جعل الله- عز وجل- التدرج سنة جارية في الخلق والتشريع، فخلق سبحانه الأكوان، وأوجد البشر شيئا فشيئا، وخلق الإنسان أطوارا، ولو شاء لخلقهم دفعة واحدة في طرفة عين، لكن حكمته اقتضت ذلك، وفي شرعه أنزل القرآن مفرقًا منجمًا، وفرض شرائعه بتدرج حتى أكمل الدين وأتمه، فمضت سنة الله على ذلك، وجرت حياة الناس ومعايشهم. وتتمثل أهمية هذه السنة في تسهيل الأمور على الإنسان، وتربيته على الصبر والمثابرة، وتجنب الفتن والضلال، وتحقيق المصالح في الدنيا والآخرة.
مفهوم التدرج وذكره في القرآن والسنة
وعرّف ابن فارس سنة التدرج بقوله: “الدّال والرّاء والجيم أصلٌ واحدٌ، يدلّ على مضيّ الشّيء، والمضيّ في الشّيء”، وعليه فلفظ (درج) دال على المشي والمضي، وأما (درّج) بالتشديد فتشير هذه المادة في معاجم اللغة إلى الترقي شيئًا فشيئًا، وصولًا إلى غاية محددة.
ولا يختلف معنى التّدرّج في الاصطلاح عن معناه في اللغة، حيث إنه أخذ الأمر شيئًا فشيئًا، لا دفعة واحدة. أو: هو الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى منها، وأرفع في الحس، أو في المعنى، أو في كليهما، وفى ضوء هذا المعنى قيل لمنازل الجنة: درجات من جهة أن بعضها يرتفع فوق بعض أخذًا من الدرجة التي تعني الرفعة والمنزلة.
وعرّفه الدكتور الزحيلي في التشريع بقوله: “هو نزول الأحكام الشرعية على المسلمين شيئًا فشيئًا، طوال فترة البعثة النبوية، حتى انتهى بتمام الشريعة، وكمال الإسلام”، وهو لا يقتصر على مجال التشريع ونزول الأحكام فقط، بل يشمل تطبيق الأحكام بعد اكتمال التشريع.
وقد خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام -وهو قادر على خلقهن بكن فتكون- لحكم عالية أرادها الله تعالى منها: تعليم عباده الأناة والتّدرج في إيجاد الأشياء شيئًا فشيئًا. قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [ق: 38].
وتدرّج الشارع في فرض العبادات عمومًا، يشرع للناس عبادة، ثم يوجب عليهم أخرى، ثم يفرض عليهم ثالثة، ثم يختم لهم برابعة، وهكذا، فالصلاة فرضت في السنة العاشرة من البعثة، أي: قبل الهجرة، والصوم شرع بعد ذلك بخمس سنوات، في العام الثاني من الهجرة، والزكاة في السنة الثانية من الهجرة عقب الصوم، والحج بعدهما، في السنة الخامسة أو السادسة أو الثامنة أو التاسعة.
وحينما يكون الحكم متعلقًا بتحريم عادة متأصلة في النفوس فإن الشريعة حينئذٍ لا تفاجئ الناس بتحريم هذا الأمر مرة واحدة، بل تتدرج بهم على مراحل، في رفق وأناة، وفي تدرج، ففي الخمر بيّن الله أن في الخمر والميسر منافع ومضار، وإثمهما أكبر من نفعهما، فقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219].
والتّدرج من الخفيف من الأحكام إلى الثقيل، فالشارع لمّا أراد أن يفرض على المسلمين صيام شهر رمضان لم يفرضه عليهم دفعة واحدة، بل تدرج في إيجابه والإلزام به على مرحلتين؛ الأولى: فرض الله فيها الصوم على الأمة مع التخيير بين الصيام أو الإفطار مع الفدية، بدليل قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة: 184]، والثانية: هي مرحلة الإلزام والتحتيم، بصوم شهر رمضان؛ وذلك بنزول قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].
وقد كان الأمر نفسه في تشريع الصلاة، فلم يكتمل تشريعها إلا بمراحل ثلاث، الأولى: كانت الصلاة فيها ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي، والثانية: فرض الصلاة ثلاث مرات في اليوم، الفجر والعصر، وقيام الليل، بإضافة العصر إلى ما كان قد فرض في المرحلة الأولى؛ والثالثة: اكتمل فيها التشريع، وتم إيجاب الصلوات الخمس؛ وذلك بقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78].
أما فرض الزكاة فقد استمر تشريعه سنين، حتى اكتمل في السنة الثامنة بعد الهجرة، فجاء ذكر الزكاة والأمر بها في السور المكية الأولى، ما يؤكد أن بدء تشريعها كان في مكة، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الليل، وهي مكية: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل: 17-18].
وقد سلك القرآن الكريم في تغيير أحوال النفس وتربيتها وتزكيتها وتعليمها منهج التدرج، ومن الأدلة التي تدل على ذلك قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) [التغابن: 16]. وقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) [الحج: 78].
ولقد تدرّج القرآن في عملية الإصلاح والتغيير، سواء كان هذا الإصلاح للمجتمع أو للفرد، أيًّا كان هذا الفرد، ابنًا أو زوجة أو عبدًا. قال تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) [النساء: 34].
ضوابط التدرج
وتتلخص ضوابط التدرج في النقاط التالية:
- البدء بالأهم والأيسر: فنجد أن الشارع قد بدأ في الدعوة بالأهم، ثم المهم، فافترض عليهم أول شيء بعد التوحيد الصلاة؛ لعظيم أهميتها، فكان فرض الصلاة متقدمًا قبل بقية أركان الشريعة، يدل على ذلك حديث أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- حيث قالت: “فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي- صلى الله عليه وسلم- ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى” (البخاري).
- مراعاة حال المخاطبين: فمن الناس مَن يكون حي القلب، تام الفطرة، ومنهم من يكون عكس ذلك، وقد قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: “ما أنت بمحدّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة” (مسلم، وفي صحيح البخاري عن علي- رضي الله عنه- قال: “حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟”.
- القدرة: فالتّدرج يكون حسب قدرة المكلّف، والله تعالى قد قيّد التكليف بالقدرة والاستطاعة، والوسع والطاقة، فلا تكلّف نفس إلا وسعها، وقد قرّر الله سبحانه وتعالى ذلك المبدأ في كثير من الآيات، فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
مقاصد إيمانية وتربوية
وقد شرع الله- سبحانه وتعالى- التدرج لحكم عظيمة، ومقاصد جليلة، منها:
- تهيئة النفوس لتقبل التكاليف: فلم تفرض التكاليف كلها مرة واحدة، ولم تفرض بشكلها النهائي دفعة واحدة، بل تدرج بهم شيئًا فشيئًا. قال ابن القيم: “كان فرض الصلاة أولًا ركعتين ركعتين؛ لما كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا معتادين لها، ولا ألفتها طباعهم وعقولهم؛ فرضت عليهم بوصف التخفيف، فلما ذلت بها جوارحهم، وطوّعت بها أنفسهم، واطمأنت إليها قلوبهم، وباشرت نعيمها لذتها وطيبها، وذاقت حلاوة عبودية الله فيها، ولذة مناجاته، زيدت ضعفها، وأقرّت في السفر على الفرض الأول؛ لحاجة المسافر إلى التخفيف، ولمشقة السفر عليه، فتأمل كيف جاء كل حكم في وقته مطابقًا للمصلحة والحكمة! شاهدًا لله بأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، الذي بهرت حكمته العقول والألباب، وبدا على صفحاتها بأن ما خالفها هو الباطل، وأنها هي عين المصلحة والصواب”.
- تسهيل الانقياد للحق: لقد جاء القرآن في بيئة لا تعرف للحق نصرة، وتتخبط في ظلمات الضلال والفساد، ولم يكن إخراجهم من هذه الحياة وهذا الواقع إلى نور الإسلام بالأمر السهل. يقول الأستاذ مصطفى شلبي: “والحكمة في ذلك التّدرج أن هذا النوع من التشريع يكون أقرب إلى القبول والامتثال، خصوصًا مع أولئك العرب الذين كانوا في إباحية مطلقة، تجعلهم ينفرون من التكليف بالجملة”.
- التمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة في النفوس: فكان التّدرّج في تحريم المحرّمات والعادات القبيحة لا سيما العادات المتوارثة على مرّ قرون طويلة مراعاةً لأحوال الناس، ورحمةً بهم، وتيسيرًا عليهم؛ فمثلًا الخمور كانت منتشرة في المجتمع قبل بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم-، حتى صار شرب الخمر في البيئة العربية جزءًا من السلوك الاجتماعي الذي يفاخر به، ويتغنى به الشعراء.
إن التدرج منهج مهم في سياسة النفس حتى تبلغ ذروة الصلاح والتقى، والإنسان لا يزال يترقى في درجات العبودية، ومقامات المجاهدة شيئًا فشيئًا حتى يبلغ درجات الولاية، وكل ذلك بالتدرج وتأهيل النفس بالعبادات الظاهرة والباطنة.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 2/275.
- ابن منظور: لسان العرب 2/267.
- الزحيلي: التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية، ص 27.
- ابن القيم: زاد المعاد 2/29.
- الشربيني: السراج المنير 4/413.
- مناع القطان: تاريخ التشريع الإسلامي، ص 151.
- ابن القيم: مفتاح دار السعادة 2/29.
- مصطفى شلبي: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، ص 75.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 10/340.