“الوقاية خير من العلاج”، مثلٌ شعبيٌ ذائع الصّيت، وهو دائمًا أنجح أساليب الحماية من الضرر، وأقصر طريقٍ للنجاة من الشر، وهو المعنى الذي أجمله حذيفة بن اليمان – رضى الله عنه – حينما قال: “كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني”، ليرسخ بذلك مفهوم التربية الوقائية في الإسلام، وهو يشمل الوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية، وكل الآفات التي قد تُصيب الفرد والمجتمع.
مفهوم التربية الوقائية
التربية الوقائية هي اتخاذ إجراء بهدف الحماية والصيانة، والوقاية من خطر محتمل وشيك، وتكون بتفاديه قبل وقوعه، حفاظًا على الأفراد، وصيانة للمجتمعات، وتحقيقًا للسلامة العامة، وتداركًا للمحظور قبل وقوعه، أخذًا بمبدأ: درهم وقاية خير من قنطار علاج.
وهي مجموعة من الوسائل والأساليب المتخذة لحماية الفرد والمجتمع من المساوئ، والوقوع في المهالك، عن طريق عملية إصلاح وتنمية وتهذيب وتوجيه شاملة.
وليس المقصود هنا فقط بالوقاية في الجوانب الصحية التي لا بُد منها، لكن الوقاية في جميع الجوانب سواء الصحية أو الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك من الآفات التي انتشرت وأصابت المجتمعات، قال صلى الله عليه وسلم: “غطوا الإناء، وأوكوا السِّقاء، فإنَّ في السَّنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وِكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء” (أخرجه مسلم).
أهمية التربية الوقائية
المجتمع الناجح والمؤثر في غيره مَن يجد الخلل فيصلحه قبل أن يقع، ومَن يمنع الضرر حتى المتوقع، وتتعيّن الوقاية حينما يهدد الخطر إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بحمايتها وصيانتها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
واعتمد المنهج التشريعي في ديننا على الأسلوب الوقائي تربية وتعليمًا، حفاظًا على الأفراد، وصيانة للمجتمعات، وتحقيقا للسلامة العامة، وتداركًا للمحظور قبل وقوعه.
يقول الأستاذ فتحي يكن: أمّا النهج الذي يعتمد على تفعيل القدرات الذاتيّة، وإيجاد المناعات الخاصّة واكتساب الطاقات الوقائية ابتداءً وقبل دخول معترك الصراع وحقول التجارب، فإن من شأنه أن يحفظ البنية سليمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، كما مِن شأنه أن يُوفر الطاقات من أن تُهدر بلا طائل ويعمل على خفض نسبة الخلل إلى الحدود الدنيا.
ويُضيف: وفي نطاق العمل الإسلامي وحياة الدعوة والداعية الوضع متشابه، فالحركة التي تأخذ بكل أسباب الإعداد العقائدي والفكري والتربوي والحسّي، وتكون مناهج التربية عندها وقائية وتصوغ قراراتها ومواقفها في ضوء المنطق الذي يفرضه الشرع وفق الأولويات والقدرات والظروف المتاحة ووفق ما تريد هي لا وفق ما يريده العدو وفي الزمان والمكان والكيفية التي تناسبها هي لا وفق ما يفرض عليها لاستدراجها وإجهاضها.. هذه الحركة تكون مالكة لزمام نفسها وقواها وخطواتها ونهجها بعون الله غير منساقة أو مستدرجة أو مخترقة، وتكون بعيدة عن دوامة الاستنزاف واحتياجات العناية الطبية اليومية الفائقة.
المنهج التربوي الوقائي في القرآن والسنة
إنّ مَن يتمعّن في النّهج التربوي القرآني، ويُجري مسحًا للآيات التربوية يجد أنّ التركيز إنما ينصبّ على البناء الوقائي للفرد والمجتمع، وعلى تقوية المناعة المكتسبة لدى الناس، تداركًا للأمور والمشكلات، وتحوطًا منها، واتقاءً لشرها قبل وقوعها، فالنهج القرآني يعمد إلى تجنيب الفرد والمجتمع كلّ الأسباب والعوامل المَرَضيّة والمُؤدية إلى المرض، سواء كانت عقدية أو نفسية أو فكرية أو جسدية أو خلقية، حتى يكون الأصل في حياة الناس العافية وليس المرض، وحتى لا يتحوّل المجتمع كله بفعل الأمراض والمشكلات المختلفة إلى (مصح أو مستشفى) كما هو الحال اليوم.
ولعل من أهم الوسائل التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه – رضوان الله عليهم – ومخاطبة المجتمع هي تلك التربية الوقائية التي تهدف إلى حماية الأفراد، وتحافظ على سلامة الفطرة الإنسانية في نفوسهم، من خلال توجيههم نحو الطريق القويم والغاية المُثلى، وقيادتهم نحو الطهارة والنبل والصلاح، لتحصينهم من الوقوع في مفاتن الحياة وشهواتها ووقايتهم شر العقبات في طريق حياتهم.
أمّا الأطر التربوية الوقائية التي وضعها القرآن، فمنها قول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ( النور: 30-31).
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الإسراء: 32])، وقوله عز وجل: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام: 151).
وقوله جل وعلا: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32).
والأمر بالغض من البصر وقاية من الوقوع فيما هو أخطر من ذلك، فالعين بريد القلب، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فربما أوصلت صاحبها – رجلا كان أو امرأة – إلى الفاحشة الكبيرة.
وجاء توضيح هذه الغاية عمليًّا من الرسول – صلى الله عليه وسلم -، حينما جاءته جارية شابة من خثعم تستفتيه يوم حجة الوداع، وقد أردف النبي – صلى الله عليه وسلم – ابن عمه الفضل بن العباس – رضي الله عنهما -، فجعل الفضل ينظر إلى الشابة وهي تنظر إليه، فلما رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك، لوى عنق الفضل عنها، فسأله عمه العباس: يا رسول الله، لِمَ لويت عنق ابن عمك؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -: “رأيت شابا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما” (أخرجه الترمذي).
وقوله – صلى الله عليه وسلم – في التشديد على عدم الغلو: “إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين” (سنن النسائي).
المربي والمنهج التربوي الوقائي
المربي والداعية يحملان إرث الأنبياء والعلماء في توضيح مفاهيم الإسلام الوسطي الحنيف للناس بالموعظة الحسنة ورعاية الناس بالتربية، حيث يقع على عاتقهم وضع أُطر تربوية تحصن الناس من المخاطر التي تحاك بهم وتكن حائط صد أمام الأعداء الذين يعملون على قدم وساق لطمس الهوية الإسلامية.
تقول عايدة هديث: التربية الوقائية مهمة للدعاة والمربّين الذين يسلكون هذا المسلك في طريقهم نحو إيجاد الفرد المسلم، من خلال حرصهم على الاعتناء بتحقيق المناعة الذاتية الأصيلة في نفس المتربي، وإرشاده إلى الطريق الصحيح دون تكلفة زائدة أو ضياع لجهده ووقته، ودون خسارته أو سقوطه في الشهوات والملذات، فتراهم يعايشون المتربي في كل لحظة وفي كل موقف، يرسمون له الحواجز، ويرفعون له السدود، وقاية له من الضرر الواقع أو المتوقع دون أن يعزلوه عن محيطه ومجتمعه، وكل ذلك من خلال عملية تربوية توجيهية متكاملة الأهداف والغايات، لإخراج والفضيلة المحقق لهدف الله من الخلق في الاستخلاف والعبادة.
وبهذا النوع من التربية، يُبين الوالد أو المربي أضرار أصدقاء السوء على دين المرء وخلقه وذكر بعض صفاتهم لكي يحذر الأبناء, بل عليه – أيضًا – أن يبحث لهم عن أصدقاء طيبين من أقربائه وجيرانه.
وعليه أن يبدأ في ذلك من خلال مسح عام وشامل لحالة المتربي الذي بين يديه، يطّلع من خلاله على بيئته وأفكاره، وميوله واهتماماته، وظروفه واحتياجاته، بل ويتعرّف فيه على قدرات المتربي وتحديد نقاط القوة والضعف لديه.
وترتكز التربية الوقائية على أسس متينة مثل:
- العلم.
- الرحمة وإيصال الخير للآخرين.
- البعد عن المصلحة الشخصية في بناء النهج التربوي الوقائي.
- الثقة بالمبدأ المتمثلة في تشريعات الإسلام والقناعة بصلاحها لكل زمان ومكان.
ثمار المنهج التربوي الوقائي
جاء ديننا الحنيف بمنهجٍ وقائي مثالي تتحقق معه سعادة الفرد والجماعة، كما يتحصل معه استقرار في العيش، يجعل المؤمن شبه متفرغ ومؤهل لأداء ما كلّفه الله عزّ وجلّ به.
وقد جاء مفهوم الوقاية في الإسلام جامعًا مانعًا، بحديثه عن وقاية الإنسان ووقاية أرضه وبيئته، بل ووقايته من الأمور الغائبة عن مجرد الحواس البشرية عامة، الّتي غُيبت في اعتبارات الناس واهتماماتهم إلى أبعد حدود.
ففي التربية الوقائية ثمار طيبة تُجنّب الأمة الخلاف المذموم الذي يُؤدي إلى التناحر والتباغض، يقول الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (آل عمران 105).
ويقول فتحي يكن: التمعن في آيات القرآن الكريم يؤكد لنا وقائية النهج القرآني، من خلال عدد من محطات الإنذار المبكر، التي من شأنها شد الانتباه، والأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر لضمان عدم الإصابة بالمرض والوقوع في العلة، ففي الوقاية من الشرك قال تعالى: {… فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
وفي وقاية الأنفس والأهل من النار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ}.
– وفي الوقاية من الشح والبخل، قال عز وجل: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
– وفي الوقاية من العدو، كل عدو، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ }.
– وفي الوقاية من الربا يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
– وفي الوقاية من الخمر والميسر وغيره، قال تبارك وتعالى: {إيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
– وفي الوقاية من قول الزور (والتزوير عموماً) يقول تعالى: (… وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
– وفي الوقاية من الظن، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}.
– وفي الوقاية من الآفات الجنسية، يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}، {… فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ …}.
– وفي الوقاية من الخلاف والتفرق، قال تبارك وتعالى: { 105وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ …}.
ومن ثمار المنهج التربوي الوقائي التي نلمسها:
- تماسك المجتمعات الإسلامية ووحدة صفها إذا عرفت ما يُحاك لها وأدركت مراميه.
- تكوين أجيال قادرة على حمل تبعية المسؤولية والدفاع عن الإسلام وكل شبر في الوطن الإسلامي.
- حماية المجتمع من الأمراض الفتاكة سواء الجسدية، أو النفسية، أو السلوكية والأخلاقية.
أخيرا
إن موضوع التربية الوقائية من الأهمية بمكان وهو ما أولاه الإسلام اهتماما في كل مناحي الحياة ويجب على الدعاة والمربين – بل على الدول الإسلامية – تربية الأفراد على هذه المعاني وغرس هذا المفهوم نظريًّا وعمليًّا في وجدان كل فرد بالمجتمع.