله يعين وليه في اللحظات العصيبة.
- أن الإنسان لولا معونة الله لا يثبت على الحق، ولولا توفيق الله وتسديده لا يثبت على الحق (كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّٓوءَ وَالْفَحْشَٓاءَ).
- شهادة القريب على قريبه أقوى من شهادة البعيد على القريب، قال تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا).
إن قصة يوسف- عليه السلام- تعد من أهم نماذج أسلوب التربية بالقصة بما فيها من أحداث ووقائع بين الأب والأبناء وبين الإخوة مع بعضهم، وبين النفس البشرية وحظوظ الشيطان، وبين الإيمان والكفر، وبين القيم والأخلاق، وبين اليأس والأمل والصبر والتضجر، وبين التغلب على المشكلات وتجاوزها، وبين السلوكيات وتقويمها، وبين العدل والظلم، وبين ظهور الحق وبيانه وعودة كل شيء إلى نصابه، آيات للسائلين، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ في يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَٰتٌ لِّلسَّآئِلِينَ) [يوسف: 7].
وهذه القصة نموذج للسّرد والحبكة والأحداث والشخصيات والزمان والمكان، وبالتالي استحقت وصف “أحسن القصص” باستدعائها لشخصيات حقيقية تتفاعل وتتصارع من الجزء إلى الكل لتصل في النهاية إلى ذروة الكمال، مؤكدة أهمية الابتلاء بالمعاناة والتجلد بالصبر من أجل التمكين، وفي ذلك رسائل مهمة للرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- والجماعة التي آمنت به.
المصادر والمراجع:
- محمد شديد: منهج القصة في القرآن، ص 95.
- عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية، ص 329.
- نايف الشريف: التربية الإسلامية وقصة التفكير العلمي، رسالة دكتوراة، ص 245.
- سعيد علي: الأصول الإسلامية للتربية، ص 115.
- فضل عباس: القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته، ص 11.
- عويض بن حمود العطوي: جماليات النظم القرآني في قصة المراودة في سورة يوسف، ص 53.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 3/416.