تهدف التربیة الجمالیة في الإسلام إلى صقل التّذوق الجمالي الموجود أصلا عند الإنسان، وهي بدورها تُوقظ في النّشء الإحساس بالقیم والحق، وتزوِّد الأفراد بالقدرة على الدهشة، والإعجاب، والتفتح الوجداني، سیما أن التذوق الجمالي من أهم عوامل التّسامي بالشّعور وإزالة التّوتر المترتّب على متاعب الحیاة الیومیة.
وهذا الجمال يُمكن صناعته وإيجاده والسعي إليه، إذ إنّ مهمة التربية أن تُوجه إليه وترغب فيه، ليسعى الفرد في سبيل تحقيقه، وقد نُعبّر عنه بالزينة أو التزين، وهو المفهوم الذي يعني الاهتمام بالإنسان في سلوكه ومحيطه الخاص، وهذه التربية في الإسلام عبارة عن بناء متكامل، يشد بعضه بعضًا في تناسق وتنظيم بديع، وهي كيان قائم في ذاتية هذا الدِّين، تدخل في لحمته وعمقه؛ ليظهر أثرها من خلال اللون والشكل، والتناسق والتنظيم، فكل ما يرغّب فيه هذا الدين أو يأمر به يوصل إلى جمال ظاهري أو باطني.
مفهوم التربية الجمالية وأهدافها
وتعني التربية الجمالية تلك الأساليب والوسائل التي تُساعد الفرد على تشكيل رؤية تربوية تساعده على تقدير الجمال، ومعرفة ماهيته، والارتقاء بالفرد سلوكًا، وعلمًا، وعمًلا. وهي حصيلة طريق طويل مليء بالإحساس الجمالي، وطرقِ تذوقه وتنبیه الوعي وقوة الملاحظة وقياسات التجارب، بالإضافة إلى وجود المثالیة الجمالیة والحكم الجمالي والتقدیر الفني والتذوق الفني.
وهي العملية التربوية التي تستهدف تنمية الفرد لكي یُدرك عناصر الجمال ويحرص على معايشتها في جوانب حياته المختلفة حتى یصبح مرهف الحس ورقیق المشاعر.
وفي الرؤية الإسلامية، فإن هذه التربية عبارة عن حصيلة لقاء بين التربية في مفهومها الإسلامي، وبين الجمال في مفهومه الإسلامي، إذ ليس هناك تربية إسلامية جمالية منفصلة عن التربية الإسلامية العامة، وأن الجمال لا يقوم بنفسه بل بغيره، وعلى هذا فإن كل تربية إسلامية هي تربية جمالية.
وتهدف هذه التربية إلى نمو شخصية المتربي، وتهذيب سلوكه في القول والعمل وتنمية خياله تجاه بيئة التعلم، وكيفية الاهتمام بمحتوياتها، ليستطيع تذوق الأشياء المحيطة، ما يحقق له مزيدًا من اكتشاف القدرات الإبداعية.
ومن أهدافها، ترسيخ القيم الإيجابية القائمة على الانضباط، وتحقيق الاستمرارية إذ ليست مقتصرة على مرحلة عمرية معينة، وتحقيق التوازن بين الجانبين العقلي والنفسي، وتحقيق الإتقان في كل شيء بالأداء الجيد والبعد عن الإهمال، بالإضافة إلى التجانس، والتأمل، والتنوع.
التربية الجمالية في الإسلام
وحظيت التربية الجمالية باهتمام كبير في الإسلام، مقارنة بباقي الأديان والفلسفات الأخرى، التي وقف بعضها في الطرف الآخر فاعتبر القبح فضيلة، والنظافة خروجًا عن أوامر الدين. أما الإسلام فهو الدين الوحيد الذي جعل من قضية الجمال موضوعًا جديرًا بالاهتمام، مؤطرًا إياه ضمن مواضيع الدين، فقرر له مكانته، وجعله ضمن الواجبات التي ينبغي على المسلم السعي من أجل تحقيقها.
ووقف القرآن الكريم موقفًا صريحًا ضد الحاملين على قضية الجمال الإنساني، فأضاف الحق- سبحانه وتعالى- الزينة لنفسه إضافة تشريف وتكريم، وفتح للإنسان مجالًا واسعًا من مجالات بناء ذاته، فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32).
وكرر الله- عز وجل- الأمر في القرآن الكريم بالسير في الأرض والالتفات للخَلْق وما به ظواهر جمالية، مثل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى: 1- 3) وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88).
وحرم القرآن الخبث الذي هو عكس الجمال في كل شيء فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} (المائدة: 90).
والنظر إلى الجمال وتذوقه امتد إلى سنة النبي- صلى الله عليه وسلم-، إذ روى عبد الله بن مسعود عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ؛ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ” (صحيح مسلم). فهذا الحديث ربط بين الذات العلية والجمال، وقرر أن الله “جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ”؛ حتى أجاز بعض العلماء إدراج “الجميل” ضمن أسماء الله الحسنى؛ وفقًا للنووي في شرحه.
كيفية تربية الأبناء على الجمال
وهناك وسائل عديدة يمكن من خلالها غرس التربية الجمالية في الأبناء، وإكسابهم حب التذوق لكل جميل من حولهم، وهي كالتالي:
- تعويد الطفل سماع القرآن الكریم بإنصات وتأمل واستلهام المعاني منه؛ فالقرآن كتاب الله المقروء.
- تَوجیه الطفل إلى النظر إلى بديع صنع الله في الكون والإنسان، واستقراء الجمال في ذلك، فالكون كتاب الله المنظور.
- وتعويد الطفل قراءة وسماع الجيد من الشعر الذي يحرك المشاعر نحو المعاني السامية والقيم الرفيعة.
- تعويد الطفل أدب السؤال وحسن الاستماع.
- تعويد الطفل الاعتناء بالمؤسسات العامة ونظافتها.
- تدريب الأبناء على اختيار ملابسهم وأغراضهم الخاصة بما يتناسب مع الذوق والبساطة والاحتشام.
- أن تكون الأسرة، سیما الأم نموذجا يحتذى به في ممارساتها وأقوالها ملبسها وتنظيمها لبيتها وعنايتها بالنظافة، والتزامها الذوق العام من احترام الآخرين، والتزام آداب الضيافة وحسن الاستئذان وأسلوب الحديث، وعدم غیبة الآخرين إلى غیر ذلك من قيم جمالية ينبغي أن تتحلى بها الأسرة فهي المحضن الأول للطفل.
- تعليم الطفل الحوار الجيد، لأن لغة الحوار تمثل حجر الزاوية في دعم علاقة الإنسان بغيره، لذا ينبغي تقديم الألفاظ المهذبة المنتقاة للطفل والرقي بالأسلوب معهم والتوجيه الحاني الذي يدعم خيوط الترابط والمودة معهم.
- وتعليم الطفل كيف يتسامح ويتعاطف مع الآخرين.
- تعليم الطفل كيف يرقى بمشاعره وحسّه الجمالي من خلال استثارة شعوره بالقیم.
- غرس حب الجمال والتخطيط الهادف لدى الطفل وتعليمه كيف يحافظ على حاجياته ويحرص على ممتلكات الغير.
- الدعم المستمر للاتجاهات الموجبة نحو زیارة الحدائق والمكتبات العامة وغيرها من المؤسسات التي تحقق البناء الذوقي والحس الجمالي عند الطفل.
- تدريب الطفل منذ نشأته على الأناقة وحثه على حسن ترتیب أدواته المدرسية والعناية بمظهره، ومشاهدته آثار الجمال في البیت تنمي في نفسه الإحساس الجمالي والقدرة على الأداء الفني.
فوائد تربوية
وتسهم التربية الجمالية بفوائد عديدة تعود على النشء خلال رحلة تربيتهم على الحسن والبعد عن كل قبيح، ومن ذلك:
- الجمال يجعل الإنسان شریف النفس، مستقیم الخطى، لا يكذب، ولا يتلون، ولا يداهن، ولا يتملق، ويجعله نفـسه نقية بيضاء غير ملوثة بأدران الرذائل والعيوب.
- الجمال يؤدي إلى تنمية التذوق، وتدريب النشء على النقد الذاتي.
- تبني مواقف تقوم على التفاؤل ونمو الشخصية السوية بجوانبها المختلفة.
- تشجيع الإبداعات الفنية في الأسر ودور العلم المختلفة له آثاره في التربیة والقيم الخلقية.
- استمرار البحوث والدراسات المیدانیة التي تقيس الآثار الإیجابیة للتّربية الجماليّة، ومدى انعكاس ذلك على نمو الجوانب الوجدانية في الإنسان.
ومن هنا، فإن التّربية الجماليّة تُعد حصيلة لقاء بين التربية وعلم الجمال بشكل تكاملي يُحقق مفهوم العبادة في غايته مستعينًا بفلسفة علم الجمال للوصول إلى المثل العليا في تربية الإنسان المسلم، ومن خصائصها العموم والشمول، فهي تربية تتناول جميع المسلمين وتمتد عبر حياة الإنسان وتصبغه بصبغتها، وتحافظ على التوازن في المنهج التربوي فلا يتضخم اهتمام بنشاط، على حساب هزال يصيب آخر.
المصادر والمراجع:
- الدكتور عبد القادر علي أحمد الحاج: دور التربیة الجمالیة في نمو القوى الوجدانیة لدى الإنسان، ص7.
- وائل خطار: دور التربية الجمالية فى تنمية التذوق الجمالي دراسة ميدانية، ص32.
- صالح أحمد الشامي: التربية الجمالية في الإسلام، ص 20.
- محمد عبد السلام العجمي، أصول التربیة الإسلامیة، جامعة السودان المفتوحة، ص107.
- علي القماش: التّربیة الجماليّة والتذوق الفني من منظور إسلامي، ص87.