لم يقتصر الإسلام على مُجرَّد الدعوة للإيمان بالله فحسب، بل جاء للناس بمنهج تربوي شامل، لشتَّى فروع التّربية، ومنها التربية الروحية التي تُعد نواة التربية الإسلامية وجوهرها، حيث قامت على قواعد قويَّة، وأسس متينة من شأنها توطيد أواصر الصلة بين المسلم وربِّه، وربط أسباب دنياه بأسباب آخرته.
وهذه التربية هي مُفتاح الفهْم لكلِّ عملية تربوية تهدف إلى إخراج جيلٍ قرآنيٍّ ربانيٍّ يُسهم من خلال العمل الإيجابيِّ البنَّاء في خلافة الأرض وعمارتها، والقيام بمسؤوليات الأمانة المُلْقاةِ على عاتقه بحكم اختياره وحمله لها.
مفهوم التربية الروحية في الإسلام
إنّ مفهوم التربية الروحية في الإسلام هو الانتقال من نفسٍ غير مُزكاة إلى نفسٍ مُزكّاة، ومن عقل غير شرعي إلى عقل شرعي ومن قلب قاسٍ مريض إلى قلب مطمئن سليم، ومن روح شاردة عن باب الله غير متذكرة لعبوديتها وغير متحققة بهذه العبودية، إلى روح عارفة بالله قائمة بحقوق العبودية له، ومن جسم غير منضبط بضوابط الشرع إلى جسم منضبط بشريعة الله عز وجل، وبالجملة؛ من ذات أقل كمالًا إلى ذات أكثر كمالًا في صلاحها وفي اقتدائها برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قولًا وفعلًا وحالًا.
وهي التربية التي تعمل باستمرار على تقوية الوازع الداخلي، وبث الروح في الأقوال والأفعال، وتنمية الدافع الذاتي، ومن ثَمَّ يسهل على المرء بعد ذلك القيام بالأعمال المطلوبة لتحقيق أهداف التربية النفسية والحركية.
ومن مظاهر هذه التربية أن يتحكم الإنسان في نفسه، فلا يجده الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، ولا يظهر منه ما يغضب الله- عز وجل-، فهو كالغيث أينما وقع نفع، صالح في نفسه مصلح لغيره، مفيد لمجتمعه وأمته.
ولا شك أن إصلاح السرائر ورعايتها بشكل دائم، يؤدي إلى تنمية وتربية وتقوية اليقين في قلوب الأفراد، وهو الفيصل بيننا وبين جيل الصحابة- رضوان الله عليهم-، كما جاء في الأثر: (أنهم -أي الصحابة- لم يسبقوكم بكثرة صلاة وصيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم)، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فكلما ضعف اليقين في القلوب، كلما ارتفع منسوب الأمراض الروحية والتربوية وحتى الأخلاقية والحركية والتنظيمية.
التربية الروحية في القرآن الكريم
ولقد أشارت العديد من آيات القرآن الكريم إلى أسس التربية الروحية للإنسان المسلم، ففي سورة الحديد يُوضح الله- تبارك وتعالى- الطريقة المثلى للعبادة، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28]، فهنا وضّحت الآية مرضهم بطريقة غير مباشرة ثم حددت مشكلتهم، وهذا العلاج لكل البشرية، إذا أردت أن يجعل الله لك نورًا ويغفر لك ذنوبك، ما عليك إلا أن تتقي الله وتتبع الرسول وتؤمن بما جاء به.
وقال الإمام البغوي في تفسير هذه الآية: إن الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى، اتقوا الله في محمد- صلى الله عليه وسلم- ﴿وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ محمد ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ نصيبين ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾؛ يعني: يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى- عليه الصلاة والسلام- والإنجيل، وبمحمد- صلى الله عليه وسلم-.
وإذا قرأنا سورة الفجر شعرنا بالاطمئنان والراحة وبقرب الفرج، بل إن حروف السورة نفسها في كلمة الفرَج، ووسائل التربية المثلى لتلك السورة تتمثل في قوله تعالى ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾.
وبيّن القرآن أن هذه التربية تكون بالركوع والسجود، وتعظيم الله، والتسبيح والحفاظ على صلاة الجماعة، وقيام الليل، ولزوم الذكر، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17]، وفي قوله عز وجل: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًا) [الكهف:13-14].
يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)} [الأحزاب]، فذِكر الله تعالى هو قوام الحياة الروحية، وهو العنصر الفعَّال الَّذي يتفاعل داخل كيان الذاكر، ويتَّحد مع ذرَّات القلب ليتحوَّل إلى طاقة نورانيَّة ربانيَّة، تولِّد في روح المؤمن القوَّة والنشاط، وتدفعه للقيام بالمزيد من الطاعات والعبادات والعمل المنتج.
لذا نجد آيات كثيرة عن أهمية الذكر، منها قوله تعالى: {إنَّما المؤمنونَ الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلون} [الأنفال: 2]، وقال تعالى: {الَّذين آمنوا وتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بذكْرِ الله ألا بذكْرِ الله تَطمئِنُّ القلوبُ} [الرعد: 28].
وحذر القرآن من شهوات الدنيا التي تهدد تربية الروح، فقال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [آل عمران:14].
وبخصوص حياة الملوك التي يظن الناس أنها أفضل حياة، قال تعالى في خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمّته،: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207]، وهذا تزكية للنفس وتطهير له وسمو بالروح.
وقد حدّد القرآن الأماكن التي تربي الروح لدى المسلم، فقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:36-38].
وبعد الخروج من هذه الأماكن، لا يتحول المسلم إلى وحش أو بلا قلب أو روح، وإنما يظل بروحه الطيبة، يقول تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].
تربية الروح في السنة
وبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- كيفية ترسيخ التربية الروحية والإيمانية في النفوس، إذ أكد فضل التسبيح وذكر الله في كل وقت، وعظم أجر ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ.” (رواه البخاري).
وقد أكد النبي- صلى الله عليه وسلم- أهمية الاستقامة في تهذيب الروح وتربيتها، فجاء في صحيح مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِىِّ قَالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ”.
ولأنّ الإنسان لا يخلو من لحظات ضعف تنتابه، فيزِلُّ أو يقع في ذنب، وعندها لا ينبذه الإسلام ولا يطرده الله من رحمته، بل يفتح أمامه باب الأمل للتواصل من جديد مع الله تعالى ونيل مغفرته؛ إنْ هو استغفر لذنبه وتاب، وندم على فعلته، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-أَنَّهُ، قَالَ: “قَالَ إِبْلِيسُ: أَيْ رَبِّ لاَ أَزَالُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ، مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: لاَ أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ، مَا اسْتَغْفَرُونِي” (رواه أحمد).
والدعاء الحارُّ النابع من الأعماق، يغسل القلب ويطهِّر النفس من الأدران ويسمو بالروح ويربيها، وهو ملجأ المحبِّ العاشق، والمحتاج الملهوف، والسعيد الظافر، والحزين السقيم، والمتألِّم المتأوِّه، ولأن الإنسان في حاجة دائمة إلى مَدَدٍ علوي، وعَونٍ إلهي في كلِّ أموره، فهو بالفطرة يبسط كفَّيه بالدُّعاء كلَّما داهمه خطب، أو ألمَّت به نازلة وضاقت به السبل، وقد حثَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة على الدعاء، منها عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِىِّ- رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ” (صحيح الترمذي).
والنور الطليق الفائض والغامر في السموات والأرض، يتجلَّى ويتألَّق في بيوت العبادة الَّتي تتفرَّغ فيها القلوب للصلة بالله، وتتطلَّع إليه وتذكره وتخشاه، وتُخلص له وتؤْثِره على كلِّ ما سواه، لذا فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- حثّ على الذهاب إليها وأكد أنها علامة من علامات الإيمان، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- “إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (18) سورة التوبة” (سنن الترمذي).
وتسمو الروح بالشكر في السراء والضراء، وهو ما كان يؤكد عليه النبي المصطفى- صلى الله عليه وسلم، إذ قال: “عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ” (مسلم).
إن التربية الروحية والإيمانية تنشئ سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقًا حسنة، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال، ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنًا عليه لا بُد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة.
المصادر والمراجع:
- البشير قادرة: التربية الروحية وحقيقة الذكر.
- محمد حلمي عبد الوهاب: التربية الروحية في فكر سعيد النورسي.
- البغوي: مختصر تفسير البغوي، ص 935.
- غازي صبحي آق بيق: التربيةُ الروحيَّةُ في الإسلام، ص 43 -163.
- عبد الصمد الحناوي: منهج القرآن الكريم في تربية الروح.