إن التدافع من السنن الكونية التي غايتها منع الفساد في الأرض، وإرجاع الأمور إلى نصابها، وإخضاعها لسننها، وذلك بمدافعة أهل الخير وجند الله، لأهل الشر والإفساد في الأرض؛ لتحقيق الصلاح والاستقرار، وهي مستمرة لا تتوقف ما بقي على وجه الأرض عاقل يدعو إلى ما ينفع، وسفيه يدعو إلى ما يضر.
وكما أنّ هذه السُّنة تُحافظ على الدّنيا من الفساد، فإنّها تحافظ- أيضًا- على الدّين والقيم الإنسانية من الانهيار، وهي لفظة تحمل معنى المفاعلة والحِراك بقوّة، إلاّ أنها أبلغ من لفظة “الصّراع” أو “التصادم”، التي تحمل مضمونًا عنفيًّا استئصاليًّا وعدَميًّا، فهي عميقة وموحِية بالتحفيز والتفاعل والتنافس والتنوّع والتعدّدية، بل وحتى بالتعاون والتكامل.
مفهوم التدافع في الإسلام
وبالرّجوع إلى المعاجم اللغوية، نجد أنّ كلمة التدافع عُرفت بأنها “الإزالة بقوة. وتدافعوا الشيء: دفعه كل واحد منهم عن صاحبه. وتدافع القوم: دفع بعضهم بعضا. وفي حديث خالد: أنه دافع الناس يوم مؤتة: أي دفعهم عن موقف الهلاك، وتدفع السيل واندفع: دفع بعضه بعضًا.
وقال الراغب الأصفهاني: “الدفع إذا عدي بـ (إلى) اقتضى معنى الإنالة”، والتّدافع فعل خماسي مزيد على وزن تفاعل، وهو يفيد معنى المشاركة بين اثنين أو أكثر، ولا يكون إلا لازما، نحو: تدافع القوم، أي: اشتركوا في التدافع فيما بينهم.
ومفهوم هذه السُّنة في الاصطلاح يعني أنها ظاهرة كونية إلهية، تنشأ من احتكاك المتدافعين، إما بسبب اختلاف التصورات أو الطباع بدرجات متفاوتة من القوة. وهي تمثل حركة إيجابية تحصل للإنسان أو الحيوان أو غيرهما من مكونات الكون كالكواكب مثلا، وهذه الحركة هي في حقيقتها صورة من الاحتكاك الذي يعدل الأوضاع ويمنع الفساد، ويكون ناتجًا عن تصورات مبنية على أفكار أو معتقدات متباينة إلى حد التناقض كما في الإنسان مما هو داخل في مقدوره.
وهذه السُّنة تتعلق بالتمكين تعلقا وثيقا، ولقد شاء الله- سبحانه وتعالى- أن يجري أمر هذا الدين- بل أمر هذا الكون- على السنن الجارية لا على السنن الخارقة، حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس ويقول: لقد نصر الأولون بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة وانقطاع النبوات.
وتتعلق- أيضًا- بالتمكين والحكم والسلطان تعلقًا وطيدًا، فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا ولا يمكن أن يدع الخير ينمو- مهما يسلك هذا الخير من طرق سليمة موادعة- فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الحظر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة.
سنة التدافع في القرآن والسنة
ووردت سنة التدافع في القرآن الكريم في قول الله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، وهذه الآية تأتي بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، وذّيل الله- سبحانه وتعالى- الآية بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) ليفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس جميعًا.
وقال الله- عز وجل-: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40]، وتأتى هذه الآية بعد إعلان الله تعالى أن يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم- جل وعلا- بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير لقاعدة أساسية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ومن الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله- سبحانه وتعالى- في دفع الناس بعضهم ببعض، لتدرك أن سنة الله في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والتّدافع مسلسل أذن الله ببدئه من يوم أن خلق آدم، وقال له: (يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه: 117]. وما زال الشيطان يكيد لآدم، حتى أُهبط إلى الدنيا، وانتقل ميدان الصراع إلى الأرض: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة: 36] يعني: آدم وذريته أعداء لإبليس وذريته.
إذًا، أنشودة التّعايش السلمي العام في الأرض باطلة، بحسب السنن الإلهية، والآيات والأدلة الشرعية، فهي غير ممكنة، ومستحيلة، والترويج لها يُراد منه تخلي المؤمنين عن الحق، وإبعادهم عن المواجهة، وتنازلهم عن حقوقهم ودينهم ومقدساتهم، وحصول الموالاة الكاملة للكفار، والله- تعالى- قال لنا في حقيقتهم: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران: 118]، وقال الله فيهم- أيضًا-: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة: 10].
وقد أشار النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى هذه السنة، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ. غيرَ أنَّ في حَديثِ عبدِ الرَّزّاقِ، مَكانَ قَوْلِهِ: تُمِيلُهُ، تُفِيئُهُ” (مسلم).
وعندما لم يدرك بعض الصحابة هذه السُّنة، ظنوا أنّ التواجد ضمن دائرة أهل الحق كافٍ لتحقيق النصر، وهو المفهوم الذي جعل بعضهم يستعجل الغلبة والانتصار على خصوم الرسالة الخاتمة، فعن خباب بن الأرت قال: “شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” (البخاري).
وتدل إجابة النبي- صلى الله عليه وسلم- على أنّ أفضل علاج لظاهرة الاستعجال أو اليأس بين المسلمين هي تعليمهم حقيقة سُنة التّدافع، التي تستوجب الطمأنينة النفسية، وتبعث على العمل؛ لأنّ المسلم الذي يُدرك أن الدنيا هي أصلا محل للابتلاءات، يتوجه فكره إلى العمل على التغير ذاتيًا نحو الأحسن، وتبنّي فكر إيجابي يثمر أفعالًا نافعة، ويبعثه بعد ذلك على الاجتهاد لأجل إصلاح الواقع والتصدي له، وَفق السُّنن الكونية، وأُفقه الأعلى لا يقف عند الحياة الدنيا، بل يتواصل مع عالم الغيب.
ما مقاصد التّدافع في الإسلام؟
وللقيام بسنة التدافع والتفاعل معها طبقًا لمراد الله تعالى، مقاصدَ تتحقق بذلك، ومن أهمها:
المقصد الأول: امتثال أمر الله تعالى، فالقيام بهذه السُّنة والتفاعل معها ليس نافلة ولا خيارًا يختار الإنسان بينه وبين غيره، وإنما هو واجب حتمي لا مفر منه وإلا فالاستبدال هو الفعل الإلهي المترتب على إهمال هذه السنة طبقًا لسنن الله في الحياة والأحياء.
والآيات القرآنية التي تأمر بالجهاد والإعداد والقتال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي واجبات شرعية لا يسع المسلم إلا امتثالها، يقول “السعدي” عن إعداد كل ما يمكن إعداده: (أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير”.
المقصد الثاني: امتثال أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فإذا كان القرآن الكريم بيّن أن التّدافع أساس كوني وخَلقي وتشريعي فإن السنة النبوية- وهي الشارحة والمبينة للقرآن الكريم– لا تخرج عن ذلك أيضًا؛ فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: (أَوَّلُ مَن بَدَأَ بالخُطْبَةِ يَومَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوانُ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فقالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ، فقالَ: قدْ تُرِكَ ما هُنالِكَ، فقالَ أبو سَعِيدٍ: أمّا هذا فقَدْ قَضى ما عليه سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- يقولُ: مَن رَأى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ” (مسلم).
وورد عن عن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَثَلُ القائِمِ على حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا على مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا على أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا” (البخاري).
المقصد الثالث: حفظ الأرض من الفساد، وهذا المقصد واضح كل الوضوح؛ لأنه منصوص عليه في الآية الكريمة من سورة البقرة التي نصتْ على هذه السنة بشكل مباشر، قال تعالى: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡض لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ) [البقرة: 251]. والفساد هنا متمثل في معنين باستقراء لكلام المفسرين: المعنى الأول هو الانحراف الذي يحدث إذا تمكن أهل الفساد والكفر في الأرض، كما يصدقه التاريخ والواقع، والمعنى الآخر هو نزول الغضب الإلهي والإهلاك والعقاب إذا لم يقم أهل الحق بمقتضيات التدافع.
وقال الزمخشري: “ولولا أن اللَّه يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن اللَّه ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض”.
إنّ دراسة سنة التدافع تزداد أهمية، لما في إيضاح جوانبها من إذكاءٍ لروحٍ التفاؤل في نفوس المؤمنين، وحثّهم على السعي الجاد والكد المتواصل لبلوغ الغايات الحميدة والمنازل العالية في الدنيا والآخرة باستعادة دورهم في الريادة، مع ما في إيضاح هذه السنة من تجلية لصورة العلاقة بين المسلمين وأعدائهم، هذه الصورة التي نالها من التشويش والتعتيم على أيدي البعض، ما تسبب في إيقاع كثير من عوام المسلمين في الخلط بين العدو والصديق والناصح والكائد.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 5/274.
- الفيروز أبادي: القاموس المحيط 3/27.
- الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 316.
- ابن هشام: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك 3/236.
- السيوطي: همع الهوامع شرح جمع الجوامع 3/267.
- عطية فتحي الويشي: حوار الحضارات، ص 86.
- سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، ص 377.
- محمد صالح المنجد: سنة التدافع والتمكين.
- محمد قطب: واقعنا المعاصر، ص 414.
- سيد قطب: في ظلال القرآن 3/742.
- الزمخشري: الكشاف 1/477.