يتصوّر البعض خطأ أنّ التخطيط الاسترتيجي وَليد الحضارة الحديثة، لكنه في الحقيقة مَعْلَم بارز ومرتكز أساسي انطلقت من خلاله حضارة الإسلام ودعوته، حيث أرشدت آيات كثيرة في القرآن الكريم إلى أهمية تربية الأجيال المسلمة عليه في كل المجالات، ومن ذلك قول الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْناَ مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا) [المائدة:48]، أي سبيلًا وسُنّة وطريقًا واضحة سهلة لبلوغ الغايات، وقال تعالى: (وأَعِدُّوا لَهُمْ مِا اسْتِطعْتُم مِنْ قُوِّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيلْ) [الأنفال:60]، وهي دعوة للقيادة الإداريّة التربويّة بالتخطيط والاستعداد لمواجهة أمر مستقبلي قد يحدث لدار الإسلام وأمنه.
وبرز مفهوم هذا التخطيط- أيضًا- في أحاديث عديدة، منها الذي أخرجه البخاري عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم- رضي الله عنهما-، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:”… والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها…”، ولا ننسى إسناد النبي النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر المبيت في فراشه إلى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- حيث أعطاه بردته ليضعها عليه، وكانت هذه إحدى الخطوات الإستراتيجية في الهجرة.
التخطيط الاستراتيجي في نشر العلم
وعن طريق استقراء مصادر التربية الإسلامية، تتجلى العديد من المبادئ الأساسية التي قام عليها التخطيط الاستراتيجي والتي تتمثل في الآتي:
- القيادة القدوة.
- الإخلاص في العمل.
- الصدق في القول والعمل بين الرئيس والمرؤوسين.
- الشورى في التخطيط.
- التعامل العادل بين جميع المرؤوسين.
- التنظيم والتدرج في العمل.
- القدرة على تحمل المسؤولية.
- التخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال التعليمي
إن الأمة الإسلامية منذ شروق شمسها وضع لها المربي الأول- صلى الله عليه وسلم- تخطيطًا استراتيجيًّا تربويًّا، يُبين أهمية العلم وفضله، وطريقة الحصول عليه، والهدف منه، والحوافز المشجعة للوصول إلى درجة العلماء، كل ذلك تشرحه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
وأشارت بعض الأحاديث إلى حكم طلب العلم فقال- صلى الله عليه وسلم-: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” (ابن ماجه)، وهذه هي المرحلة الأولى التي تضع الخط العريض بشأن أهمية العلم، ثم هناك أحاديث تُوضّح الكيفية التي يكتسب بها المسلم العلم الصحيح.
أما المرحلة الثانية فهي جمع البيانات، وتوضح كيف علّم النبي- صلى الله عليه وسلم- الصحابة جمع المعلومات والتأكد من صحتها، وتحمل المشقة للحصول على المعرفة، وفضل طالب العلم وأجره.
والمرحلة الثالثة هي التنفيذ، ويتجلى فيها تعليم الناس وترغيبهم في العلم، والترحيب بمَن يُريد أن يتعلم، وبيان أهمية العلم ومنزلة العلماء، وكانت على خطوات:
- الترغيب في تعليم الناس: قال- صلى الله عليه وسلم-: “سيأتيكُم أقوامٌ يطلبونَ العِلمَ فإذا رأيتُموهم فقولوا لَهُم: مَرحبًا مَرحبًا بوصيَّةِ رسولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، واقْنوهُم، قلتُ للحَكَمِ: ما اقْنوهُم؟ قالَ: علِّموهُم”، (ابن ماجه)، ونشر العلم قولًا وعملًا، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يطلق سراح الأسرى المتعلمين من الكفار إذا علموا بعض المسلمين القراءة والكتابة.
- ثم أخذ العلم من أهله؛ قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
- وتدريب الكوادر البشرية على حب العلم، وتوضيح الحوافز لترغيب الناس على طلب العلم، فعن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصفة، فقال: “أيُّكُم يُحبُّ أن يغدوَ كلَّ يومٍ إلى (بُطْحانَ) أو إلى (العقيقِ) فيأتيَ منهُ بناقتَينِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ، بغيرِ إثمٍ باللهِ عزَّ وجلَّ، ولا قطْعِ رحِمٍ. قالوا: كلُّنا يا رسولَ اللهِ. قال: فلأن يغدُوَ أحدُكُم كلَّ يومٍ إلى المسجدِ فيعلمَ آيتَينِ مِن كتابِ اللهِ، خيرٌ لهُ مِن ناقتَينِ، وإنْ ثلاثٌ فثلاثٌ مثلُ أعدَادِهنَّ” (مسلم).
- اتباع السلف الصالح لتخطيط النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-؛ آخذين في الاعتبار الخطوط الواضحة لنشر العلم، فكانوا يتواصون بذلك. كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي- صلى الله عليه وسلم-، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا (البخاري).
- انتشار مراكز العلم في أقطار البلاد، قاصيها ودانيها، وتنافس الأقطار في مراقي الخير، وجليل المؤلفات خلال زمن يسير في جميع البلاد، فالإسلام هو منهج العلم والمعرفة، قال- صلى الله عليه وسلم-: “ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، يتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” (مسلم).
- وضع جزاء لمن يُخفي العلم، وبيان أن من كتم علمًا أو حجزه على نفسه أو على فئة معينة من الناس فإن الله وعده بعقاب شديد، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159- 160).
- وإخلاص النية لله في العلم، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “من تعلَّمَ عِلمًا يبتغى – يعني به وجهَ اللهِ – لا يتعلَّمُه إلا ليُصيبَ به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنةِ يومَ القيامةِ – يعني ريحَها” (أبو داود وابن ماجه وأحمد).
- وترشيح أهل العلم وتقديمهم على غيرهم في المناصب، لأن العلم النافع لا تقتصر منفعته على مثوبة الله وعلو منزلته الأخروية فقط، بل يعز صاحبه، ويرفع درجته في الدنيا- أيضًا- فقد لقي عمر بن الخطاب نافع بن عبد الحارث بعسقان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال عمر: من استعملتَ على أهلِ الوادي؟ فقال: ابنَ أبْزَى. قال: ومنِ ابنُ أبْزَى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟ قال: إنه قارئٌ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وإنه عالمٌ بالفرائضِ. قال عمرُ: أما إنَّ نبيَّكم- صلى الله عليه وسلم- قد قال: “إنَّ اللهَ يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرِينَ” (مسلم).
- احترام العلماء وتقديرهم، حيث جعل الإمامة فيمن هم أكثر علمًا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة…”.
- والحرص على تعليم الصغار والاهتمام بهم، ومَن نشأ على حب العلم أخذ منزلته بين الكبار ومكانته عند أهل العلم، فالمرء يقدر بعلمه.
- تعلم العلوم وفهمها لا يقتصر على فئة عمرية، أو على رجال دون النساء، بل شمل الجميع على حد سواء، فقد طالب النساء النبي- صلى الله عليه وسلم- بتخصيص وقت لهن للتعليم، كما جاء في الحديث: قالتْ النساءُ للنبيِّ- صلى الله عليه وسلم-: غَلبَنا عليك الرجالُ، فاجعل لنا يومًا من نفسكَ، فوَعَدَهُنَّ يومًا لقيَهُنَّ فيهِ، فوعَظَهُنَّ وأمرَهُنَّ، فكان فيما قال لهُنَّ: ما مِنكُنَّ امرأةٌ تُقَدِّمُ ثلاثَةً مِن ولَدِها، إلا كان لها حجابًا من النارِ. فقالتْ امرأةٌ: واثنينِ؟ فقال: واثنينِ” (البخاري).
- وتعلم اللغات، فهي بداية لمعرفة ما عند الآخرين من علم؛ لذا طلب- صلى الله عليه وسلم- من زيد أن يتعلم لغة اليهود، عن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتعلمت له كتاب يهود وقال: “إني والله ما آمن من يهود على كتابي”، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كُتب إليه.
- توطيد العلاقة بين المعلم والمتعلم، حتى يُقبل المتعلم على التعليم بنفس راضية وعقل متفتح، فقد كان المربي الأول- صلى الله عليه وسلم- يتعهد الصحابة بالموعظة والنصح والتذكير، يقول ابن مسعود: كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا، وكان ابن مسعود يقول: إن للقلوب لنشاطًا وإقبالًا، كما لها توليةً وإدبارًا، فحدثوا الناس ما أقبلوا عليكم.
- ثم تأتي المرحلة الرابعة، وهي مرحلة التنبؤ بالمستقبل ووضع البدائل واتخاذ الإجراءات الوقائية؛ فقد بيّن- صلى الله عليه وسلم- للمسلمين أنه سوف يأتي زمان يكثر فيه الزيف والضلال، وعلى الناس تجنب العلم الذي لا يتوافق مع الشريعة، وهذا ما نلمسه اليوم في واقعنا المعاش، حيث تضخمت المعرفة وتضاعفت، ولكن اعتراها الكثير من التضليل والانحراف عن الحق.
التخطيط التربوي في المجال الاقتصادي
ويقوم التخطيط الاستراتيجي دائمًا على الدراسة للأوضاع، وجمع البيانات، والتأكد من صحتها، ثم وضع التخطيط المناسب لها، وهذا الأمر جاء في القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال، وضع سبحانه وتعالى قواعد الميراث، فقال تعالي: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ولِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7) وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُوْلُوا القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النساء: 7-8]، وذلك نظرًا للمسؤوليات التي تقع على كاهل الرجل وأهمها النفقة.
واهتم القائد العظيم محمد- صلى الله عليه وسلم- بالتخطيط في المجال الاقتصادي عندما حلّ في المدينة، وأخذ يدرس أوضاعها، فمن ضمن ما رأى: أن الناحية الاقتصادية بيد اليهود، وأنهم يملكون السوق التجارية في المدينة وأموالها، ويتلاعبون بالأسعار، ويتحكمون في السلع ويحتكرونها، ويستغلون حاجة الناس فيرابون عليهم أضعافًا مضاعفة، وبما أن اقتصاد الدولة يؤثر في جميع الجوانب: تربوية، واقتصادية، واجتماعية، وصحية…؛ لذلك رأى- صلى الله عليه وسلم- ضرورة عمل تخطيط فعلي تطبيقي، فأمر- صلى الله عليه وسلم- ببناء سوق للمسلمين منظمة وبسرعة، وأصبح الناس يقبلون على سوق المسلمين.
فكان التخطيط التربوي في المجال الاقتصادي في مراحل متدرجة كالتالي:
المرحلة الأولى: هي المرحلة التخطيطية في البيع بين الطرفين البائع والمشتري؛ حيث وضعت القاعدة العريضة، وهي السماحة بين الطرفين، قال- صلى الله عليه وسلم-: “رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى” (البخاري).
وتتحقق السماحة في البيع إذا تحقق منع الحلف الكاذب في البيع قال- صلى الله عليه وسلم-: “الحلِفُ مُنفِّقَةٌ للسلعةِ، مُمحِقَةٌ للبركةِ” (البخاري ومسلم). يجوز لكل من المتبايعين الخَيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا، قال النبي- صلى الله وسلم-: “البَيِّعَانِ بالخيارِ ما لم يتفرَّقَا، أو قال: حتى يتفرَّقَا، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَتَمَا وكَذَّبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيَعْهِمَا”.
ونهى الإسلام عن بيع الرجل على بيع أخيه، قال- صلى الله عليه وسلم-: “لا يبيعُ بعضُكم على بيعِ بعضٍ…” (البخاري ومسلم).
تحريم الربا بأنواعه قال تعالي: {وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والترغيب في العمل، فقد كان القائد- صلى الله عليه وسلم- يشجع أصحابه على العمل، قال- صلى الله عليه وسلم-: “لأَن يغدُوَ أحدُكم فيحطبُ على ظهرِه، فيتصدَّقُ به ويستغْني به من الناسِ، خيرٌ له من أن يسألَ رجلًا، أعطاه أو منَعه ذلك. فإنَّ اليدَ العُليا أفضلُ من اليدِ السُّفْلى. وابدأْ بمن تعولُ” (الخاري والترمذي).
والمرحلة الثانية: هي المرحلة التنفيذية، فالقائد يشرف بنفسه بين الحين والحين؛ ليتفقد الأمور، ويعالجها قبل تفاقمها، وينفذ ويطبق ما يراه مناسبًا، وكانت المرحلة الأولى: وهي معرفة المشكلة الاقتصادية التي تواجه البلاد، ثم المرحلة الثانية وهي: اتخاذ القرار بتطبيق النظام الإسلاميّ الذي ينظم سير الحياة الاقتصادية بما يضمن جميع حقوق الأفراد، ثم المرحلة الثالثة: وهي الممارسة والتنفيذ ومباشرة العمل، ثم المرحلة الرابعة: وهي التنبؤ والتخطيط المستقبلي المبني على البيانات، ووضع البدائل المتوقعة، والعلاج المناسب للوصول لغاية منشودة.
التخطيط التربوي في المجال الاجتماعي
لقد تجلّت عظمة الإسلام في تشريعاته وأخلاقياته ومعاملاته حتى مع غير المسلمين، وتجسد تأثير الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تربيته لأصحابه، وخاضوا نقله عالمية، نقلت العالم من ظلام الجهل إلى نور الإيمان، وحملوا لواء الاستقامة، وشاع نور دولة إسلامية، بدلًا من ظلام الوثنية، فقد جاء الإسلام بأعظم عقيدة توازن بين الفرد والجماعة؛ إذ جعل التكافل الاجتماعي يُبنَى على أساس الأخوة الإسلامية.
وهو طراز فريد من التعاطف الإنساني، وله أثره في القضاء على العنصرية الطبقية، وقد حقق الإسلام صهر جميع أفراد المجتمع في بوتقة واحدة؛ بالرغم من تباين أصولهم، واختلاف جنسياتهم وثقافاتهم، ويتضح ذلك جليًّا عندما هاجر المسلمون إلى المدينة فرارًا بدينهم، تاركين وراءهم أموالهم وديارهم، فكانوا بحاجة ماسة إلى المساعدة، فكانت المرحلة الأولى من التخطيط الاستراتيجي الذي وضعة القائد العظيم محمد- صلى الله عليه وسلم-.
المرحلة الأولى: أن يتآخى المهاجرون مع الأنصار، كل رجل أنصاري يكون له أخ من المهاجرين، وهذا الأمر أسس أجمل وأروع تكافل اجتماعي في تاريخ البشرية، تأكدت فيه العلاقات الاجتماعية الإسلامية، ومعنى الأخوة الصادقة، وله أبعاد متعددة منها: الجانب الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي.
أما المرحلة الثانية: فقد كانت تنظيمية؛ أي تحتاج إلى رؤية شمولية للمجتمع، حيث كان يعيش في المدينة عدد من القبائل المتفرقة “الأوس، والخزرج، وقبائل اليهود المختلفة”، فالبلاد تحتاج إلى تخطيط استراتيجي لإدارة شؤونها الداخلية والخارجية؛ لأنها تتكون من طوائف متعددة تحتاج إلى من ينظمها، فأرسل الرسول- صلى الله عليه وسلم- لكل قبيلة كتابًا حدد فيه علاقة المسلمين بغيرهم من اليهود والمشركين، وأوضح فيه واجبات وحقوق كل من المسلمين وغيرهم.
وجاءت المرحلة الثالثة تنفيذية؛ حيث اهتم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بتطبيق الأنظمة التي وضعها، فجعل المسلمين أمة واحدة؛ رغم تعدد القبائل، واعتبر كل قبيلة من قبائل اليهود لا علاقة لها بالأخرى، ووضع عليهم عقوبات لمن ينقض العهد، فلا تؤخذ قبيلة بجريرة الأخرى حتى لا يجتمعون على حرب الرسول- صلى الله عليه وسلم-.
ثم المرحلة الرابعة وهي التقويم والمتابعة؛ أي متابعة العلاقات بين المسلمين، وتعزيز السلوكيات الإيجابية في المجتمع؛ فتواجد الناس في المجتمع الإسلامي ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة للتعارف والتآزر، ولمساعدة الفرد على معرفة الله وتقواه، ومساندته في مقتضيات الحياة بما يرضى الله، قال تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وحرص الخالق على استمرار العلاقات الاجتماعية بين عباده، فجعل لهم مكانة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، قال- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ من عباد اللهِ لأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شُهداءَ، يغبِطُهم الأنبياءُ والشهداءُ يومَ القيامةِ بمكانهم من اللهِ قالوا: يا رسولَ اللهِ! فخَبِّرْنا من هم؟ قال: هم قومٌ تحابّوا بروحِ اللهِ على غيرِ أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطونها فواللهِ إنَّ وجوهَهم لَنورٌ، وإنهم لعلى نورٍ، ولا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناسُ. وقرأ هذه الآيةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}”.
وقد جاءت المرحلة الخامسة بوضوح النتائج؛ فأوضح النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- مآل مَن يتبع خطوات الشيطان، وجعل حوافز لتعزيز العلاقات الاجتماعية؛ حرصًا على استمراريتها بطريقة صحيحة، تزيد من ترابط الأمة الإسلامية؛ لتكون أفضل أمة على أرض الواقع، فهذه المرتبة العالية التي ينالها المسلم بأخوة الدين، تجعله يتمسك ويحرص عليها، لما لها من فضل ومكانة عند الخالق- صلى الله عليه وسلم-، فأخوة الدين أثبت وأقوى من أخوة النسب؛ لأن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب.
والآية تؤكد ذلك، قال تعالي: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]. فبهذه الأخوة الإيمانية استطاع المنهج الرباني أن يقرب بين النفوس، ويؤلف بين القلوب، وهذا ما أذهل العالم حين فؤجي بهذه الأمة الواحدة، التي تجمعت من أخلاط من الناس، كانوا أعداء، وبعد الإسلام أصبحوا إخوة يسعون معًا إلى توطيد دعائم المجتمع، وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين.
المصادر والمراجع:
- التخطيط الإستراتيجي من منظور إسلامي. د شدى بنت إبراهيم فرج. جامعة أم القرى- كلية التربية – المجلة التربوية – العدد التاسع والعشرون-يناير 2011.
- التأصيل الإسلامي للتخطيط الإستراتيجي التربوي. د. فاطمة سالم عبد الله باجابر. كلية التربية- جامعة أم القرى.
- دليل التخطيط الإستراتيجي للقيادات الشبابية. إعداد: لبيب شائف محمد إسماعيل. مؤسسة التنمية الشبابية- اليمن. 2013.