يرتبط انخفاض الوعي الصحي وارتفاعه بمدى اتباع الوسائل التربوية مع الأبناء في مراحل عمرهم المختلفة، لذا فإنّ التربية الصحية للأولاد مهمة يتقاسم دورها الأب والأم، للحفاظ على صحة النشء من خلال تزويدهم المعلومات والمعارف الصحية وإكسابهم سلوكيات وعادات صحية سليمة.
وحفظ الصحة من المقاصد الكبرى التي تقوم عليها شرائع الإسلام، ذلك أنه بغير الصحة لا يستطيع الإنسان أن يُؤدّي واجباته الدينية والدنيوية، فهي بحق “تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”، وفي هذا الموضوع نحاول إظهار بعض مظاهر هذه التربية في الإسلام، من خلال الحديث عن المفهوم والأهمية وأدوار الوالدين في توجيه الأبناء للاهتمام بالنظافة والرياضة والتغذية الصحية باعتبارها من أهم السُّبل الوقائية من الأمراض.
مفهوم التربية الصحية
وتعرف التربية الصحية بأنها وضع الخبرات الصحيّة المُتعددة في أنماط وقوالب سلوكية، بهدف التأثير الإيجابي على أفراد المجتمع والرفع من مستواهم في عاداتهم واتجاهاتهم ومعارفهم، وتوفير الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية اللازمة للجميع، بحيث يستمتع كل فرد بحقه من الصحة العامة الشاملة للكيان الإنساني بجوانبه المختلفة.
ومفهوم الصحة في الإسلام لا يقتصر على الصحة الجسمية، بل يشمل النفسية والعقلية، فالنمو الإنساني يستوعب كل نواحي الشخصية بأبعادها المختلفة، لأنّ الفرد لا يتحرّك في الحياة وتفاعلاتها مجزَّأ؛ بل يتحرّك بكُلّيته، والخطاب القرآني واضح في تعامله مع الفرد ككيان إنساني متكامل، حيث يُمثّل البُعد النّفسي عند الإنسان أشرف وأغرب جانب في طبيعته المتميِّزة عن طبيعتي الحيوان والنبات.
وهي جزء مهم من التربية العامة، ولا تقتصر رسالتها على أن يعيش الفرد في بيئة تلائم الحياة الحديثة، بل تتعدى ذلك إلى إكساب الأفراد تفهمًا وتقديرًا أفضل للخدمات الصحية المتاحة في المجتمع، والاستفادة منها على أكمل وجه، وتزويد أفراد المجتمع بالمعلومات والإرشادات الصحية المتعلقة بصحتهم بغرض التأثير الفعال على اتجاهاتهم والعمل على تعديل وتطوير سلوكهم الصحي لمساعدتهم على تحقيق السلامة والكفاية البدنية والنفسية والاجتماعية والعقلية.
دور الوالدين في التربية الصحية للأبناء
وجّه الإسلام الوالدين معًا إلى تحمل مسؤولية التربية الصحية لينشأ الأولاد على خير ما ينشؤون عليه من قوة الجسم، وسلامة البدن ومظاهر الصحة والحيوية والنشاط، وحفظ الصحة التي هي من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، لذا لا بد من مراعاة صحة الأبناء حسب مراحلهم العمرية:
- مرحلة الحمل أو ما قبل الولادة: تتمثل أهمية هذه المرحلة في تكوين الجنين وصحته، وفيها يُهتم بتغذية الأم، وأن يساعد الزوج زوجته ولا يحملها فيها ما لا تطيق من أعمال منزلية، ولا بُد من يكون الأبوان خاليين من الأمراض الوراثية والأمراض المعدية، حتى لا تتعدى إلى الجنين، كما يجب اختيار شريك صالح لإنتاج ذرية سليمة من العاهات، لذا أجاز بعض علماء الشريعة أمثال الشافعي “فسخ النكاح إذا وجد في أحد الزوجين بعض الأمراض المعدية والعيوب العقلية مثل الجذام”.
- مرحلة الرضاعة: ومدة الرضاعة في الإسلام سنتان لقول الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 233]، ولا بُد من الاهتمام فيها بإرضاع الطفل وتغذيته بانتظام، سيما أن إرضاع الأم فيه غذاء مادي وغذاء عاطفي وكلا الأمرين مهم من الناحية التربوية لا يستغنى عنه ما لم تكن هناك ضرورات كموت الأم أو المرض أو انقطاع اللبن، وعلى الأب في هذه الحالات أن يستأجر مرضعة إن وجد، وإلا فعليه إرضاعه بلبن صناعي أو إعطائه غذاء مناسبًا لعمر الطفل.
- مرحلة الحضانة: وتبدأ هذه المرحلة من نهاية السنة الثانية وتستمر إلى السنة السابعة، وفقًا لكثير من أهل الفقه والشريعة، وفيها يتصرف الأطفال ويتكلمون عن أنفسهم ويأكلون ويشربون ويلعبون مع أقرانهم، ثم يذهبون إلى المدرسة أو الحضانة ويبدأون بتعلم ما هو حَسن وما هو قَبيح من الكلام ومن الأفعال، وعلى هذا الأساس تختلف مبادئ تربيتهم صحيًا عن المرحلة السابقة، حيث إن الطفل أصبح يمارس بنفسه كل ما يتعلمه من سلوكيات وتوجيهات تربوية من الأبوين، ومن هذه التعليمات كل ما يخص النظافة وآداب الطعام والشراب مثل قول الله- عز وجل-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].
- مرحلة التمييز: وتبدأ هذه المرحلة من السنة السابعة وتمتد إلى البلوغ، لأنّ بداية السابعة بداية الأمر بالصلاة وتعليم أحكامها، وتقابل هذا المرحلة فترة التعليم الابتدائي، وتمتاز بأن الطفل يزداد نموًّا من الناحية الجسمية والنفسية والعقلية، حيث يستطيع أن يتعلم أشياء كثيرة وأن يؤدي بعض الأعمال والواجبات والمسؤوليات، لذا فإن هذه المرحلة أول مرحلة تربوية وتعليمية جادة للأبناء، وفيها يتكون الوعي الصحي، والمعرفة الصحية في البيت والمدرسة والمجتمع.
- مرحلة الشباب: وفي هذه المرحلة يكون المتربي قد وصل إلى مرحلة مُتقدّمة من النمو العقلي، ويكون قد كوّن وعيًا صحيًّا وعقليًّا وعلميًّا يستطيع من خلاله أن يُدرك الأمور التجريدية والمعنوية والعلاقات الفكرية والعلمية والأسباب والمسببات ويتعقل الأشياء.
وسائل تربوية للحفاظ على الصحة
تعتمد التربية الصحية على وسائل عديدة لبناء صحة قوية للأبناء وحمايتهم من الأمراض، وتدريبهم على تحمل المسؤولية الكاملة نحو صحتهم الجسديّة والنفسيّة، ومعرفتهم بأنّ الأمراض التي يواجهونها تحدث نتجيةً لبعض الممارسات الخاطئة التي يقومون بها، ومن هذه الوسائل:
- النظافة: يقول الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، ويقول سبحانه أيضًا: {واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
ففي الوضوء تنظيف للفم خمس مرات، وهذا حماية من أمراض كثيرة، مثل تسوس الأسنان وسقوطها وأمراض اللثة والروائح الكريهة، وأمراض عامة مثل الروماتيزم الحاد وأمراض القلب، لذا ألح الرسول- صلى الله عليه وسلم- على تنظيف الفم واستعمال السواك باستمرار.
والاستنشاق والاستنثار، أحسن طريقة وأنجح وسيلة لتنظيف باطن الأنف وتخليصه من الشوائب ووقاية المسلم من عدة أمراض، ثم يأتي غسل الوجه لإزالة كل أثر خلفته العمليتان السابقتان على الوجه، ثم غسل الساعدين وهو أتم لنظافة اليدين، وبعد ذلك مسح الرأس والأذنين، وفي آخر المطاف نغسل القدمين ونخلل بين الأصابع لتنظيفها، هذا بالإضافة إلى الغسل الذي نعمم فيه المياه على الجسد فتزيل أي ميكروبات أو أوساخ عالقة أو عرق.
وللوضوء والغسل فوائد عديدة، منها تهدئة الأعصاب، حيث أقر الأطباء فائدة المياه في تهدئة الأعصاب واسترخاء عضلات الجسم، يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وإعْفاءُ اللِّحْيَةِ، والسِّواكُ، واسْتِنْشاقُ الماءِ، وقَصُّ الأظْفارِ، وغَسْلُ البَراجِمِ، ونَتْفُ الإبِطِ، وحَلْقُ العانَةِ، وانْتِقاصُ الماءِ. قالَ زَكَرِيّا: قالَ مُصْعَبٌ: ونَسِيتُ العاشِرَةَ إلَّا أنْ تَكُونَ المَضْمَضَةَ. زادَ قُتَيْبَةُ، قالَ وكِيعٌ: انْتِقاصُ الماءِ: يَعْنِي الاسْتِنْجاءَ” (مسلم). - الرياضة: للرياضة فوائد كثيرة، منها أنها: تزود البدن بليونة ومرونة، وتنمي عضلات الجسم، وتحسن الدورة الدموية، وتُحسن عمل المفاصل، وتُخلص الجسم من فائض الغذاء وسمومه، وتُزيل التوتر والقلق؛ لأن الجهد العضلي يريح الجهاز العصبي.
وقد أثبتت دراسات أن من التزموا الصلاة قبل العاشرة من عمرهم، ويقومون بالركوع مرات عديدة كل يوم، فإن الأربطة الطولية وألياف الغضروف الخلفية تحافظ على ليونتها فيصعب تمزقها في الكبر، ويبقي الغضروف آمنًا بين الفقرات، ولا يشكون من آلام الظهر التي تعاني منها فئات كثيرة من الناس.
لذا لا بُد من أن يكون الآباء قدوة لأولادهم في المحافظة على الصلاة، فإن الصغير ينشأ على ما عودة أبواه عليه، يقول تعالى: {وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132]، فالأمر فيه مشقة ونصب ولكن الله تعالى يقول: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: 69]. - آداب الطعام والشراب: فمعظم الأمراض التي يصاب بها الناس في عصرنا الحديث ترجع إلى الإفراط في تناول الطعام والشراب والإسراف فيهما، ومن هذه الأمراض: اضطرابات الهضم والبدانة، وبعض أمراض القلب والكبد والسكري، وروي أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍ ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كانَ لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنفَسِهِ” (صحيح الترمذي).
ولقد أثبت العلم الحديث أن المعدة على شكل وعاء كما وصفها النبي- صلى الله عليه وسلم-، الذي قال “يقمن صلبه” وهو الحد الأدنى من الطعام الذي يجب أن نأكله لاستخراج الطاقة اللازمة لأداء وظيفة الأجهزة الداخلية، أما ثلث المعدة فيساوي حجم الهواء الذي يدخل مع كل شهيق، لأن حجم المعدة حين تتمدد هو لتر ونصف، وحجم الهواء الذي يدخل مع كل شهيق هو نصف لتر كما يعرف ذلك الأطباء الأخصائيون.
وللحفاظ على سلامة الأبدان يجب تجنب الأطعمة المصنعة، وتناول كل ما هو طبيعي وهو ما أخرج من الأرض بما في ذلك اللحوم؛ لأن أصلها من الأرض قال تعالي: {والأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون} [الحجر:19].
المصادر والمراجع:
- تامر الملاح: مفهوم التربية الصحية.
- ابن قدامة: المغني، كتاب النكاح، ص 60650.
- وليم مكدوجل: الأخلاق والسلوك في الحياة، ص67.
- دكتور فؤاد البهي السيد: الأسس النفسية للنمو، ص 194.
- ابن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح البخاري، كتاب النكاح، ص 118.
- دكتورة أمينة عراقي: دراسة بعنوان “مسؤولية المرأة في التربية الصحية”.