لقد رفع الله – عز وجل- بعض الناس على بعضٍ كجزء من الاختبار والابتلاء الذي يمرّ به أبناء آدم – عليه السلام-، لكن هناك نفوس تهوى التجريح والتقليل من شأن الآخرين وتحقيرهم بل وإيذائهم، وهو ما أحزن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- جرّاء ما كان يُقال في حقّه فذكّره ربه أنه يعلم ما يقولون: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدْرُكَ بمَا يَقُولُون}.
وهي دلالة قوية على مدى تأثير هذا الأمر على نفوس البشر عامة، ومدى أثره الخطير على العلاقات بين الناس جميعًا، لذا أعلى الإسلام من شأن حُسن الخلق وعدم ازدراء الآخرين باللفظ أو الفعل، فالمسلم مَن سَلِم المسلمين من لسانه ويده.
وربما يكون عَرَض مرضي أو متأصل قد يصيب الإنسان لأسباب عدة، سواء كان حقدًا ناجمًا عن نجاح الغير، أو ضعف في شخصية المسيء أو خلل في التربية.
مفهوم التجريح
أخذ مفهوم التجريح والتقليل من شأن الآخرين معانٍ كثيرة لِمَا يحمله من صفات ذميمة لا تتوافق مع السمات الإنسانية التي جبل الله عليها الخلق، ومن هذه المعاني الإذلال أو التقليل أو الازدراء أو التحقير وهي الكلمة التي تعدت جذورها في اللغة العربية ومنها” اِحْتَقَرَ – اِسْتَحْقَرَ – حَقَّرَ – حَقَارَة – اِحْتِقَار – اِسْتِحْقَار- مُحْتَقِر – مُحَقِّر – مُسْتَحْقِر – مُحْتَقَر – مُحَقَّر – أَحْقَر – حُقَرَاء – حَقِير – اِحْتِقَارِيّ – تَحْقِيرِيّ) (1).
والتحقير أو الازدراء كلمة أو صيغة نحوية تُعبّر عن دلالة سلبية أو رأي مُحِط من قدر شخص أو شيء، وتدل على عدم احترام لشخص أو شيء. وأحيانا يُعد مصطلح ما ازدراءً في بعض المجموعات الاجتماعية أو العرقية دون غيرها.
ويُعرّفه الإمام أبو حامد الغزالي بأنه “السخرية والاستهانة والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في القول والفعل، وقد يكون بالإشارة والإيماء، كما يُعرّفه ابن عاشور بأنه: “كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة، بالباطل أو بالحق” (2).
خطورة التجريح في المنظور الإسلامي
حثّنا الإسلام على عدم التجريح أو التحقير من أحد أو التقليل من شأن الغير، كما أمرنا بعدم التقليل حتى ولو من معروف صغير، فقال – صلى الله عليه وسلم- :”لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا” (صحيح مسلم).
ولقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تضع الأُطر الاجتماعية والأخلاقية لسلوكيات الناس عامة والمؤمنين خاصة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} [الحجرات:11].
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة:1]، وقال – جل وعلا- مُعنفًا فِعل المجرمين وتصرفاتهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ*وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ*وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ*وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29-33].
وقال تعالى عن حال المستهزئين في الآخرة: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]. بل جاء الأمر المباشر من الله بعدم سبّ الغير، حتى لا يسبوا الله فقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].
وعن النبي – صلى الله عليه وسلم- : “بحسب امرئ من الشر أن يُحقّر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه” (صحيح مسلم).
وحينما عابت السيدة عائشة يَد السيدة صفية أمام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لها: ” لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، قالت: وحكيت له إنسانًا. فقال: ما أحب أني حكيت إنسانًا وأنَّ لي كذا وكذا” (أبو داود) (3).
مواقف من سيرة الصحابة
ورغم أنّ صحابة رسول الله قد عاشوا في خير القرون، فإن نوازعهم البشرية كانت تطغى عليهم أحيانًا، لكنهم كانوا يعودون إلى الله سريعًا. فهذه أم المؤمنين عائشة تغار من خديجة (زوج رسول الله الراحلة) فتقول: “اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لذلكَ، فَقالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ. قالَتْ: فَغِرْتُ، فَقُلتُ: ما تَذْكُرُ مِن عَجُوزٍ مِن عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ في الدَّهْرِ، قدْ أبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا منها” (البخاري).
وهذا أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه- الذي وقع في ذنب التجريح والتقليل من شأن الغير، حيث روى المعرور بن سويد: مَرَرْنَا بأَبِي ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ وَعليه بُرْدٌ وعلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يا أَبَا ذَرٍّ لو جَمَعْتَ بيْنَهُما كَانَتْ حُلَّةً، فَقالَ: إنَّه كانَ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ مِن إخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَشَكَانِي إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَقِيتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، مَن سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قالَ: يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فأطْعِمُوهُمْ ممَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ ممَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ” (صحيح مسلم).
ولمّا انْكَشَفَتْ ساقُ عبدِ اللهِ بنَ مسعودٍ، وكانت دقيقةً هزيلةً؛ ضَحِكَ منها بعضُ الحاضِرِينَ. فقال النبيُّ: “أَتَضْحَكُونَ من دِقَّةِ ساقَيْهِ! والذي نفسي بيدِه لَهُمَا أَثْقَلُ في الميزانِ من جَبَلِ أُحُدٍ” (حسن).
أسباب تحقير الآخرين
شاع بين كثيرين في هذا الزمان خُلُقُ التجريح وتحقير الآخرين، والانتقاص منهم، والاستعلاء عليهم، والخوض في أعراضهم، برغم أنّ ذلك ظلمات فوق ظلمات، وحُرمات فوق حُرمات، ويعود سبب ذلك إلى:
- الغيرة والحقد: فقد يكون سبب الاحتقار والتقليل من شأن الآخرين غيرة وحقد.
- نرجسية نفسية: فالبعض يشعر بالمتعة في إيذاء الآخرين أو التقليل منهم أو إهانتهم أو الافتخار عليهم والتكبر أو ازدراء طائفة أو دين.
- ضعف الوازع الإيماني والتربوي الذي لا يُشعر المستهزئ بألم الآخرين.
- الكِبر الذي يلازمه بطر الحق وغمط الناس، والرغبة في تحطيم مكانة الآخرين.
- فوبيا البعض: حيث يخشى من كل المحيطين به – وبخاصة في الغرب فيما يعرف بالإسلاموفوبيا- فيجعلهم يحتقرون الآخرين لمجرد لونهم أو عرقهم أو دينهم أو مستواهم الاجتماعي.
- الإحباط الذي يُصيب البعض من عدم نجاحاته أو فشله وعدم مثابرته، فيلجأ إلى التقليل من شأن الناجحين، ويبحث عن هفواتهم ويُضخمها (4).
آثار التقليل من شأن الآخرين
إنّ التجريح واحتقار الآخرين والسخرية منهم له آثار تنعكس على الفرد والمجتمع، ومنها:
- قطع الروابط الاجتماعية وأواصر المودة التي تجمع بين الناس، وإحلال العداوة والبغضاء مكانها.
- يُورث الحقد والضغينة ويبذر بذور الفرقة ويولد الرغبة في الانتقام.
- احتقار الناس لصاحب هذا الخُلُق والنظر إليه بشزر واحتقار بسبب سلوكه المشين الذي لا يتوافق مع معاني الأخلاق.
- موت القلب وانعدم الخُلُق وغضب الله ومحو الحسنات يوم القيامة ثمّ يكون مصيره النار، بالإضافة إلى أنها تفقد الساخر الوقار، وتسقط عنه المروءة.
- التقليل من شأن الآخرين والسخرية تُعد من سمات الكفار والمنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم.
- الكِبر وبطر الحق وعدم الاستجابة له، لأنه يرى نفسه أفضل من الآخرين (5).
صور من احتقار الآخرين
والتحقير أو التجريح يأخذ صورًا وأشكالًا متعددة، ومنها:
- الاستهزاء بأهل الفضل والخير من المؤمنين والمؤمنات، الذي يصدر عن قلوب مريضة وصفها الله بقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة:212]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
- السخرية من الناس لعيب في خِلقتِهم وصورتهم سواء لضعف في قوتهم، أو تشوه في صورتهم، أو إعاقة في حركاتهم. وقال إبراهيم النخعي: “إني لأرى الشيء أكرهه؛ فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله”.
- الاستهزاء بالمقصّرين المذنبين من المسلمين، حيث يُقلل البعض من شأن عبادتهم وطاعتهم ويرى نفسه يؤدي العبادات أفضل منهم وهو بذلك على خطر عظيم، قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32](6).
أُطُر تربوية
حثّ الإسلام على احترام آراء الناس وأديانهم وعدم التجريح أو إكراه أحد على الدخول في دين معين، كما حثّ على عدم التعدي على أموالهم وأرواحهم، فقال – صلى الله عليه وسلم- : “ألا وإِنَّ دِماءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ عليكُمْ حرامٌ كَحُرْمَةِ يومِكُمْ هذا”.
ويجب احترام أقوالهم وأفعالهم ولا يستهزأ بهم، فالمؤمن ليس صاحب خُلُق سيء يظهر في أفعاله ومعاملته من الغير، ولا بُد من توقير كبيرهم ورحمة صغيرهم، وإلقاء السلام عليهم (7).
ووضع الإسلام أطرًا تربوية ونظامًا للعلاقة بين الجميع، حتى تستمر ديمومة الحياة على الحب والتعاون لا على التجريح والاحتقار، ومن هذه الأطر:
- الدعاء بظهر الغيب لأخيك كما تُحب له ما تحبه لنفسه.
- قضاء حوائج الناس فإنها تُهذب الأخلاق وتُقوّي أواصر وروابط المودة والأخوة بين الجميع.
- تفقد أحوال الناس وزيارة مريضهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم وهى أمور تُذيب الفوارق بين الناس وتُشعرهم أنهم واحد.
- محبة الخير للغير؛ فالجدير بالمسلم أن يُحب لأخيه المسلم إصابته بالخير والفضل.
- عدم التحاسد، أو التباغض، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال النبي – صلّى الله عليه وسلّم-: “لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ” (صحيح مسلم).
- نشر العدل وإقامته بين الناس والحرص على معاقبة المستهزئين وتجنب الجميع لهم (8).
المصادر
- كلمة تحقير: المعجم المعاصر،
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 2004، صـ192.
- ذمُّ السخرية والاستهزاء والنهي عنهما في القرآن والسنة:
- أسباب السخرية والاستهزاء:
- آثار السخرية:
- أحمد عماري: تحذير العباد من داء السخرية والاستهزاء، 12 مايو 2016،
- عبدالكريم بكار: احترام الآخرين، 18 يونيو 2017،
- راشد بن حسين العبد الكريم: الدروس اليومية من السنن والأحكام الشرعية (طـ 4)، السعودية: دار الصميعي، 2010، صـ75.