براءة ونقاء، وحب وصفاء، وطمأنينة ووفاء، كُلها معانٍ عظيمة تتجلى في الطفل الصغير، الذي جاء ليستكمل مسيرة الحياة توريثًا وخَلفًا لمَن سَبقه، فهو كقطعة صلصال تُشكلها البيئة التي نشأ فيها ومرح.
والطفولة كالأركان للبنيان المشيد، كُلّما صلحت ومتنت واشتدت؛ تماسك البنيان وصمد في وجه التّحديات، وذلك يكون بالتربية السّليمة، ومنها التربية السياسية للأطفال التي هي ضرورة ليُصبح صِغار اليوم هُم قادة الغد، بعد تربيتهم وتمرّسهم في معترك الحياة ليستطيعوا قيادة البلاد والنهوض بها.
مفهوم التربية السياسية للأطفال
رُبما يندهش البعض من مصطلح التربية السياسية للأطفال كون ذلك أمر سابق لأوانه، وأنّ الطفل يحتاج إلى رعاية وتربية أخلاقية وإيمانية في المقام الأول، لكن الواقع أثبت ضرورة هذا المفهوم وأنه من الممكن تربية الصغار سياسيًّا وإعدادهم لقيادة الدول في المستقبل.
لقد اتفق الكثير من التربويين على أنّ هذا المفهوم يعني عملية يتعلم من خلالها الطفل تكوين أفكاره عن السياسة، ويكتسب السلوكيات والمواقف والمعارف السياسية التي تنتقل من خلالها الأعراف والسلوكيات المقبولة في نظر نظام سياسي ناجح من جيل إلى آخر. ومن خلال أداء هذه المهمة يجري إدخال الأفراد في الثقافة السياسية، وتتشكل توجهاتهم بشأن الموضوعات السياسية (1).
أهمية التربية السياسية للأطفال
استحوذت فكرة التربية السياسية للأطفال على اهتمام دول العالم مُنذ فترة طويلة، فعمدت إلى توفير الظروف الملائمة أمام الأطفال ليمكنهم النمو في إطار يسمح لهم بالنضج وتوسيع مداركهم ما يُهيئهم لتنشئة سياسية سليمة. وهو ما يُعزز أهمية هذا النوع من التربية لهم مُنذ الصغر، ومن معالم ذلك:
- تدعيم حرية الفكر والتعبير لدى الأطفال مُنذ صغرهم، وتعزز تقبل الرأي الآخر بهدف خَلق قِيَم وسلوكيات وعادات إيجابية.
- تساعد على تحقيق التماسك والانسجام بين أفراد المجتمع؛ لتعزيز وحدته وحريته وأمنه واستقراره، وتبعده عن التجاذبات والصراعات الحزبية أو الأيديولوجيات.
- تعمل على خَلْقِ ونشر ثقافة سياسية عامة؛ بهدف تعميق قيم المشاركة والتعاون وتأييد ودعم النظام السياسي.
- تعزيز التفاهم بين أبناء الفئات الاجتماعية المختلفة وغرس مشاعر الإحساس بالوطنية والانتماء فيهم.
- تعمل على حماية النشء من الوقوع في براثن الأفكار والتيارات المتطرفة بأشكالها المتعددة (2).
بدايات التربية السياسية للطفل
تسعى الدول، بما فيها الدولة الإسلامية المتقدمة منذ عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، إلى تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته، واحترام حقوق الإنسان والحريات، وإعداده لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حي بروح التفاهم والسلم والتسامح.
وتبدأ التربية السياسية للأطفال في مرحلة مبكرة، وتستمر طوال حياة الشخص، فتطور الذات السياسية عندما يدرك الطفل أنه ينتمي إلى دولة لها سيادتها ومجتمع يسعى للرقي. كما يبدأ الوعي بالسياسة كمجال متميز من الخبرة في التطور خلال سنوات ما قبل المدرسة بغرس روح الانتماء وأهمية وجود وطن متحد ومتوافق يسوده العدل والتعاون.
وهذا المعنى سلط الضوء عليه سعيد إسماعيل علي، دكتور بكلية التربية جامعة عين شمس، حينما ذكر أنّ هذا النوع من التربية يبدأ منذ المرحلة الابتدائية، ويستطيع الطفل في هذه المرحلة العمرية أن يتعايش مع واقع مجتمعه وما يعترضه من قضايا ومواقف سياسية، ومن ثم يتفاعل معها بالتحقق والمقارنة، وتتربى لديه العقلية الناقدة على أُسس سليمة، قبل أن تتطور معه في مراحل عُمره التالية (3).
وسائل التربية السياسية للطفل
تعد الأسرة والمدرسة من أهم الوسائل التربوية التي تلعب دورًا مهمًّا في تثقيف الطفل وحمل مسؤولية التربية السياسية للأطفال وتشكيل اتجاهاتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (4).
ومع ذلك فإنّ من الأمور المُهمة لتنشئة الطفل سياسيًّا دعمُ الأدوات والوسائل والوسائط المألوفة لديهم مثل كُتب التربية المدنية وحقوق الإنسان والمجلات الدورية التي تكرس فكرة المواطنة وتحفز على المشاركة وشرائط السينما والفيديو التي تدعو للأغراض نفسها.
وكذلك البحث عن أدوات ووسائل غير مألوفة لكن جذابة، مثل: البرامج التلفزيونية للتربية المدنية والتنشئة السياسية للصغار، والندوات والمؤتمرات السياسية وألعاب الكمبيوتر السياسية للأطفال مثل المعارك التاريخية ويشمل ذلك تشجيع الأندية الرياضية ومراكز الشباب على إدخال بند التثقيف السياسي للطفولة في برامجها وكذلك تنظيم الرحلات والمعسكرات المدرسية ذات الطابع السياسي (5)
التربية السياسية للصغار في الإسلام
الإسلام دين كامل متوازن شامل؛ فكما أنه دين ودولة، فهو عبادة وجهاد، وعمارة وبناء، والسياسة جزء أصيل منه، تسير وَفق أُطره وشرائعه وأخلاقه.
لذا، فإنّ التربية السياسية للأطفال هي الطريق إلى إقامة دولة الإسلام، وإحياء مجد المسلمين، وهو ما يُربي الأعداء أبناءهم عليه الآن، والمسلمون أولى منهم بذلك وأحق.
كيف ربى النبي الأطفال سياسيًا؟
اهتم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتربية أطفال المسلمين، وحثّ الوالدين على حسن رعاياتهم، حتى إنه كان يصفَّ عبد الله وعبيد الله، وكثيرًا من بني العباس، ثم يقول: “مَن سبق إليّ فله كذا وكذا”، فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم (رواه أحمد).
وها هو يغرس التربية السياسية وحسن التعامل مع الآخرين في علي بن أبي طالب صغيرا حينما استخلفه في مكة وقت الهجرة، وهي مهمة عظيمة لإرجاع حقوق الناس التي كانت عند رسول الله، ولإيهام القوم بأنّ رسول الله موجود، وحينما دخلوا عليه تعامل معهم بكل قوة ودون خوف أو وَجل رغم صغر سنة.
ولقد سار السّلف على الدرب نفسه، فحرصوا على تربية أبنائهم سياسيًّا وعلميًّا، حتى سادوا وقادوا البلاد أمثال صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح وغيرهما، حيث كان أباؤهم يغرسون فيهم معاني القيادة والزعامة منذ الصغر.
وهذه هند بنت عتبة التي كانت تربي ابنها معاوية على أن يسود الأمة، يقول الشافعي فيما رواه الطبري: “قال أبو هريرة: رأيت هندًا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمرَّ رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلامًا إن عاش ليسُودن قومه، فقالت هندٌ: إن لم يَسُدْ إلا قومه فأماته الله” (6).
الصهاينة والتربية السياسية للصغار
يدرك الصهاينة أنهم في محيط يموج بمعاني الكراهية والنفور منهم؛ لأفعالهم وممارساتهم المجرمة تجاه الفلسطينيين؛ لذا عمدوا منذ أن وطأت أقدامهم أرض فلسطين إلى غرس العقيدة الصهيونية في وجدان أطفالهم، كي يشبوا على معرفة أعدائهم المحيطين بهم، وكيف يصبحون قادة يسيطرون على الدول المجاورة لهم وتطويعهم لهم بل والسيطرة على العالم.
ويعتمد الكيان الصهيوني التربية السياسية للأطفال مُنذ مرحلة رياض الأطفال، حيث يجري صهرهم في وحدة ثقافية واجتماعية واحدة، كما يعتمد على عددٍ من المؤسسات التعليمية التي تعمل على تربية الطفل وتوجيهه سياسيًّا وعقائديًّا بطريقة تُؤسس لقادة جُدد للفكر الصهيوني، للحفاظ على مستقبل هذا الكيان المحتل.
وتُركز المناهج الدراسية في مراحل التعليم المختلفة لدى الكيان الصهيوني على صورة الإنسان العربي والمسلم، وبث توجهات عنصرية إزاء المسلمين، كما يظهر ذلك جليًّا خلال صورة متكررة لأطفالهم وهم يكتبون على دانات الدبابات والصواريخ عبارات عنصرية، من بينها (هدية من أطفال إسرائيل إلى أطفال غزة)، وغيرها من العبارات التي تعكس حجم التأثير السياسي على الأطفال منذ المراحل المبكرة (7).
كيف نربي أبناءنا سياسيا؟
هناك وسائل عملية يمكننا من خلالها اتباع منهج التربية السياسية للأطفال وتوصيل مفهوم السياسة في أبسط صورة مع الأبناء وتربيتهم من خلاله بطريقة مباشرة وغير مباشرة؛ وهي:
1- تفهيم الأولاد أنّ البيت مملكة صغيرة لا ينتظم أمرها إلا برئيس يدبر أمرها، ويسمع له الكل ويطيعون، وبذلك يأخذ كل واحد في البيت مكانه.
2- التأكيد على الأولاد أنّ المسلمين إذا اجتمعوا في مكان لا بُدَّ لهم من شخص يجتمعون عليه، ويرجعون إليه في أمورهم، وصورة المسجد وجماعة الصلاة فيه درس كبير في هذا الشأن.
3- تعويد الأولاد من خلال ذلك عدم الاعتداد بالرأي، والتنازل عن الرأي الخطأ إذا تبين خطؤه، والدفاع عن رأيه إن كان حقًّا، وعدم مقاطعة الآخرين.
4- استعمال الشورى في بعض الأمور معهم كالخروج للتنزه مثلا، فيؤخذ رأيهم في المكان والزمان لتدريبهم.
5- تربية الأبناء على العناية بأمور غيرهم من المسلمين، مصداقا لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ” (البخاري).
6- إبعاد الطفل عن مواطن النفاق والمداهنات ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وتربيته على الصدق وقول الحق.
7- عرض الأفلام التي تمجِّد الإسلام وتظهر الصورة الصحيحة لحكام المسلمين سالفًا على الأطفال؛ كفيلم محمد الفاتح، وتوضيح الدروس المستفادة منه.
8- عدم استخدام القهر وإسكات الصوت في تربية الأبناء حتى لا ينشأوا على حياة الذل والقهر وأقصى أمانيهم الحصول على الفتات (8).
أخيرًا
فإن التربية السياسية للأطفال هي سبيلنا- كأمة مسلمة- لقيادة المستقبل، أو على الأقل لحجز مكان مشرف بين العالم المتقدم الذي اعتمد على هذا النوع من التربية، فخرّج قادة وسياسيين يحركون العالم بكلماتٍ.
ولا بُد من أن نراعي- خلال غرس هذه التربية في الأطفال- تخطي كل ما هو شائك، والذي يحاول الإعلام من خلال بعض منصاته بثه وزرعه في الأجيال القادمة؛ حتى لا يضطرب الصغار وتختلط لديهم مفاهيم الحق والباطل، وتتباين أمام أعينهم رسائل التخوين والوطنية.
المصادر والمراجع:
- شيرين السيد: ما هي التنشئة السياسية؟ ومراحلها و مصادرها، 26 مايو 2021،
- التنشئة السياسية للطفل.. وأهميتها: 30 سبتمبر 2012،
- سعيد إسماعيل علي: التربية السياسية للأطفال، طـ1، دار السلام للنشر والتوزيع، القاهرة، 2008م.
- خالد غربي، براك خضرة: دور الأسرة في عملية التنشئة السياسية، مجلة السراج في التربية وقضايا المجتمع، العدد الثامن، ديسمبر 2018، صـ 165.
- مصادر التنشئة السياسية للطفل: 22 نوفمبر 2006،
- عباس العقاد: معاوية بن أبي سفيان، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع،
- عاطف الحملي: التربية السياسية للأطفال.. صناعة المستقبل، مجلة البيان العدد 349 رمــضــان 1437هـ، يـونـيـو 2016م،
- محمد سعيد مرسي: كيف نربي أبناءنا تربية سياسية؟، 1 أكتوبر 2013،