في ظل عالم تتسابق فيه الأمم والمجتمعات للريادة والقيادة في المجالات المختلفة، فإن التربية القيادية تحظى بأهمية كبيرة في مجتمعاتنا الإسلامية، لدورها في إعداد القيادات وتنمية المهارات لأجيال تقود المستقبل إلى الأفضل، تحقيقًا لقول الله – عز وجل-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
ويولد الأطفال كورقة بيضاء تنتظر ما يسطر فيها من صفات وسلوكيات، فلماذا لا يحرص الوالدان على تسطير صفات القيادة في أبنائهم منذ صغرهم، لماذا يسعى الآباء والأمهات إلى عزل أبنائهم عن المحيط الذي يعيشون فيه، بل ويخوفونهم، حتى يكبر الأطفال ولديهم رهاب من كل شيء؟ لماذا لا نتركهم يخطئون فننصحح لهم بالحسنى، ونتحاور معهم بدل استعمال القسوة في علاج أخطائهم؟ لماذا لا تكن الأمهات كوالدة محمد الفاتح التي ظلت تردد عليه منذ كان صغيرًا أنه من سيفتح القسطنطينية؟
مفهوم التربية القيادية
القيادة تعني: القدرة على التأثير في سلوك أفراد الجماعة وتنسيق جهودهم وتوجيههم لبلوغ الغايات المنشودة.
وفي تعريف آخر، هي القدرة على معاملة الطبيعة البشرية أو على التأثير في السلوك البشري لتوجيه جماعة نحو تحقيق أهداف مشتركة، بطريقة تضمن بها طاعتهم واحترامهم، ومنها يُعرّف القائد بأنه الشخص الذي يستخدم قدراته وقوته ليؤثر على سلوك وتوجيهات الأفراد من حوله ليحقق أهدافهم المشتركة (1).
لماذا نهتم بالتربية القيادية؟
دون أي شك هناك مسؤولية كبرى تقع على البيت في تربية الأطفال، لاسيما وفق التربية القيادية التي تُسهم بشكل كبير في تحديد سمات شخصية الطفل في المستقبل.
فطباع الأهل والأطفال والبيئة التي يعيشون فيها، ومستوى التعليم الذي يتلقونه يكون أحد العوامل القوية في تحديد سمات شخصية الطفل منذ صغره.
والشخصية القيادية – بلا شك- ترتكز على عدة قواعد، منها: القوة والسيطرة التي تسعى للتأثير في سلوك الآخرين.
وتتجلى عند الطفل في البيت، في حب السيطرة والظهور، فيحاول فرض سيطرته على إخوته ويلقي عليهم الأوامر والتعليمات، ربما بسبب أنه أكبرهم في وقت غياب الأب، أو لشعوره بأنه أقدرهم ويجب عليهم الانصياع.
وعلى الأسرة أن تدرك أن روح القيادة عند الطفل شيء محمود يجب أن ينموه في طفلهم إذا لم يتجاوز الحدود، وبخاصة استخدام العنف.
لكن الخطأ أن الأُسَر تهتم بالجانب الذهني والتحصيلي على حساب جوانب أخرى مهمة لشخصية الطفل كالجانب الاجتماعي والنفسي، وهو ما يجب أن نلفت له انتباه الوالدين بالعناية وتطوير قدراته الشخصية ليصبح شخصًا يتحلى بسمات حيوية وذات أهمية (2).
أهمية تنمية مهارات القيادة
إن غرس التربية القيادية في الأطفال، خصوصًا في السنوات الأولى من العمر له أهمية من عدة جوانب منها كما يقول التربوي ياسر نصر:
من المعلوم أن تعلم أي شيء في وقت مبكر من العمر يأتي بثمار رائعة في المستقبل، فكما جاء في الكلمة المشهورة: (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر)، لتؤكد رسوخ كل ما يتعلمه الطفل في صغره في عقله وسلوكه وقلبه.
عاملان أساسيان يساعدان الطفل على المضي قدمًا في حياته، ويتمثلان في الثقة بالنفس والإيمان بالذات لكونهما جوهر القيادة، فالطفل لا بد من أن يؤمن بذاته ويثق في قدراته على تجربة أنشطة جديدة.
يزداد العالم توحشا وصراعا وهو ما يحتاج لشخصيات قيادية تستطيع التغيير وإيجاد طرق أكثر سهولة وابتكارا، وهو ما يجعل أهمية تنمية القيادة للأطفال شيء مهم جدا.
أيضا لأن هذه الصفة تساعد الأبناء على النجاح في كافة الأصعدة؛ وتؤهلهم ليكونوا أصحاب شخصية قوية قادرة على اتخاذ القرارات (3).
صفات الطفل القائد
يجب أن يتحلى الطفل الخاضع إلى التربية القيادية منذ صغره، بالعديد من الصفات الحميدة التي تُؤهله للقيادة، ولو كانت هناك بعض الصفات بالفطرة يجب على الوالدين تنميتها، أو أن يغرسوا مثل هذه الصفات فيه:
- التفوق العلمي والذكاء وسرعة البديهة، والالتزام بالمسؤوليات أيا كان نوعها.
- أن يكون الطفل صادقا وواثقا من نفسه، فلا يعتمد على الغش والكذب والاحتيال من أجل السيطرة على الآخرين.
- أن يكون لدى الطفل طموح وهمة عالية ونشاط، بالإضافة لقوة الشخصية والتعبير عما يريده بطريقة جيدة.
- أن يكون الطفل قادرا على العطاء والتعاون وتقبل الآخرين فلا يصح أن يكون قائدا بخيلا أو لا يملك ما يفعله لأقرانه.
- يجب على الطفل القائد أن يتصف بالقدرة على تحديد ومعرفة ما يريده وأهدافه، وأن يمتلك القدرة أيضا على حسم القرارات، ولديه القدرة عن التنازل من أجل المصلحة العامة.
- ومن أهم صفات الطفل القائد التأثير الإيجابي على من حوله، والقدرة على الإقناع وإدارة مجموعة.
- أيضا من الصفات المحمودة التي يجب أن تكون في الطفل القائد التواضع والأمانة والإيثار وحب الخير للآخرين، والرحمة واحترام الذات والآخرين.
- القدرة على تحمل المسؤولية مع مراعاة مشاعر الآخرين ورغباتهم وعدم التعصب للرأي وللرؤية الشخصية.
- العناية بالمظهر الخارجي والنظافة الشخصية والقوة الجسمانية (4).
كيف ربى الرسول الشباب على القيادة؟
الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في كل شيء فهو الرحمة المهداة لنا كأمة فضلت على سائر الأمم، ولقد حرص النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- منذ نزول الوحي على غرس مفاهيم التربية القيادة في أطفال وشباب الدولة الإسلامية الناشئة، فعلى الرغم مما كانت تعانيه الدعوة في بدايتها، فلم يبعد الأطفال عن القيادة.
فنراه – صلى الله عليه وسلم- يختار بيت الأرقم بن أبي الأرقم ليكون المقر السري الذي يتعبد فيه مع أصحابه لله رب العالمين على الرغم من صغر سن الأرقم، وهو ما غرس فيه صفات المسؤولية وحفظ الأسرار والشجاعة.
أيضا اختياره لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه- لينام في فراشه لبث روح الشجاعة والقدرة على المواجهة والتعامل مع المواقف الحاسمة، وفي ذلك تربية لنفس هذا الطفل الصغير.
وهذا أسامة بن زيد الذي عهد إليه بقيادة جيش فيه كبار الصحابة، بل وكبار القادة العسكريين، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلم ذلك، لكن ليربي قادة جددًا منذ صغرهم، وهو ما حققه حينما أنفذ أبو بكر بعث أسامة فخرج وعاد منتصرا. (5).
محمد الفاتح نموذجا
مرت الأمة الإسلامية بقادة ربانيين منذ الصغر لكنهم قادوها على المجد في الكبر أمثال عمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود وعثمان الأول وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم.
لكن لنموذج محمد الفاتح خصوصية؛ كونه بعيدًا عن عصر النبوة وقريبًا من عصرنا الحديث ومتغيراته، وهو ما يجعله قريب الشبه في التربية بينه وبين أطفال الأمة حاليًّا، فأمه أحسنت استخدام التربية القيادية في نجلها الصغير فأخرجت منه قائدا، قيل أنه ربما يصدق فيه قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ فلنِعمَ الأميرُ أميرُها ولنعم الجيشُ ذلك الجيشُ” (البخاري).
تربى محمد الثاني (1432م- 1481) منذ نعومة أظافره على معاني البطولة والجهاد والقيادة والصلاح، حيث عهد والده السلطان مراد الثاني به لعدد من المربين والعلماء الأفاضل لتربيته على القيم الإسلامية والمعاني الجهادية وحفظ القرآن، كما أتقن ثلاث لغات، ودفع به والده وهو ابن اثنى عشر عامًا لتولى إمارة إحدى المقاطعات، بل عهد إليه بالخلافة وهو في عمر أربعة عشر عامًا وظل يراقبه لأنه يدرك أن تربية القائد ليس بالأمر العفوي.
ولقد وصف المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول Stephen Turnbull تربية محمد الفاتح بقوله: “لقد رُبِّي محمد الثاني – أي محمد الفاتح- ليكون أعظم سلطانٍ في زمانه”.
فتميز بالعلم الشرعي حيث كان للشيخ الكبير أحمد بن إسماعيل الكوراني دور في غرس ملكات المناظرة، وطلاقة الرأي، وقوة الحجة، والجرأة منه. بالإضافة للعلم الشرعي اهتم مراد بتعليم ابنه العلوم والتاريخ وغيرها من العلوم المهمة للقائد، بالإضافة للتربية العملية في الكثير من المجالات وهي ما جعلت منه فاتحا حقا للقسطنطينية (6).
تحفيز صفات القيادة عند الأطفال
إن من أهم أهداف التربية القيادية للأطفال تحفيز صفات القيادة لديهم، فلا بُد من دفعهم للمشاركة في النشاطات التي تُنمي لديهم صفات قيادية مثل:
- النشاطات الرياضية، والنشاطات الخارجية، التي تعتمد على المجموعات وفريق متكامل.
- ألعاب بناء الفريق، أو مهمات حل الألغاز وألعاب البحث عن الكنز التي تمثل فرصًا جيدة لتنمية المهارات في القيادة.
- والعناية بالملكات الفنية التي قد تكون بابًا من أبواب القيادة.
- صنع ألبوم صور ذات موضوع متعلق بالقيادة، أو ممارسة لعبة التمثيل لغرس روح القيادة عمليا في نفوسهم (7).
وحاول الدكتور طارق سويدان وضع بعض الصفات التي يجب على الوالدين تربية أطفالهم عليها ليكونوا قادة ومنها:
- الرؤية الرشيدة الواضحة مع تدريب النشء على الثقة بالنفس.
- إثارة الفضول بالأسئلة عند الطفل.
- الجرأة في إبداء رأيه وعدم الخوف أو التردد مع الاحترام، ومن أساليب الجرأة توعية الشباب وتوضيح كل الأمور حتى يكون عنده وقاية فيجب أن يعرف ما له وما عليه.
- الاستقامة والصلاح لكونها العاصم من الوقوع أو الانغماس في الزلل والبعد عن الله.
- تعليم فن الاستماع والإنصات إلى الآخرين.
- تدريبه على التوازن في كل أموره الجسدية والعقلية والعاطفية والروحية.
- الشجاعة في العلاقات بتعويدهم إذا أخطئوا أن يعترفوا بالخطأ؛ لأن الخطأ طبيعي ولكن تكرار الخطأ هو العيب.
- الإنسان المرح أكثر صلاحية للقيادة لكونها مدخل من المداخل المحببة للنفس، لقوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف” (رواه أحمد).
- لا من بد أن يكون لديه سعة أفق حتى ينضج عقله، مع احترام الرأي المخالف (8).
أساليب غرس القيادة في الطفل
وتتبع التربية القيادية العديد من الأساليب لغرس القيادة في الطفل، وهي تقع على عاتق أولياء الأمور بشكل أساسي، وهي كالتالي:
- أن يكون أولياء الأمور قدوة لأطفالهم في تعلم المهارات والسلوكيات المختلفة.
- على الوالدين تشكيل فريق مع الطفل وأطفال الجيران أو الأصدقاء أو الأقارب حتى يندمج الطفل وسطهم وتبرز صفاته التفاعلية.
- يجب على الوالدين عدم تعنيف أطفالهم على عثراتهم أو فشلهم، بل يجب تشجيعهم على التعامل مع العثرات.
- تعليم الطفل مهارات التفاوض والخروج بأفضل مكسب، مع تعويده اتخاذ القرارات.
- غرس وتنمية الثقة بالذات، والاشتراك له في الأعمال الجماعية.
- يجب على الوالدين ألا ينشغلا عن أطفالهما وأن يخصصا وقتا للعائلة.
- ترك الأطفال لإنجاز مهمة كاملة بمفردهم وعدم التدخل دون طلب الطفل.
- تشجيع الطفل على القراءة للاستزادة من المعرفة مع مكافأة السلوك الجيد الذي يقوم به (9).
المصادر والمراجع:
- القيادة: مفهومها، وأهميتها، وواجباتها: اقتصاديو العرب،
- التوجيه الصحيح هو كل ما يحتاجه الطفل القيادي: 11 مارس 2019،
- ياسر نصر: كيف تصنع طفلا متميزا، طـ1، دار بداية للإنتاج والنشر والتوزيع، 2011م، صـ120.
- كيف تصنع من طفلك شخصية قيادية؟: 20 أبريل 2012م،
- جمال عبدالرحمن: أطفال المسلمين كيف رباهم النبي الأمين، طـ7، دار طيبة الخضراء، مكة، 2004م.
- طفولة محمد الفاتح الاستثنائية: 11 فبراير 2020،
- ميزات القيادة عند الأطفال: 26 يونيو 2020،
- الأطفال والقيادة: 15 أبريل 2012،
- تنمية مهارة القيادة عند الأطفال: 24 أكتوبر 2019،