إنّ التربية بالتوبة تُعد من أفضل الأساليب التي تُحوّل الإسلام إلى واقع سلوكي عملي ملموس له آثاره الواضحة في شؤون الناس جميعًا، وَوَفقا لأسس الدين وأصوله، وفي ضوء أساليبه، والتزامًا بمبادِئه وقِيمه وأخلاقه.
ويرى الدكتور أحمد بن عبد الفتاح الضليم، أنّ هذا الأسلوب التربوي من أهم الأساليب التربوية وأكثرها نجاحًا وفاعلية؛ ذلك لما تتركه التربية بهذا الأسلوب من آثار إيجابية تشمل جميع جوانب شخصية المتربي، كما يمتد أثر التربية بهذا الأسلوب إلى الناحية الاجتماعية بتفاصيلها المختلفة.
أهمية التربية بالتوبة في القرآن
تختلف أساليب التربية حسب استعداد المتربي للأسلوب المناسب معه، ويحتاج بعض المتربين الذين يقعون في الأخطاء والزلات إلى أسلوب التربية بالتوبة الذي أكده القرآن الكريم في أكثر من موضع، فورد لفظ “التوبة” نحو 119 مرة بصيغ المضارع والماضي والأمر، شملت وصف الله تعالى بها ووصف أنبيائه وعباده المؤمنين، كما شملت كلمة التوبة جميع السلوكيات الخاطئة: الزنا، والحرابة، والتعامل بالربا، والنفاق، وغيرها.
وتعود أهمية هذا الأسلوب في العملية التربوية، إلى أن الله- عز وجل- أمر بالتوبة ودعا إليها، فقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [النور: 31]، فإذا كان جميعُ المؤمِنينَ مُحتاجِينَ إليها، مُطالبِينَ بها، فإنَّ مَنْ كان أقلَّ مِنهُم دَرجةً أولى وأحرَى بها، وأكثرُ حَاجةً إليها. والتَّوبةُ بذَاتِها من أحبِّ الأعمالِ الصَالحةِ إلى اللهِ، بل جاءَ في الحديثِ الصحيحِ: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أَحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ علَى بَعِيرِهِ، قدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فلاةٍ” (البخاري).
وقد وصف الله نفسه بأنه تواب، ما يدل على أهمية هذا الأسلوب في التربية، قال- جل وعلا-: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور:10].
ودعا الأنبياء أقوامهم إلى التوبة، لما في ذلك من فلاح للإنسان في الدنيا والآخرة، فقد جاء على لسان هود- عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52]، وقد كان ذلك ديدن الأنبياء جميعًا، حتى آخرهم خاتم النبيين والمرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي قال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ” (مسلم).
بل إن الأنبياء أنفسهم كانوا يكثرون من الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله- عز وجل-، فها هو إبراهيم- عليه السلام- يقول الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114]، يقول السعدي: أي: راجع إلى الله في جميع الأمور، كثير الذكر والدعاء والذكر والاستغفار والإنابة إلى ربه”.
وكان هذا حال النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “وَاللهِ إني لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وأَتُوبُ إليهِ في اليومِ أَكْثَرَ من سَبْعِينَ مَرَّةً” (البخاري)، واستغفار النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يلزم أن يكون لذنوب ارتكبها ولكن ذلك لكمال عبوديته وتعلقه بذكره- سبحانه-، واستشعاره عظم حق الله- تعالى- وتقصير العبد مهما عمل في شكر نعمه.
أساليب الترغيب في التوبة
حث القرآن الكريم على أسلوب التربية بالتوبة ورغّب أشد الترغيب في التمسك به والحرص الدائم المستمر عليه؛ وذلك من خلال الكثير من الطرق التي من أهمها وأبرزها ما يلي:
- إعطاء الفرصة الكافية للتائب وعدم تقنيطه من قبول توبته، لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
- محبة الله للتائبين وفَرحه بهم، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
- استخدام أسلوب الإيحاء في الحث على التوبة، قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 17].
- مساواة التائبين بغيرهم في المجتمع المؤمن، يقول- عز وجل-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء].
- قبول الله توبة التائبين ومغفرته لهم ورحمته بهم وإجابته دعاءهم، قال الله- عز وجل-: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104].
- تكفير التوبة لما قبلها وتبديلها السيئات حسنات، قال- جل وعلا-: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال: 38].
آثار التربية بأسلوب التّوبة
ويترك أسلوب التربية بالتوبة آثارًا عظيمة في نفس المتربي، تجعله دائمًا يراقب أفعاله ويبتعد عن كل ما يغضب الله تبارك وتعالى، ومن هذه الآثار:
- الإيمان بالله والإخلاص له والاعتصام به واتباع سبيله.
- نيل محبة الله والحصول على مغفرته.
- ما تحدثه التوبة الصادقة من إصلاح حقيقي في نفس التائب يشمل باطنه وظاهره.
- البعد عن الارتداد عن الدين الذي ينذر بأضرّ العواقب.
- الإقلاع عن الفاحشة التي تفسد الدين والخلق وتلحق أعظم الضرر بالفرد والمجتمع، والتي لا خلاص منها ولا نجاة من آثارها المُدمرة إلا باللجوء إلى التوبة لله والاعتصام بحبله.
- حفظ أمن الفرد والجماعة، ما يخل ويضر بهما من الأعمال الإجرامية.
- الإقلاع عن أعظم الآثام وأكبر المفاسد والجرائم التي تدمر الفرد والمجتمع.
- تحقيق الصحة النفسية والاجتماعية السوية حيث يعد الوقوع في الذنوب والمعاصي والانحرافات، ما يصيب الإنسان بالأمراض والاضطرابات النفسية.
- تحقيق المعيشة الرغيدة الهنيئة التي تتمثل في كثرة الخير من المال والأولاد والزروع والثمار والأمطار والأنهار، وغير ذلك من مباهج الحياة الدنيا وزينتها، ومسببات النهوض والقوة والتمكين في الأرض؛ قال تعالى: {وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}.
تطبيقات التربية بأسلوب التوبة داخل الأسرة
وهناك بعض التطبيقات لأسلوب التربية بالتوبة داخل الأسرة، يمكن اللجوء إليها للاستفادة من هذا الأسلوب، وهي كالتالي:
- يكثر الوالدان من ذكر الله واستغفاره والتوبة إليه في جميع الأوقات؛ ليتأثر بهما الأولاد.
- يلمس الأولاد التوبة واضحة جلية في سلوك الوالدين وتصرفاتهما وليْس مجرد كلمات تردد.
- ويحرص الوالدان على إيضاح أهمية التوبة للأولاد وقيمتها وفضلها ومكانتها عند الله عز وجل.
- يُبين الوالدان للأولاد المنافع والإيجابيات التي تعود على الفرد والمجتمع من الاهتمام بأمر التوبة.
- يوضح الوالدان للأولاد سعة رحمة الله ومغفرته وقبوله توبة التائبين مهما بلغت ذنوبهم.
- ويبين الوالدان للأولاد حال الأنبياء عليهم السلام مع التوبة ودعوة أقوامهم إليها.
- كما يبين الوالدان للأولاد شروط التوبة، التي لا تتم ولا تقبل التوبة إلا بها.
- سرد الوالدان بعض قصص التائبين والتائبات في الماضي والحاضر على مسامع أولادهما وأن يدعوا أولادهما إلى التأسي بأولئك التائبين.
- أن تحتوي مكتبة البيت على بعض الكتب والقصص عن التائبين، وأن يشجع الأولاد على قراءة تلك القصص.
- وأن يستفيد الوالدان من أسلوب التوبة في تربية الأولاد؛ بالرفق بهم والتسامح معهم، وإعطائهم الفرص الكافية والدائمة للرجوع إلى الحق والصواب؛ مهما بالغوا في الخطأ وأسْرفوا في الذنوب.
أخيرًا
فإن أسلوب التربية بالتوبة من أهم الأساليب التي يمكن أن يلجأ إليها الآباء والأمهات والمربون في إخراج جيل يُحسن اللجوء إلى الله تبارك وتعالى والاستغفار من كل ذنب، بل وفي أي حال كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك كل يوم، لما في ذلك من آثار عظيمة على المتربي، إيمانيا ونفسيا واجتماعيا.