التربية بالحب والحزم معًا، طريقةٌ مُثلى ووسيلة ناجحة في تنشئة الأبناء داخل الأسرة، فهي ملموسة الثمار، ومضمونة النجاح، لذا يجب على أولياء الأمور والمربين تنمية حبّهم للصغار ومن يتولون مسؤوليتهم حتى تستمر الحياة بلا مشكلات هادمة للأسر والمجتمعات.
والطفل يُجيد تمامًا فكّ رموز لغة الحب التي يتلقاها من الوالدين بل ومن المحيطين به حتى إنه يشعر بمَن يكرهه، فإذا اقترب منه يبكي. والانضباط في التربية ومشاعر الحب الإيجابية الحازمة من أفضل الأسس التربوية السليمة، فتربية الأطفال انطلاقَا من مبدأ الحب والحنان المقترن بالحزم، تخلق أطفالاً أكثر نجاحا في حياتهم المستقبلية، وتعليم الأطفال مفهوم الانضباط من منظور الحب يساعدهم على تحقيق كامل طاقاتهم من دون الحاجة لاستخدام أساليب التربية القمعية الخاطئة.
التربية بالحب والحزم
يحاول الدكتور سعد الله المحمدي (كاتب صحفي من البحرين) وضع أسس التربية بالحب والحزم، ليصبح لدى النشء الصغير القدرة على مواجهة الانحطاط الأخلاقي الذي انتشر في الأمة فيقول: “هناك حقيقة ثابتة لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتجاهلها أو يغض الطرف عنها؛ وهي: إنك إذا أردتَ أن تبنيَ بيتًا أو منزلًا محكمًا، فإنه لا بد لك من أسس متينة وأعمدة قوية، وإلا فإن هذا البيت سوف يسقط وينهار في يوم من الأيام.
ويضيف: كما أنّ البناء يحتاج إلى هندسة وتخطيط وجهد وتفكير، فكذلك تربية الأولاد وإعدادهم يحتاج إلى تخطيط وسَعَةِ صدر، وحكمة وصبر، ورؤية واضحة، وتضرع إلى الله تعالى بالدعاء؛ قال تعالى: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]”.
وتربية الأولاد على الأخلاق النبيلة، وتعويدهم على السلوك الحميد، وغرس القيم والمكارم فيهم، أمر في غاية الأهمية، ومن أهم الاستثمارات التي يستثمر فيها الإنسان لدنياه وآخرته؛ مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له”. (أخرجه مسلم).
وعلى سبيل المثال لا الحصر: تعويدُ الأولاد على الصِّدق والأمانة، وأداء الفرائض، واحترام الآخرين، وضبط السلوك، والانتقال بهم من حياة الكسل والدعة والفوضى والألعاب الإلكترونية، إلى ميدان الجد ونور العلم وروح المثابرة وحب القراءة – أمرٌ صعبٌ لا يتحقق إلا بالتربية الحازمة المقرونة باللطف والحنان، والصبر الكبير والنفس الطويل، ومراعاة الفروق العمرية، والالتجاء إلى الله تعالى والاحتماء به قبل كل شيء؛ قال تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40].
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله يهذِّبون أولادهم ويربونهم على المعالي والقيم، ويحثونهم على حفظ القرآن الكريم وتعظيمه منذ نعومة أظفارهم؛ فهذا ترجمان القرآن وحبر الأمة عبدالله بن عباس – رضي الله – عنهما يقول: “تُوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم”؛ أي: حفِظتُ القرآن. (أخرجه البخاري).
قال الشاعر:
نِعَمُ الإله على العباد كثيرةٌ وأجلُّهن نجابةُ الأولادِ
ومن المعلوم أن ديننا يهتم بالتوسط ويدعو إلى الاعتدال ويرغِّب فيه باستمرار، كالتوسط في العبادات، والاعتدال في الإنفاق، والاتزان في الطعام والشراب، ما يدل على أنه مطلبٌ محمود في جميع الأمور، ومن ذلك التوازنُ في تربية الأولاد، والاعتدال بين كفَّي الحزم والحنان، واللين والانضباط في معاملتهم، فلا شدةَ دائمًا، ولا لطف أكثر من اللازم، ولكن بين هذا وذاك تكمن التربية السليمة.
دراسة عن التربية بالحب والحزم
تقول دراسة تربوية بريطانية أعدتها مؤسسة (ديموس) للأبحاث عن التربية بالحب والحزم: “إن تربية الأطفال انطلاقًا من مبدأ الحب والحنان المقترن بالحزم والصرامة يجعلهم ناجحين في حياتهم في المستقبل أكثر من غيرهم”.
ووفقًا للدراسة، التي جاءت بعنوان (بناء الشخصية)، والتي استندت إلى تحليل معلومات ومعطيات أُخذت من أكثر من تسعة آلاف أسرة في بريطانيا، فإن الأسرة التي تمسك العصا من الوسط، وتفرز طلبات طفلها بـ(نعم) و(لا)، هي بيئة مناسبة للتربية الناجحة أكثر من التي تلبي جميع حاجات طفلها دون قيود أو مراجعة أو محاسبة، وكذلك الأسرة التي تُوكِلُ بعض المهام المناسبة إلى طفلها بحبٍّ وحزمٍ أفضلُ من التي تكرر: ما زال صغيرًا، أو التي تكلفه بما لا طاقة له به بحجة تعليمه الرجولة.
وأشارت الدراسة التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية على موقعها، إلى أن الموازنة بين مشاعر الحب والحنان والانضباط والحزم، تنمِّي في الطفل العديد من مهارات التواصل الاجتماعي مقارنة مع التربية الحازمة فقط، أو تلك التي تتركه ينمو ويكبر من دون انضباط.
فالتربية المعتدلة البعيدة عن التدليل الزائد واللين المفرط، والبعيدة عن التوبيخ والتعنيف، تُعوِّدُ الأطفال على الاحترام ومراعاة النظام، وتنمي فيهم النضوج والاعتماد والثقة بالنفس، والشعور بالمسؤولية، ومساعدة الآخرين، كما تعزز فيهم روح المبادرة، والاستقرار والراحة والطمأنينة النفسية.
وذكرت الدراسة، “أن الأطفال حتى حدود الخامسة من العمر الذين يتربَّون في بيئة عائلية محبة ومنضبطة، أو ما يعرف بـ(الحب الحازم)، يُنمون قدرات وصفات شخصية أفضل من أقرانهم ممن تربَّوا في بيئات مختلفة نسبيًّا”.
وقال صاحب الدراسة جين لكسموند: “إن المهم هنا هو تطوير الثقة والحب والحنان المقرون بالضبط والحزم والصرامة”.
وتشير الدراسة إلى أن بعض الصفات الشخصية مثل: الانضباط الداخلي، ووضوح الهدف والغرض، والجاذبية الاجتماعية، تتطور أكثر عند الأطفال الذين يتربَّون في بيئة يتوازن فيها الحب مع الانضباط، وأن مثل هذه الصفات تتشكل لدى الطفل بشكل واضح خلال السنوات الخمس الأولى من حياته.
وخلصت الدراسة إلى أن طريقة التربية تعد عاملًا حاسمًا في تطور ونمو شخصية الطفل، كما أن المستوى الثقافي والتعليمي للآباء، والتفاهم بين الأب والأم يلعب دورًا كبيرًا في ذلك.
ويقول الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله-: “ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياجِ الاعتناءُ بأمر خُلُقِهِ؛ فإنه ينشأ على ما عوَّده المربي في صغره من حَرَدٍ وغضب، ولَجاج وعَجَلة، وخفة مع هواه وطيش، وحدة وجشع؛ فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له”.
كيف نعيد الدفء بين الأشقاء؟
ومن ثمار التربية بالحب والحزم أنها تعيد الدفء بين الأشقاء داخل المنزل الواحد، وذلك من خلال:
- عدم محاباة بعضهم على حساب الآخرين.
- عدم استخدام الأبناء في أعمال غير مشروعة ضد أشقائهم: مثل التتبع، والتلصّص، والتجسس.
- أهمية الاستماع الناقد، وبخاصة عند التحكيم بين الأبناء.
- عدم التعجل في التخلص من مشكلات الأبناء.
- تربية الأبناء على الصدق.
- عدم تحقير الابن ومقارنته بشقيقه الأفضل منه.
- الاهتمام بتربية الأبناء تربية إيمانية.
- ترابط الأسرة واتحاد موقف الأب والأم في علاج المشكلات.
- أن يحتوي الآباء مشكلات أبنائهم.
- تعميق أواصر الأخوة، وتوجيه الأبناء إلى المبادرة بالحب.
- عدم قبول الوشاية بين الأشقاء.
- لزوم العدل والقسط بين الأبناء.
- تجنب كثرة التقريع واللوم.
- تربية الأبناء على أن يفرح الأخ لنجاح وسعادة شقيقه.
- أن ينعكس نجاح أحد الأبناء بالسعادة والسرور على باقي الأسرة.
أخيرًا
إن التربية بالحب والحزم تهدف إلى تحقيق النمو العاطفي السليم للأبناء وإشباع حاجاتهم الوجدانية، بعيدًا عن العُقَد والأمراض النفسية، كما تهدف إلى تقوية العلاقة والارتباط بين الأبناء وأولياء الأمور والمربين، إضافة إلى المساهمة في النمو السليم لباقي أبعاد هوية الأبناء.
المصادر
- ابن القيم الجوزية: تحفة المودود بأحكام المولود، صـ 240.
- تنمية روح الحب بين الإخوة
- من أجل جيل ذو أخلاق: التربية بين الحب والحزم