ركّز القرآن الكريم في كثير من القصص على التربية الناجحة للعفة والتحذير من الفواحش التي أضحت من أكبر الصناعات، وأهلها من أكبر الأثرياء اليوم تحت غطاء الفن والترفيه، وبسبب التطور الهائل في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات وتطوُّر الفضائيات، أصبح لأهل الفاحشة الآن وأبناء التعرّي ألقابٌ وهالاتٌ؛ فهذا فنان قديرٌ، وهذه راقصةٌ كبيرة، وتلك أم المسرح، والأخرى ثروةٌ قوميةٌ! ما جعل منهم قدوة للكثير من الشباب والفتيات.
لقد حرّك هذا الواقع المُؤلم الدكتور فؤاد محمد موسى، فتلمّس أسباب هذا الفشل، وكيفية علاجه في بحثٍ له، مستلهما درُوسه من قصة موسى مع بنتَي صاحب مدين، وهو شعيب، كما هو شائع، وهو هنا لا يسرد القصة كاملة، لكن يقف على النجاح في تربية عِفّة الفتاتين.
أهمية التربية الناجحة للعفة في الإسلام
تتمثل أهمية التربية الناجحة للعفة في الإسلام، في أنها تشكل الخلق الإيماني الرفيع للمؤمن، وتدعو إلى البعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياء، وتحقيقها يعد لذة وانتصارًا على النفس والشهوات وتقوية لها على التمسّك بالأفعال الجميلة والآداب النفسية، والحفاظ على النزاهة والفضائل والمحاسن في المجتمعات.
لذا، فقد حثّ عليها الإسلام، قال الله- تبارك وتعالى-: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33]، أي: ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة، (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يوسع عليهم من رزقه.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ [النور: 60].
وصُور العفة كثيرة، منها التعفُّف عن المال، يقول الله- عز وجل-: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء:6]، أي: مَن كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئًا. قال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم.
وجاءت السنة النبوية المطهرة لتؤكد أهمية هذا الخلق الحسن، فعن أبي سعيد الخدري، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخره عنكم، ومن يستعففْ يُعِفّه اللهُ”.
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى”، قال النووي: “أما العفاف والعفة؛ فهو التنزه عمّا لا يباح، والكف عنه، والغنى هنا غنى النفس، والاستغناء عن الناس، وعما في أيديهم”.
وعن أبي هريرة- رضي الله- عنه أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف”.
قال المباركفوري في شرحه: “أي العفة من الزنا. قال الطِّيبي: إنما آثر هذه الصيغة إيذانًا بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي تفدح الإنسان وتقصم ظهره، لولا أنَّ الله تعالى يعينه عليها لا يقوم بها، وأصعبها العفاف؛ لأنَّه قمع الشهوة الجبلِّية المركوزة فيه، وهي مقتضى البهيمية النازلة في أسفل السافلين، فإذا استعفَّ وتداركه عون الله تعالى ترقَّى إلى منزلة الملائكة وأعلى عليين”.
التربية الناجحة للعفة في قصة بنتي شعيب
لقد ضرب الله مثلا عن التربية الناجحة للعفة في قصة بنتي شعيب، حينما خرجتا لرعي وسقي الأغنام في بيئة رعوية مفتوحة، بها الكثير من الرُّعاة الآخرين، ولم يمنعهما من ذلك أنهما فتاتان، وفي الوقت نفسه تحافظان على نفسيهما وسط الناس والجلبة، وهذا هو المقياس الحقيقيُّ للحفاظ على العفة.
والتربية على العفة في بيئة تخالف بيئةَ المجتمع الحقيقيِّ تكون تربية غير ناجحة في الغالب، وبمجرد خروج الفتاة إلى المجتمع الحقيقي بعد التربية في بيئة مُغلقة أو مصطنعة لا تستطيع مواجهة المشكلات والمُغريات التي تواجهها في الواقع الحقيقي، وهذا ما نلاحظه الآن في مجتمعاتنا.
إنّ بنتَي شعيب امتنعتا عن مُزاحمة الرّجال في سقي الأغنام، ولم تطلبا من أحد من الرعاة أن يسقيَ لهما؛ حيث لم تجدا فيهم من يطمئن قلباهما له، أو يَثِقْنَ فيه، فكانت عزلتهما عن الرعاة لحين انصرافهم، ولو وَجَدا من الرعاة من هو في خُلق موسى- عليه السلام- لفعلا معه ما فعلاه مع نبي الله، لكن عندما تقدَّم إليهما موسى- عليه السلام-، وسألهما عن سبب وضعهما هذا، لم يتردَّدا في التحدث إليه والاستجابة لتطوعه ليسقي لهما، فقد استشعَرا فيه الخُلق القويم من مجرد حديثه معهما، فتفاعلا معه بالخلق نفسه في الحديث والتجاوب في العمل، وهذا هو خُلق الإسلام الذي لا يمنع النساء من التعامل مع الرجال لتحقيق أهداف نبيلة في الحياة بمنهج الله ولله.
إرسال والد الفتاتين إحدى ابنتيه إلى موسى
وتظهر التربية الناجحة للعفة في قصة بنتي موسى- عليه السلام- حينما أرسل الرجلُ الصالح إحدى ابنتيه إلى موسى؛ لتدعوه إليه، والعجيب أنه لم يُرسل الفتاتين معًا وهو الرجل الصالح، ولو كان في هذا التصرف خللٌ خلقيٌّ، لبيَّنَه لنا الله حتى نتجنَّبه، وهذا يدل على عدم حرمة تعامل الرجال مع النساء بمنهج الله.
يدل هذا الموقف يدل على ثقة هذا الرجل في تربيته لابنته على العفة والخلق الكريم، وثقته فيما أبلغه بنتاه عن موسى، وقد تكون نيته في إرسال فتاته هذه بمفردها تزويج موسى عليه السلام منها، كما ذكر بعض المفسرين، وهذا هدف حياتي نبيل فيه طهارة للبيت المسلم.
ولقد كان في مظهر الفتاة ومشيتها ما أشاد به ربُّ العزة في قوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص: 25]، ما أجملَ هذا التعبير الربانيَّ لوصف جمال عفة هذه الفتاة! إن رب العزة الخالق البارئ المصور هو الذي يصف ويقول، الذي أحسن كلَّ شيء خلقه، فهو خالق هذه الفتاة، وهو الذي يشيد بها، أيُّ عفة هذه؟!
وعندما حدَّثت الفتاةُ موسى، كان حديثُها معه بأمر من أبيها، ولهدف محدد، وبأسلوب واضح لا لبس فيه ولا خنوع، وهذا هو المطلوب في تعامل النساء مع الرجال في واقع الحياة.
ولمّا جاء موسى- عليه السلام- إلى والد الفتاتين وقَصَّ عليه أحواله، طلبت إحدى الفتاتينِ من أبيها أن يستأجره: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] دون أن تتردَّد ولا تتلعثم، ولا تخشى سوء الظن والتهمة، فهي بريئة النفس، نظيفة الحس، وهي ذات رأيٍ وفكر في حل المشكلات الحياتية بواقعية، وتعرض اقتراحها على أبيها وتشاركه همومه بإيجابية، إنها تحل مشكلتها وأختها حيث تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، وتحل مشكلة موسى- عليه السلام- أيضًا، من أجل أن يجد له مأوى ومعاشًا، وقد تعبر أيضًا عن رغبتها في موسى- عليه السلام- للزواج منه على منهج الله ولله.
طلب الأب من موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه
وفي استشعار الأب الصالح رغبةَ ابنته في الزواج من موسى- عليه السلام- نموذج عن التربية الناجحة للعفة التي غرسها في بنتيه، لذا لم يتردد في تحقيق هذه الرغبة الشريفة؛ لما وجد من صلاح موسى- عليه السلام-، وحلّ كثير من مشكلات الحياة للأطراف المختلفة، له ولابنتيه ولموسى بهذا الزّواج، إنها الحياة بما فيها من مشكلات متداخلة، ومطلوب حلها بمنهج الله ولله: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، إنه لم يتردد في طلب ذلك من موسى- عليه السلام-، ولم يخجل من ذلك، ولم يعتبره عيبًا أخلاقيًّا، كما هو الحال بمقياس الكثير الآن، بل إن العيب والخجل هو الخروج على منهج الله.
إنّ في تحقيق هذا الطلب تحقيقُ العفة لابنتيه ولموسى عليه السلام، وتطبيقٌ لمنهج الله في الواقع الحياتي، فهذا هو النجاح في الدنيا والآخرة.
وقال الرجل الصالح لموسى- عليه السلام-: كلُّ ذلك بشرط أن تكون أجيرًا لي ثماني سنين، ترعى فيها غنمي: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]؛ أي فإن أكملتها عشرَ سنين فذلك تفضُّل منك، وقد يظن البعض أنّ في هذا الطلب (طول المدة) إجحافًا وغبنًا لموسى- عليه السلام-، ولكن بالرجوع إلى حالة موسى- عليه السلام-، نجد أنه طريد، وليس له مكان يَأويه ويشعر فيه بالأمان، ومن ثمّ فإن طول مكوثه مع هذا الرجل الصالح، وزواجه من ابنته، فيه الأمان والراحة النفسية له، ففي هذا مصلحة لكل الأطراف، وحل واقعيٌّ لمشكلاتهم معًا.
وسائل معينة على العفة
وهناك وسائل تُعين على التربية الناجحة للعفة وحفظ النفس من الوقوع في الفواحش، منها:
- تقوى الله في السر والعلن، قال الله تعالى: (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام:3] ويقول- عز وجل-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] قال ابن عباس في قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ قال: “هو الرجل يكون بين الرجال، فتمر بهم امرأة فينظر إليها، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره”.
- دعاء الله بالنجاة من الفحشاء: قال سبحانه وتعالى عن نبيه يوسف عليه السلام: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف: 33-34]، قال ابن تيمية: “فلا بُد من التقوى بفعل المأمور، والصبر على المقدور، كما فعل يوسف عليه السلام، اتقى الله بالعفة عن الفاحشة، وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس، واستعان الله ودعاه حتى يثبته على العفة، فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس”.
- تنشئة الأبناء على التربية الإسلامية: فهي من أهم الوسائل المعينة على العفة، التي ينبغي فيها مراعاة غرس الفضيلة والعفة في الأبناء، والتربية على الالتزام بالأحكام الشرعية منذ نعومة أظفارهم.
- الزواج: الزواج المبكر من أقوى الوسائل المعينة للعفاف، فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء” (متفق عليه).
أخيرًا
فإن التربية الناجحة للعفة تحفظ الأبناء من الوقوع في الفواحش وتحميهم من الأغلال التي كبلت الكثير من أهل الهوى، والذين اتبعوا أوامر النفس الأمارة بالسوء، ومن الضروري أن يلتفت الآباء والأمهات والمربين إلى القصص القرآني والوقوف عندها واستلهام دروس العفة منها، مثل ما جاء في قصة بنتي الرجل الصالح شعيب.