لا شكّ أنّ المجتمع الذي تسوده الفضائل وتنتشر فيه الأخلاق الحميدة وتنحسر فيه الموبقات، قد نهل واستفاد من التربية الأسرية في الإسلام، وأولى اهتمامًا بالغًا بالأسرة التي تُعدّ النواة الأولى لكل المجتمعات، والمؤسسة التي يتعامل معها الأبناء؛ حيث تبني بيئتهم الثقافية الابتدائية التي يكتسبون منها لغتهم ومعارفهم.
وفي بحث للدكتور خالد روشة عن أهمية الأسرة، رصد أهم محاور هذه التربية مع تسليط الضوء على أهم ما يحتاجه البناء الأسري للنجاح في عمليته التربوية وأهم الوسائل التي يستطيع بها التغلب على التحديات المعاصرة والمنتظرة.
تعريف التربية الأسرية
ويُمكن التعرف إلى مفهوم التربية الأسرية في الإسلام، من خلال معرفة معنى الأسرة وَفق الموسوعات العلمية المختلفة، إذ هي:
1- وحدة اجتماعية رئيسة تتألف من أشخاص يرتبطون بروابط الزواج، أو الدم، وعادة ما يمثلون بيتًا واحدًا.
2- جماعة من الناس توحدّهم صلات قربى قوية قائمة على روابط الدم أو الزواج وتجمعهم روابط العيش المشترك الذي تُراوح أنشطته بين اللهو وتمضية وقت الفراغ والعمل وتناول الغذاء والإقامة والتعاون والثقة والسكنى في دار واحدة. وقد انبثقت هذه الجماعة في ظروف الحياة الطبيعية والاجتماعية للإنسان، لتؤدي وظائف ضرورية لكل من الفرد والمجتمع، أقلها الإشباع العاطفي لأفرادها، وتوفير وضع ملائم للتعاون الاقتصادي والتواصل الجنسي والتناسل ورعاية الذرية والحفاظ على مظاهر الحضارة ونقلها من جيل إلى آخر.
ونستطيع أن نعرف الأسرة تعريفا إجرائيا من جانبنا في نقاط كما يلي:
1- الأسرة بناء اجتماعي مستقل ونظام رئيس يشكل أساس وجود المجتمع.
2- تبدأ الأسرة بزواج ذكر وأنثى، يسمى الذكر فيما بعد الإنجاب بالأب، والأنثى بالأم.
3- تتكون من مجموعة من الأفراد.
4- يربط بينهم رابط القرابة أو الدم.
5- يعيشون في مسكن واحد غالبا.
6- هي المؤسسة الأكثر تأثيرا والأكبر فاعلية في بناء الشخصية الإنسانية.
7- جوهر جماعة الأسرة هي علاقة الوالد والابن.
8- تقوم الأسرة بدور الرعاية والحماية للأبناء حتى يشتدوا ويرشدوا.
9- هذه العلاقة غير محددة زمنيا.
10- يتفاعل الأفراد داخل الأسرة كل مع الآخر في حدود أدوار: الزوج والزوجة، الأم والأب، الأخ والأخت، والجد والجدة.. ويشكلون ثقافة مشتركة.
والأسرة في التعريف الإسلامي: هي الجماعة المعتبرة نواة للمجتمع التي تنشأ برباط زوجي بين الرجل والمرأة عن طريق عقد يفيد حل المعاشرة بينهما ثم يتفرع عنهما الأولاد وتظل هذه الصلة وثيقة بأصول الزوجين وفروعهما ويحدد العقد بين الزوجين ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات.
وهي أول جماعة يشعر الأبناء بالانتماء إليها، ويكتسبون عضوية فيها، ويتعلمون من خلالها كيفية التعامل مع الآخرين، وكيف يسعون لإشباع حاجاتهم بصورة مقننة ولما كانت المرحلة الأولى من عمر الإنسان هي المرحلة الأهم من مراحل حياته، فقد اكتسبت الأسرة أهميتها لإحاطتها بكل جوانب التأثير في تلك المرحلة بصورة متكاملة، بل إن من العلماء من يرى أن أثر الأسرة يفوق أي أثر آخر لأي مؤسسة تربوية واجتماعية في المجتمع، إذ بصلاحها تصلح آثار العوامل والوسائط والمؤسسات التربوية الأخرى وبفشلها تفشل شتى الجهود اللاحقة!
أشكال مختلفة عن التربية الأسرية
يؤثر شكل الأسرة على عملية التربية الأسرية الموجهة للأبناء، فالأسرة النووية يقتصر مصدر التوجيه فيها على الأبوين فقط، في حين تتعدد مصادر التوجيه في الأسرة الممتدة، كما يتوحد القرار ومصدره في الأسرة النووية في حين تتعدد القرارات ومصادرها في الأسرة الممتدة… وهكذا.
وبالتالي يتأثر الأبناء بما سبق سلبا وإيجابا، فتميل شخصية الأبناء في الأسرة النووية نحو المحافظة وتقليد دور الوالدين والتشبه بهما، بينما تتعدد مصادر التقليد والتشبه في الأسرة الممتدة لدى الأبناء، وقد منح العلماء والمفكرون الشكل الأسري الممتد الوصف الأكثر قدرة على بناء تربوي أكثر إيجابية حيث تتسع فرصة بناء الشخصية القوية غير الخاضعة والمتصفة بالحرية المقننة، وتنتقل صفات المجتمع وقيمه بصورة أكبر إلى شخصية الأبناء، وتتسع المرجعية النفسية والعلمية والقيمية لدى الأبناء في صورة الأسرة الممتدة حيث يوجد الأجداد الأكثر خبرة وتتعدد الشخصيات الموجهة والمربية والمعلمة.
إلا أننا ينبغي أن نوضح أن تطورات العصر الحديث تدفع دومًا في طريق بناء أشكال الأسر النووية المقتصرة على الوالدين والأبناء وتدفع في سبيل الاستقلال المعيشي والاقتصادي، وهو ما ينتج عنه بعض السلبيات المؤثرة على شكل المجتمع، مثل: قطع العلاقات الرحمية والانطواء العائلي والسعي للمصلحة الشخصية من كل عائلة لأخرى وهكذا، حتى وصل الأمر في المدن العربية أن يلتقي أبناء العمومة ولا يعرف بعضهم بعضا!
التكوين الأسري
وفي ظل الاهتمام بضرورة التربية الأسرية في الإسلام، فإننا نشير إلى التكوين الأسري وتفاصيله التي تأتي على النحو التالي:
1- أساس تكوين الأسرة: وهو العلاقة بين الذكر والأنثى التي تشمل العلاقة الجسدية بينهما، وعلاقات التفاعل الحياتية الأخرى.
وفي حين تشترط الأديان السماوية جميعها – اليهودية والمسيحية والإسلام- أن تكون العلاقة الأولى بين الزوج والزوجة علاقة مشروعة بعقد يسمح به الدين ويشهد عليه المجتمع، فإن مجتمعات مختلفة- غربية وشرقية- منها ما يدين بالمسيحية أو اليهودية أو الوثنية، تسمح مجتمعاتها أن تبتدئ تلك العلاقة بشكل آثم دينيا، وتسمح أعرافها بجعل عقد الزواج متأخرا عن العلاقة الجسدية بين الزوج والزوجة.
والإسلام منع منعا باتا حدوث أية علاقة بين الزوجين قبل عقد الزواج المعتبر شرعا، بل يشترط تقديم عقد الزواج على أية علاقة جنسية بين الزوجين.
2- العلاقات داخل الأسرة: تنشأ الحياة الاجتماعية والخبرات التربوية عندما يتفاعل الأفراد فيما بينهم كل بدوره ويعتمد التوجيه التربوي داخل الأسرة على مدى قيام كل منهم بهذا الدور المنوط به والذي ينتظره الآخرون منه بحسب تصورهم عنه، وفق العلاقات بين الزوج والزوجة، والعلاقات بين الآباء والأبناء، والعلاقات بين الأبناء وبعضهم.
3- العلاقات الأسرية في منظور الإسلام: لقد نظر الإسلام إلى العلاقات في الأسرة نظرة إيجابية، وسعى المنظور الإسلامي دوما لحل الصراعات داخل الأسرة وتذويب الخلافات والعمل على إقامة وحدة مجتمعية مترابطة ومؤثرة.
فعلى مستوى العلاقة بين الزوج والزوجة فإن العلاقة بينهما هي علاقة وثيقة للغاية سماها القرآن الكريم ميثاقا غليظا، فقال: {…وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: من الآية 21)، واعتبر القرآن الكريم أن المودة والرحمة هما أساسا البناء الأسري النفسي فقال الله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
كما اعتبر الإسلام العلاقة بين الآباء والأبناء هي علاقة عطاء متبادل، قائمة على البر والرحمة، قال سبحانه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} (الإسراء).
دورة حياة الأسرة
وتدخل التربية الأسرية في الإسلام ضمن دورة حياة الأسرة، والمراحل التي تمر بها بدءًا من الزواج حتى تفككها سواء بالطلاق أو الوفاة، وذلك على النحو التالي:
- مرحلة الإعداد للزواج، وتشمل الاختيار والخطبة وعقد الزواج وتأثيث منزل الزوجية: فيمثل اختيار الزوجة عاملا أساسيا ومؤثرا على البناء الأسري التربوي اللاحق، وينصح العلماء التربويون باختيار الزوجة الذكية المتعلمة لينة الطباع، ولكن الإسلام ينصح بصفة الدينونة والتقوى والصلاح وحسن العلاقة بالله قبل غيرها من الصفات، إذ يرى الإسلام أن العلاقة بالله إذا صلحت عند المرأة صلح معها شأن الأسرة صلاحا كبيرا واستطاعت المرأة أن تربي جيلا خلوقا تقيا صالحا نقي النفس، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم ناصحًا الشباب المقدمين على الزواج: “.. فاظفر بذات الدين”، وكأنه يعتبر المرأة ذات الدين ظفرا وكسبا نادرا لا بد أن يستمسك به المرء.
ويعد الاختيار الناجح خطوة للخطبة الناجحة التي فيها يتم طلب الزواج من ولي المرأة ويتم الاستعداد للزواج والاتفاق على شئونه. وينصح الإسلام بعدم المبالغة في المهور للتيسير على الشباب أمر الزواج ولكيلا تنتشر الفاحشة في المجتمع بل قد ثبت عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أنه قد زوج امرأة بأقل القليل من المهر، وزوج أخرى بسورتين من القرآن وقال لخاطب آخر: «التمس ولو خاتما من حديد».
وفي الوقت الذي تجد أن دورة حياة الأسرة في المجتمعات الغربية تبدأ بعقد الزواج الرسمي بعدما يقضي الرجل والمرأة فترة معرفة وصداقة وطيدة فإن الإسلام جعل فترة الخطبة فترة لا يحل فيها من المرأة شيء للرجل بعدما يحصل بينهما القبول، ولكن تعد تلك الفترة فترة إعداد كما سبق في المجتمعات الإسلامية.
- والمرحلة الثانية: تتمثل في بدء الحياة الزوجية ولا يوجد أطفال، وبداية الأسرة بالفعل وتشمل حياة الزوجين معًا وإيجاد البيئة المناسبة للحياة وتكيّف كل منهما مع الآخر والمرور بتجارب جديدة ونشأة اتجاهات جديدة للشريكين بعضهما نحو بعض ونحو المجتمع، وتعود كل من الرجل والمرأة على عادات تقوم بينهما.
وفي حين تكون هذه المرحلة مرحلة سلبية في المجتمعات الغربية وتحصل فيها كثير من حالات الانفصال نتيجة سوء التكيف بين الزوجين فإن هذه المرحلة تعد عند الزوجين المسلمين من أجمل مراحل الزواج، وقد أوصى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فيها أو في غيرها للرجل بالصبر على المرأة والنظر إلى محاسنها وغض الطرف عن صفاتها السيئة إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقًا رضي منها آخر”، فهو يوصي الزوج ألا يفارق زوجته بسبب صفة يكرهها وإنما يصبر وينظر لصفاتها التي يحبها.
- والمرحلة الثالثة: هي الزوجان بطفل واحد أو أكثر دون سن الدراسة: وهذه المرحلة تتحقق فيها الأسرة بالشكل المتكامل لها حيث يوجد الأبناء وهي تربط الشريكين بذلك الرباط الحيوي من أطفالهما الذين هم ثمرة الاتحاد الجنسي بينهما فتنشأ عنها عواطف جديدة يمكن أن تقوي العواطف الأولي، كما يمكن أن تحل بدلا من العواطف الأولي فتجئ باهتمامات جديدة ومسئوليات جديدة. وفي هذه المرحلة تبدأ الزوجة بممارسة دور الأم ويبدأ الزوج بممارسة دور الأب ويجب في هذه المرحل عليهما أن يتفهما بجلاء الدور المطلوب منهما كل على حدة وهو في هذه المرحلة دور يغلب عليه العاطفة تجاه الأبناء والرحمة بهم والشفقة عليهم والصبر على تربيتهم وحاجاتهم.
- المرحلة الرابعة: الزوجان وجميع الأطفال في المدارس: وفيها تبدأ اهتمامات الأسرة في التغيير ويصبح تعليم الأبناء هو الشغل الشاغل للآباء كما يبدأ البيت في إلقاء جانب من المسئولية على المدرسة. والحق أنه يجب أن يكون هناك تنسيق وتكامل بين دور الأسرة ودور المدرسة في بناء شخصية الأبناء كما يلزم أن يكون هناك تواصل بين القائمين بالعملية التعليمية والتربوية في المدرسة سواء المعلمين أو الأخصائيين الاجتماعيين وغيرهم. وهذا التواصل ينبغي أن يكون بينهم وبين الوالدين بشكل دوري متقارب ليطلع الوالدان على مراحل التطور الحاصلة في المدرسة ويطلع المربون على ما خفي عنهم فيما يحصل في البيت.
- المرحلة الخامسة: الزوجان والأبناء بعد مرحلة البلوغ وسن المراهقة: وفيها تبدأ شخصيات الأبناء في الاستقلالية ومحاولة إثبات الذات وتتذبذب سلطة الآباء على الأبناء وتزداد تأثيرات العلاقات الثنائية بين الذكور والإناث وتبرز الصفات الشخصية التي تميز كل واحد من الأبناء عن الآخر وتبدأ قدراته الخاصة على التفرد بصفة مؤثرة. ويتمتع الذكور في هذه المرحلة بقدر كبير من الحرية بينما تكون مراقبة البنات ومتابعتهن هي الصفة الغالبة في المجتمعات العربية في هذه المرحلة.
- المرحلة السادسة: الزوجان والأولاد في مرحلة الشباب والاستعداد للزواج: فإذا كانت دورة حياة الأسرة في المجتمعات الغربية تنتهي في اللحظة التي يبلغ فيها الأبناء مبلغ الكبار ويغادرون بيت الأسرة ليستقلوا عن سلطة الوالدين فإننا نجد أن مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم تستمر في الأسر العربية حتى سن زواج الأبناء وتتعدى بالنسبة للإناث حتى بعد الزواج بل إن مسئولية الأجداد وارتباطهم بالأحفاد واضحة جدًا في غالب البلدان العربية.
ولا تمر كل الأسر بكل هذه المراحل لأن بعض الأسر قد تنتهي مسيرتها بسبب الموت أو الطلاق كما تختلف طول كل مرحلة مع تغير الظروف المجتمعية والشخصية لأفراد الأسرة.
المصادر والمراجع:
- التربية الأسرية في الإسلام (2) .
- التربية الأسرية في الإسلام (3).
- التربية الأسرية في منظور إسلامي https://bit.ly/3H7hOlH.