تُعد التربية العبادية ترجمة عملية للتربية الإيمانية، وهي الميدان الذي يرسخ أركان الإيمان في قلب الطفل حتى وإن لم يبلغ سن التكليف، لأن أداء العبادات في الصغر يسهل عليه أداءها عند بلوغه؛ إذ تصير في حكم العادة وجزءًا من نظام حياته كالأكل والنوم، لا يستطيع التخلي عنه، مع ما يرافقها من النوايا، لذا يلزم تربية وتدريب الأولاد على أن يألفوا العبادة مع والديهم، رؤية وتقليدا وممارسة.
التربية العبادية في القرآن والسنة
وتتمثل أهمية التربية العبادية للأطفال في الغاية التي خلق الله- عز وجل- الناس من أجلها، إذ يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58].
لقد دلَّت هذه الآيات على أن غاية وجود الجن والإنس، هي العبادة؛ لذا قال ابن تيمية: “القلب فقير بالذات إلى الله من وجهَين: من جهة العبادة، وهي العِلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكُّل، وهي العِلة الفاعلة؛ فالقلب لا يَصلح ولا يُفلِح ولا ينعَم ولا يُسرُّ ولا يَلتذُّ ولا يَطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربِّه وحبِّه والإنابة إليه”.
ويضيف شيخ الإسلام- رحمه الله-: لو حصل له كل ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يَسكن؛ إذ فيه فقر ذاتيٌّ إلى ربه من حيث هو معبودُه ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يَحصُل له الفرح والسرور واللذَّة والنِّعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يَقدِر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائمًا مُفتقِر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]”.
وقد أكَّد الله تعالى في كثير من الآيات على دعوته لعباده أن يَعبُدوه ويتَّقوه؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. قال السعدي في تفسيرها: “هذا أمر عام لكل الناس، بأمر عام، وهو العبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرَهم تعالى بما خلقَهم له.
وعبادةُ الصلاة من العبادات التي يجب على المؤمن أن تَعلو بها همَّته، قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]؛ أي: أقم الصلاة لتَذكُرني فيها؛ لاشتمالها على الأذكار.
واهتم النبي- صلى الله عليه وسلم- بتربية الصغار على العبادة، فقال: “علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر” (الترمذي)، وفي رواية: “مروا الصبي بالصلاة ابن سبع سنين..” (أبو داود)، ورغم كونه غير مكلف في سن العاشرة إلا أنه يُضرب على ترك الصلاة.
لذا حرص الصحابة على غرس العبادة في الأطفال، فقد روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ النبي- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: “مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ”، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ”، وهذا فيه دليل على مشروعية تدريب الصغار على عبادة الصوم.
وروى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لَقِىَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: “مَنِ الْقَوْمُ؟”، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: “رَسُولُ اللَّهِ”، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: “نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ”.
مجالات التربية العبادية للطفل
ورغم تنوع مجالات التربية العبادية للأطفال، فإن الصلاة والصوم والذكر أهم هذه المجالات التي يجب على أولياء الأمور والمربين تدريب الصغار عليها، ويكون ذلك على النحو التالي:
أولاً: الصلاة، يقول تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، فهي دعوة لأولياء الأمور والمربين لتعليم الصغار الأداء الصحيح للصلاة، وتعريفهم أهميتها كونها الفرقان بين الإسلام والكفر، وأنها آخر ما وصّى به النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل موته.
وعلى المربي تعليم طفله كيفية الوضوء: بأن يتوضأ أمامه عدة مرات، ثم يطلب منه أن يتوضأ أمامه، ويصحح له أخطاءه، حتى إذا أتقن الوضوء شجّعه بجائزة، وإذا أخطأ بعد ذلك لا يعنفه، بل يرشده للصواب من جديد.
وبعد التأكد من تعلم الوضوء، يحرص المربي على تحسين أداء الصلاة والخشوع فيها؛ ويتم ذلك بالمشاهدة والتكرار حتى يعتاد الطفل الصغير أداء الحركات الصحيحة للصلاة، ثم إذا بلغ السابعة، يُرشد إلى أدائها بأركانها وسننها، وإذا بلغ العاشرة أجبر على أداء الصلوات بانتظام، وإذا فرّط وعظ، ثم هدد، ثم زجر زجرًا شديدًا، ثم ضرب على ما فرط في جانب العبادة.
وبعد الانتهاء من هذه المراحل، يصطحب الأب أو المربي الطفل معه إلى المسجد، وإذ عقل حركات الصلاة قبل التمييز يمكن اصطحابه- أيضًا-، وذلك لربط قلبه بهذا المكان الطاهر، ويبدأ الوالد مع طفله بتعريفه فضل صلاة الجماعة، وأنها تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
ومن المهم اصطحاب الأطفال منذ الصغر لشهود صلاة الجمعة والعيدين، ليعظم في نظره وقلبه مكانة إمام المسجد، ويراه كعالم كبير يرشد الناس والكل يسمع له، ولا يهمس بكلمة أثناء حديثه؛ فيرى القدوة والمثل الواجب الاتباع.
وطالبنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأداء النوافل والمستحبات في المنزل، فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: “إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا” (رواه أحمد ومسلم). ومن هذا الخير أن الطفل يرى والده ووالدته يصليان فيقلدهما.
ثاثيًا: الصوم، وهو ميدان تربوي مهم لتعويد الصغار على الصبر والتقوى، فعلى الأب تعويد طفله على الصيام بأن يقول له: هل تعرف باب الريان؟ ثم يشرح له بصورة مبسطة حقيقة الباب، ويقرب معنى الصيام في ذهنه؛ بأن يمنع عنه الأكل لعدة ساعات حتى صلاة العصر مثلًا، ثم يقول له: أرأيت لو كنا فقراء، لا يوجد عندنا ما نأكله فماذا يكون شعورنا ونحن جوعى؟ فيتعوّد الطفل على الصبر والجلد.
وبعد ذلك يعلم الوالد ابنه، أن الله- عز وجل- يراه ويراقبه في كل تحركاته؛ فإن أكل سرًّا حيث لا يراه الناس فإن الله يراه، ثم يجعل الوالد أول يوم يصومه الطفل كاملًا يوم حفل كبير؛ فيرى الولد نفسه وقد حقق إنجازًا كبيرًا، مع مراعاة أن يكون الوالد والمربي نفسه قدوة لطفله في الصيام؛ بحيث يكون صيامه ربانيًّا، خاليًا من درن المعاصي.
ثالثًا: الذكر، وهو ميدان لا غنى عنه لتربية الأبناء على عبادة الله- سبحانه وتعالى-، سيما أن قلب الصغير مثل الصفحة البيضاء النقية، أول ما يكتب عليها هو الذي يثبت عبر السنين، فيجب على الوالد أو المربي أن يربط قلب الطفل بربه تبارك وتعالى؛ بأن يعلمه ذكر الله عن طريق الحفظ.
وكتب الأذكار مليئة بشتى أنواع الذكر الذي يشمل أحوال الإنسان كلها وساعات أوقاته، ويمكن ربط هذه الأذكار بوقت الصلاة: مثل أذكار الصباح والمساء، وختم الصلاة، ويعلمه إذا نام أن يقول من الأذكار، ويخبره أنه إن فعل ذلك فلن يقربه الشيطان، ولن يخاف من الظلام أبدًا.
ويربط قلبه بالذكر عن طريق الحوادث: فإذا استيقظ من نومه علمه دعاء الاستيقاظ من النوم، وإذا ركب السيارة علمه دعاء الركوب، وإذا رأى المطر علمه دعاء المطر، وإذا دخل أو خرج من البيت علمه ما يقول عند ذلك؛ فتقوى ذاكرته، ويحفظ مواضع الذكر، فإن الحفظ ليس مقصودًا بذاته، وإنما هو مرحلة أولية يتبعها التطبيق الواقعي.
ولا شك أن رأس الأذكار هو القرآن الكريم، فلا بد من تعهد الصغار يوميا بالقراءة والحفظ، وعلى الآباء والأمهات والمربين أن يكونوا قدوة في هذا الأمر، فالأب مطالب بأن يحافظ على ورد من القرآن حتى يحافظ ولده على ورده، وهذا لأن للقرآن تأثيرًا على النفس، وكلما صفت النفس زاد التأثير، والطفل أقوى الناس صفاء، فطرته ما زالت نقية، لكنه لا يدرك معاني الآيات، ولا يتأثر بها إلا من خلال ناقل، وهذا الناقل يمكن أن يكون الأب أو الأم أو المربي.
إن الآباء والأمهات والمربين مسؤولون عن التربية العبادية للأطفال، لتزكية أرواحهم وتطهير نفوسهم منذ الصغر باتباع فطرتهم السليمة نحو التدين والتوحيد؛ لتحقيق هدف التربية الأسمى؛ وهو تحقيق وظيفة العبودية الكاملة الحقة لله عز وجل.
وعلى الآباء تعليم الأبناء أهمية العبادات وإرشادهم إلى فهم الهدف من تعليمها، وبالتأكيد فإن الأطفال لن يتمكنوا من استيعاب كل شيء دفعة واحد، بل يجب التدريج في ذلك، وواجب الأب أو الأم جعل الابن أن يدرك أن عبادة الله تعالى وحده جزء أساسي من كونه مسلمًا.
المصادر والمراجع:
- ابن تيمية: العبودية، ص 97.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص 34.
- الزمخشري: الكشاف، 3/57.
- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، 1/200.
- عدنان حسن صالح باحارث: مسؤولية الأب، ص 120.
- محمد نور سويد: منهج التربية النبوية للطفل، ص 135.