تكمن أهمية التربية الإيمانية للطفل في أنها تربطه بالله- عز وجل- في كل حركاته وسكناته منذ بداية وعيه وحتى أن يلقى الله، حيث يعرف من خلالها أركان الإيمان ويؤمن بها ويتعلم ما يُناسب سنّه من مبادئ الشريعة السّمحة.
ولا شك أن هذه التربية ستكون الدافعَ والمحرِّكَ للطفل ليُحسِّن علاقته بالله وبالخلق وبنفسه، وتجعله يُتقن عمله ويراعي ضميره، وكُلّما بدأنا مبكرًا في تربية أبنائنا إيمانيًا وعلى قدر فهمهم تأصَّلت الجذور وقويت.
مراحل التربية الإيمانية للطفل
ولأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا مستقرًّا دون إيمان بالله- عز وجل-، فمن الضروري أن ينتبه ولي الأمر والمربي إلى مراحل التربية الإيمانية للطفل ليطبقها بنجاح فينشأ الصغير على ما غُرس فيه من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه المراحل تتمثل في:
- أولًا: مرحلة التلقين والتلقي، فيعتمد أسلوب التلقين لتنشئة الطفل إيمانيًا، في الفترة الممتدة ما بين بداية السنة الثالثة وبداية السنة السادسة ويرجع هذا إلى أن هذه المرحلة التي يُطلق عليها (الحضانة) تبرز فيها قدرات الطفل على الإدراك والفهم واكتساب العادات الاجتماعية، وهي مرحلة إعراب اللسان وقدرته على الحديث واللغة، والتعبير عمّا يجيش في ذاته.
وفي هذه المرحلة تتسم أفعال الطفل بالتقليد والمحاكاة للقائمين على رعايته وتربيته، فيؤثرون في سلوكه وأخلاقه وإيمانه، وهو منطوق قوله- صلى الله عليه وسلم-: “ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ..”، (البخاري).
وعن أبي رافع عن أبيه قال: “رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أذّن في أُذُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة” (الترمذي)، فخير هدي يُهتدى به هدي النبي محمد-صلى الله عليه وسلم-، وفعله هذا إشارة لما لتلقين الطفل من أثر في تثبيت الإيمان بنفسه خلال مرحلة الحضانة.
وتربية الطفل إيمانيًا خلال مرحلة التلقين والتلقي، ترتكز على ترسيخ الإيمان في هذا الصغير ليعرف الله دون حاجة إلى وسيط. وخلال هذه المرحلة، لا بُد من أن يُراعي المربي تقوية الإرادة الإيمانية لدى الطفل، ولفت انتباهه إلى توحيد الله، ومحبة النبي- صلى الله عليه وسلم- ورُسل الله- سبحانه وتعالى-، ثم إلى الإيمان باليوم الآخر.
ثانيًا: مرحلة التعليم والتبصير، أو مرحلة التمييز، وفيها ينضج ويتطور عقل الطفل ويبدأ في البحث عن حقيقة الأشياء وأسباب وجودها، ورغبته في الوصول إلى الفائدة والحكمة من وجودها.
وهذه المرحلة هي بداية التكوين والتأسيس المعرفي والتطبيقي لأصول المعارف، فطفل هذه المرحلة يبدأ عملية التعليم الأساسي، فيتعلم القراءة والكتابة وتقدم له مبادئ العلوم التي سترافقه في مسار حياته.
ويرجى الالتزام في هذه المرحلة بالأسس المنهجية في تعليم وتبصير الطفل، من خلال تكوين العاطفة الإيمانية، وتقوية الارتباط بالمصدرية الإسلامية وهي القرآن والسنة النبوية.
ومن هذه الأسس، التكوين الإيماني لعقل الطفل، وهو ما اهتم به النبي- صلى الله عليه وسلم- فقد روى عبد الله بن عمر، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ ورَقُهَا، وهي مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي ما هي؟ فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ البَادِيَةِ، ووَقَعَ في نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنَا بهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أبِي بما وقَعَ في نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَكونَ لي كَذَا وكَذَا (البخاري) .
وسائل التربية الإيمانية للطفل
إن التربية الإيمانية للطفل في ظل المنهج الإسلامي، لها وسائل تُسهم في تحقيق الأهداف المرجوة من ورائها، وأهمها:
- القدوة: وهي تُعد من أجدى الوسائل نفعًا، فمن “السهل تأليف كتاب في التربية، ومن السّهل تخيل منهج وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول.. ولكن هذا المنهج يظل حبرًا على ورق، يظل معلقًا في الفضاء ما لم يتحوّل إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض، ما لم يتحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه، عندئذ فقط يتحول المنهج إلى حقيقة ويتحول إلى حركة، ويتحول إلى تاريخ”.
ولقد كان النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- “أكبر قدوة بشرية اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير، وأعظم شخصية تمثّلت فيها تعاليم القرآن الكريم والتزمت أحكام المنهج الإسلامي المتكامل، فهو الذي قال عنه ربه: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا) [الممتحنة:6].
- توجيه الطاقة: وهي من وسائل التّنشئة الإيمانية الإسلامية للطفل، حيث تساعد في بنائه إيمانيًا، وانتفاعه بها أثبت وأقوى في العبودية لله وتفريده بالتوحيد، ووصفه بكل صفات الكمال، وتنزيهه عن كل صفات العيب والنقص، وهو ما يوجهه إلى محبة الخير وتعشقه، وكراهة الشر ودفعه.
ويُمكن توجيه هذه الطاقة نحو مكامن الخير، بتفتيح العقل وتبصير الفؤاد بنعم المُنعم- جل وعلا، القائل في منزل تحكيمه: (أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ) [لقمان:20].
- القصة القرآنية: وهي من الوسائل التي لا غنى عنها في غرس الإيمان في قلوب الأطفال، وهي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة، والقرآن كتاب دعوة دينية قبل كل شيء، والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها.
وترجع أهمية القصة القرآنية إلى كونها وسيلة لغرس القيم والمفاهيم والأخلاق لما فيها تحققه من البيان والتصوير، والإقناع والتأثير في نفسية الصغير، والقصص القرآني يهدف إلى إثارة الفكر الإنساني، ودفعه إلى التفكر والتدبر للاتعاظ؛ يقول تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176]، لكن على المربي أن يراعي تأكيد كل هدف في القصة، ولا يعتمد على السرد فقط.
- الحوار: فعلى المربي ألا يستصغر أهمية تجاذب أطراف الحديث الطفل، خصوصًا عن طريق السؤال والجواب، إذ يكون الغرض من وراء ذلك الوصول إلى نتيجة.
وترجع أهمية هذه الوسيلة عمومًا إلى تبادل وجهات النظر، وتبادل الآراء، وإعطاء كل طرف حرية طرح رأيه أو فكرته، وفرصة الرّد والمناقشة، وعادة ما تتسم المحاورة بالهدوء والرزانة، وهي تسعى إلى إيضاح مفاهيم خاطئة، أو أمور غامضة، أو أسئلة حائرة، لا يجد لها أحد المتحاورين أو كلا منهما إجابة.
- ضرب المثل: وهي وسيلة هدفها تقريب الأمور غير المحسوسة إلى العقول حتى تستوعبها، وتجسدها في مثال حي محسوس، ما يكون له أثر بليغ على مكنونات النفس.
- النظر في آيات الآفاق والأنفس: وهي من أجدى الوسائل التي ترسخ الإيمان بالله، وأوثقها دليلًا على اتصافه- سبحانه وتعالى- بأوصاف الكمال، وتنزيهه عن صفات النقص، وبقدر ما يكون الإيمان بوجود الله على أساس متين من اليقين بقدر ما يكون الإسلام قائمًا في النفس موقع الثبات والرسوخ.
ثمار التنشئة الإيمانية للأطفال
وتعمل التربية الإيمانية للأطفال على تحصينهم من الضلال وتحفظ عقولهم من اللجوء إلى غير الله، ومن أهم ثمارها:
- الوقاية من المناهج المضلة: فالطفل في مرحلة الإعداد في البلدان المسلمة، تتضاربه المناهج غثها وسقيمها في ظل الانفتاح الإعلامي، وفي ظل أخطبوط العولمة التي تلقي بأضلعها على كل قضايا الأمة، مترسمة في ذلك خططا بعيدة المدى، وبخاصة في مجال التربية، هذا المجال الحساس الذي عليه يُعوّل لإخراج الأجيال المؤمنة الصالحة.
- حفظ العقل: وهذا لأنه هو الوسيط الذي يبني المعرفة اليقينية بحقائق الوجود ومجريات الأحداث، وسَبر دلالات ومقاصد الآيات، ولهذا أكد الخطاب القرآني استعماله باعتباره قوة إدراك فطرية.
- ويحفظ الإيمان عقل الطفل فيجعله ينظر إلى الكون وما وراءه وإلى الحياة وما بعدها بالمنظار الإسلامي، فيستطيع رؤية الحقائق العلوية المعنوية والسفلية المادية، وكلما ازداد نموًّا من الناحية العقلية والعلمية يستطيع رؤية الحقائق أكثر ورؤية أدلة االله على الكون أكثر ثم يزداد إيمانًا وتضحية في سبيل ما يؤمن به.
- التحرر من القيود الأرضية: وهي التي تُقزّم إمكانات وقدرات الإنسان، ذلك أن التحرر المتداول في العقلية الراهنة ينزع إلى البحث عن المتع والجري وراء الشّهوات، والتخفف من القيود الأخلاقية، والتمرّد على النظم والسُّنن التي تؤطر حركة الحياة.
- ومن بين الثمار الأخرى: المبادرة والمسارعة في فعل الخيرات؛ للتقرب من رضا الله ورحمته، وتقوية الوازع الداخلي، والزهد في الدنيا؛ واختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الناس، لأن المؤمن يسعى إلى إصلاح نفسه وإصلاح مَن حوله، وفوق كل هذا يشعر بالسكينة والطمأنينة.
إن التربية الإيمانية للأطفال ضرورة حتمية وعامل أساس من عوامل نهضة الشعوب والأمم إذا استثمرت ووجهت توجيهًا صحيحًا، وهو ما تحقق بالفعل في بناء أمَّة الإسلام على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
المصادر والمراجع:
- رفاعي سرور: بيت الدعوة، ص ٦٥.
- مقداد يالجن ويوسف القاضي: علم النفس التربوي في الإسلام، ص ٢٥٠.
- فريد الأنصاري: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، ص ٣٤.
- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، ص ٢٢١.
- أحمد عبد العزيز الحليبي: ثقافة الطفل المسلم، ص٢٣١.
- سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص ١١٧.
- عمر النجار: الإيمان بالله وأثره في الحياة، ص ٦٩.
- سالم بن سعيد بن مسفر بن جبار: الإقناع في التربية الإسلامية، ص ٩٠.
- مقداد يالجن: جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام، ص ٦٢.
- علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ص ٥٧.