اهتم ابن القيم الجوزية- رحمه الله- بتأصيل مفهوم التربية الروحية وتزكية الأنفس، فأثّر على أجيالٍ كثيرةٍ من الأمة الإسلامية، كونه تعامل مع النفس بآليات ملكت القلوب والعقول وكان لها دور كبير في صلاح الشباب. فالروح كما يقول ابن منظور في لسان العرب: “والروح بالضم في كلام العرب النفخ، سمي روحا، لأنه ريح يخرج من الروح” (1).
ويُقسّم العلامة أبو بكر عبد القاهر الجرجاني، الروح إلى ثلاثة أقسام، فيقول: “الروح الإنساني: هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، الراكبة على الروح الحيواني، نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراك كنهه، وتلك الروح قد تكون مجردة، وقد تكون منطبقة في البدن. والروح الحيواني: جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن. أما الروح الأعظم، فهو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها، ولذلك لا يمكن أن يحوم حولها حائم، ولا يروم وصلها رائم، ولا يعلم كنهها إلا الله تعالى) (2).
من هو ابن القيم الجوزية؟
ولد ابن القيم الجوزية في دمشق سنة 691هـ، سمع الحديث واشتغل بالعلم منذ سن مبكرة، وبرع في علوم التفسير والحديث، واتّسم بسعة الاطلاع والتفرد في كثير من فنون العلم، ولزم شيخه ابن تيمية حتى وفاته.
اشتغل بتربية النفس وتزكيتها، ووضّح مدى تأثره القلبي وتعلقه بربه في كتابه (مدارج السالكين)، حتى وصفه تلميذه ابن كثير بقوله: (لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه).
تتلمذ على يدي والده الشيخ قيم الجوزية، وصحب الشيخ ابن تيمية وأخذ منه الكثير من العلوم، هذا غير الحافظ الذهبي وابن الشيرازي، وبدر الدين ابن جماعة.
كما تتلمذ عليه كثير من علماء الأمة أمثال: الحافظ ابن كثير، وابن رجب الحنبلي، وعلي بن عبد الكافي السبكي.
خلّف وراءه ثروة علمية كبيرة، ومؤلفات عديدة، منها: [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والوابل الصيب من الكلم الطيب، والروح، وزاد المعاد في هدي خير العباد، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ومفتاح دار السعادة.. وغيرها الكثير].
تعرض لكثير من المحن مع شيخه ابن تيمية، وظل مرابطا على الحق حتى توفاه الله في شهر رجب سنة 751هـ بدمشق (11).
التربية الروحية في القرآن الكريم
لقد ذكر الله، عز وجل، في القرآن الكريم، آيات عديدة تتحدث عن أهمية التربية الروحية وتزكية النفس، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس 9 – 10]، فالروح إذن من أكبر الطاقات الحيوية والمهيمنة على جوانب الشخصية الإنسانية، وتربية الإنسان روحيًّا تُساعده على تقوية الوازع الداخلي الذي يجعله دائما مراقبًا لله رب العالمين، وتدفعه للإيجابية الإيمانية والذاتية.
ووردت كلمة الروح بمعانٍ مختلفة في القرآن، فتارة تصف جبريل، عليه السلام، في قول الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}[الشعراء 193]، وأطلقت على سيدنا عيسى، عليه السلام، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}[النساء 171]، وجاءت بمعنى آخر في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، وقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف87]، وقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ}[غافر15].
التربية الروحية في فكر ابن القيم
لا يَصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، من اتباع ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وهي التربية الروحية والقيم والتعاليم التي اهتم بها ابن القيم وأرسى قواعد فكره على أساسها، والتي تجلّت في كثير من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ذكره سلمان الفارسي، رضي الله عنه، بقوله: “إن رسول الله كان يقول في صحابته: ما سبقكم أبو بكر بصومٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيء وقر في قلبه” (3).
لذا جاءت اهتمامات ابن القيم بالإنسان وتزكيته نفسه وتربيتها روحيًّا، وتَحدّث عن قُدرة الإنسان على التعلم، وأن الإنسان مستخلف في الأرض، كما أوضح الغاية من خلقه، ثم تحدث عن الفطرة لدى الإنسان، وأفرد الحديث عن التربية الإيمانية ووسائلها ودلائل القدرة الإلهية، والروح وصفتها وتعريفها، وهو المعنى الذي ذكره أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: “فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه فالله الله في إصلاح السرائر فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر” (4).
وتربية الروح عند ابن القيم، تجعل الإنسان يقظًا، فتتحوّل عاداته إلى عبادات يُؤجر عليها، بخلاف الغافل الذي ربما تتحول عباداته إلى عادات لا ينال منها شيئا، حيث ذكر بعض أهل العلم “أن عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات”.
لقد اعتنى ابن القيم بالإنسان عناية خاصة، فعمل على تربيته وتزكية نفسه، قال: “فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله فهو الصادق المصيب” (5).
مرتكزات تربوية لابن القيم
يرى الإمام ابن القيم الجوزية أن الإنسان بحاجة للتعرف إلى الله، سبحانه وتعالى، عن طريق أسمائه وصفاته، والإيمان بها، والطمأنينة لصدق ما أخبر الله به، فقال: “وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه -جل وعلا-، ونعوت كماله، وذلك من خبره الذي أخبر به سبحانه عن نفسه”.
ويقول الدكتور طاهر سليمان حمودة: “من أبرز اهتمامات الإمام ابن القيم في كتبه التربوية هو ذكر نعمة العقل، والتفكر في هذه النعمة العظيمة التي وهبها الله- جل وعلا- للإنسان، وأن الإنسان مسؤول عن نعمة العقل وعليه ألا يعطل وظيفته في حياته باتباع الهوى الذي يطمس نور العقل” (6).
وجاءت مرتكزات التربية عند ابن القيم متمثلة في التربية الروحية والإيمانية التي يصفها بقوله: “كُلٌ من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى، فينمو ويزيد؛ حتى يكمل ويَصلح”، وكذلك التربية الفكرية، حيث رأى أن هناك فرقًا بين الفكر والتفكر والتذكر والتأمل والتدبر والاستبصار، وهو المعنى الذي وصفه بقوله: “فاعلم أن التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من أمر هو حاصل منها لأن هذه حقيقته، فإنه لو لم يكن موردًا للفكر استحال الفكر” (7).
واهتم بالتربية الاجتماعية والجنسية التي يتأثر بها الإنسان منذ صغره، فيجب على الوالدين إبعاد الأطفال عن مجالس اللهو والمنكرات، لتظل فطرتهم نقية كما خلقهم الله عليها، فقال: “يجب أن يُجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء؛ فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر” (8).
بل فطن ابن قيم، إلى علاقة الحواس الخمس بالقلب والدماغ؛ وأن القلب تنبعث منه قوة معنوية إلى هذه الحواس لا تحتاج في وصولها إلى مجار مخصوصة، فالحواس والأعصاب تكون حاملة لها” (9).
البعد الروحي عند ابن القيم
وموضوع “الروح” وما ارتبط به من مفاهيم منها التربية الروحية وتزكية النفس، احتل مكانة كبيرة عند ابن القيم؛ فجاء كتابه بعنوان “الروح” معبرًا عن مدى اهتمامه بهذا الجانب في شخصية الإنسان، وأكد من خلال هذا المؤلف أن مذهب أهل الجماعة قائم على الإجماع بأن الأرواح كلها مخلوقة، وقد احتجوا لذلك بقول النبي، صلى الله عليه وسلم: [الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف]؛ والجنود المجندة لا تكون -كما علق على ذلك- إلا مخلوقة” (10).
وكان ذلك دافعا لعنايته بالنفس وأنواعها وسبل تزكيتها، فكتب عن النفس اللوامة، والنفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء، في مؤلفه (إغاثة اللهفان).
تأثر الناس بآراء ابن القيم
أثّر ابن القيم بكتاباته في كثيرٍ من الناس، حتى أضحت كتبه تعج بها المكتبات، ولا يكاد بيتٌ يخلو من كتبه، التي ناقشت التربية الروحية وأمراض القلوب وعلاجها، وطرق الوصول إلى الله، ومع ذلك لم يسلم من اضطهاد بعض الولاة، لدفاعه عن الحق وسلوكه مسلك شيخه ابن تيمية، رحمه الله، في التصدي للباطل. كما تطرق إلى التصوف الإسلامي، والفكر المستنير، وتربية الذات، وإلى موضوعات عديدة لم يسبقه غيره في عرضها والنقاش حولها، وهو ما جعل تأثيره في تزكية النفس واضح وجلي لدى الناس.
أخيرا
ارتكزت التربية الروحية عند الإمام ابن القيم الجوزية على جوانب إيمانية وتربوية وفكرية متعددة، إلا أن روحه المتعلقة بمولاها، والتي ظهرت في قوله “دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكّن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه” كانت من أبرز ما أظهرت فكره الروحي.
المصادر
1- لسان العرب لابن منظور مادة (روح) ج 2، صـ459.
2- الجرجاني: معجم التعريفات، دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، 2012، باب الراء، صـ 112.
3- موقف سلمان الفارسي الصحابي الجليل: الدرر السنية،
4- أبو الفرج بن الجوزي: صيد الخاطر، تحقيق: الشيخ طارق بن عوض الله بن محمد، مدار الوطن للنشر، 2016، صـ287.
5- ابن القيم الجوزية: مدارج السالكين، الجزء الثاني، صـ487.
6- طاهر بن سليمان حموده: من أعلام التربية العربية الإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1988.
7- ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996، صـ221.
8- ابن القيم الجوزية: تحفة المودود بأحكام المولود، مجمع الفقه الإسلامي بجدة، 1431هـ، صـ240.
9- ابن القيم الجوزية: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 2002، صـ213.
10- ابن القيم الجوزية: الروح، تحقيق بسام علي العموش، جـ2، طـ2، دار ابن تيمية الرياض، 1992، صـ502.
11- عبدالعظيم شرف الدين: ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف، مطبعة الكليات الأزهرية، 1967م.