شرع الله-عز وجل- العبادات التي تنوعت بين البدنيّة الفعليّة أو القوليّة الظاهرة، أو القلبيّة الباطنة مثل التأمل أو التفكر، ومُراد ذلك التنوّع أن يظلّ الإنسان في شوقٍ ورغبةٍ للتعبّد لله- سبحانه وتعالى-، فلا يملّ من العبادة إذا كانت على نسَقٍ ونوعٍ واحدٍ.
والتّفكر في خلق الله- عزّ وجلّ- وعظمته وقدرته، عبادة قلبيّة صامتة، تحدث في باطن الإنسان ولا تظهر على أفعاله أو أقواله، فلا يستخدم بها لسانه ولا يده ولا جوارحه، وفي القرآن الكريم آيات يمتدح الله-تبارك وتعالى- بها من أحيا عبادة التفكّر في قلبه، قال الله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].
مفهوم التأمل
اختلف مفهوم التأمل ومدى مشروعيته، لكنه يُعبّر عن حالة تعمل على تهدئة واسترخاء العقل من أجل مد الجسم بالراحة والطمأنينة اللازمة، ويمارسها البعض من أجل أهداف دينية أو روحانية(1).
ولقد حصر البعض هذه العبادة في كونها رياضة تساعد على تخفيف الضغط النفسي والجسدي، بل اعتبرها فريق آخر أنها مجرد نوع من الطب التكميلي للعقل والجسم، ويُمكن للتأمل خلق حالة عميقة من الاسترخاء والشعور بالطمأنينة (2).
غير أنّ الإسلام يضع حدودًا للتأمُّل والتّفكر ومدى توافق ذلك مع العقيدة الإسلامية، فحكم التَّأمُّل كحكم التّفكر، منه المحمود ومنه المذموم، وذلك على حسب الأمر المتأمل فيه، وما يُؤدي إليه.
يقول ابن القيم الجوزية: فالفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة، ومثال ذلك إذا أحضر في قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها وما يقترن به من الآفات وانقطاعه وزواله، ثم أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفضله على نعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين أثمر له ذلك علما ثالثا وهو أن الآخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولى عند كل عاقل بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة(3).
التأمل في المنظور الإسلامي
التأمل مرادف التفكر والتدبر والتعقل والنظر في المنظور الإسلامي، وهي القيمة التي اعتنى بها الإسلام وحثّ أنصاره على اللجوء إليها للتعرف إلى قدرة وعظمة الخالق- سبحانه وتعالى- فيرتقي بإيمانه.
وحينما نتدبر مادة التفكر في القرآن الكريم تستوقفنا عدة ملاحظات مهمة تشير إلى احتفاء الكتاب المُعجِز بهذه الخصيصة، التي تميز الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات، فالقرآن جعل التفكر من صفات أولي الألباب، وجاءت الآيات كثيرة تحض على هذه القيمة، وهذا العلاج النفسي الرباني، ومنها:
- قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
- وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12]، ما يؤكد أن احتفاء القرآن بالتفكر ليس احتفاءً عارضًا، وإنما هو موقف أصيل ومتنوع التعبيرات.
- بل إن القرآن الكريم دعا المسلم إلى التفكر في خلقه وتكوين جسده، وكيف يعمل بدقة متناهية دون كلل أو تعب، وهو المعنى الذي قال فيه الحق- سبحانه وتعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
- وقال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20](4).
لماذا اهتم الإسلام بالتفكر؟
التفكر والتدبر في آيات الله من العبادات التي دعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية والسلف الصالح، إذ إنها من أولى العبادات الموصلة إلى الارتقاء بالمستوى الإيماني للمسلم، ورغم ذلك هجرها الكثيرون ما سبب خللا في نظرتهم للإسلام، وأصبحوا يهتمون بأمور هي دون عبادة التفكر في الاعتبار الشرعي والفائدة المرجوة.
ولقد اهتم الدين الإسلامي بهذه العبادة كونها تُمارس بالقلب وتشترك فيها العين والعقل، يقول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}[العنكبوت:20].
ويعد التأمل هو مفتاح الوصول إلى معرفة الله تعالى والإيمان به، والانتفاع بخيرات الكون، وهو أفضل شيء يُقضى فيه الوقت، ويشغل به العقل.
حتى إن الله- سبحانه وتعالى- ذمّ مُعطّلي العقول والأفكار في آيات عدة من كتابه العزيز فقال سبحانه: {وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَل نَتّبِعُ مَا وَجَدنَا عَلَيهِ آباءنا} [لقمان:21](5).
حال النبي والصحابة من التفكر
إنّ التأمل والتدبّر من الأمور المهمة، لذا يجب على كل إنسان ممارسة هذه العبادة بين الحين والآخر، لينتقل القلب والنفس من حال إلى حال أفضل.
ولقد مارس النبي- صلى الله عليه وسلم- التفكر عملاً، ولم يجعله أمرًا معرفيًّا فحسب، فحينما نزلت عليه آخر آية من سورة آل عمران، قام يصلي ويبكي، حتى وصفت السيدة عائشة ذلك بقولها: “فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: “أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}] (صحيح على شرط مسلم).
وكان حال النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة قائم على التفكر والتّأمّل والخلاء بنفسه في غار حراء، لمعرفة المزيد عن ربه- سبحانه وتعالى-، وهي الحالة التي وصفتها السيدة عائشة- رضى الله عنها- بقولها: “أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه” (صحيح البخاري).
وعن عون بن عبد الله بن عتبة يقول: سألت أم الدرداء ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار (6).
ومارس العلماء المسلمون على مر العصور هذه العبادة، ولولا تفكرهم لتأخرت النهضة العلمية الحديثة عدة قرون، حيث حوّل العلماء المسلمون الأوائل بوصلة البحث العلمي من الجانب النظري التجريدي، إلى الجانب العلمي التطبيقي، فهم الذين أسسوا المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي يقوم على النظر، والمشاهدة، والملاحظة، والرصد، والاستقصاء، والتجربة، وهم بهذا المنهج أحدثوا نقلة نوعية هائلة في منهج البحث، وتلك حقيقة يعترف بها مَن أخذ عنهم هذا المنهج(7).
ولا شكّ أنّ خلو الإنسان بنفسه كي يتأمل عالمه الداخلي ويتعبد ويحاسب نفسه على أخطائها يزيده صقلاً وصفاء، كما أكد العلماء أن في الخلوة فوائد كثيرة، منها تجنب آفات اللسان وعثراته، والبعد عن الرياء والمداهنة، والزهد في الدنيا، والتخلق بالأخلاق الحميدة، وحفظ البصر وتجنب النظر إلى ما حرّم الله تعالى.
والتفرغ للذكر أو التأمل فيه تهذيب للأخلاق، وبعد عن قساوة القلب، وفي هذا إشارة إلى أهمية التمكن من عبادة التفكر والاعتبار ولذة المناجاة ومحاسبة النفس ومعاتبتها، وإن معرفتنا بعظمة الله تورث القلب الشعور الحي بمعيته(8).
التفكر والاكتشافات العلمية
لا يخفى على أحدٍ، أننا نعيش في كون شاسع الاتساع، دقيق البناء، مُحكم الحركة، مُنضبط في كل أمر من أموره، مبني على وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته، وكون هذا شأنه لا يُمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وجد بمحض المصادفة أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه.
ولقد جاءت كثير من الاكتشافات العلمية مصاحبة لعبادة التأمل والتفكر في الكون، ففي قوله سبحانه: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] أثبت العلم الحديث أنه كلما صعدنا في السماء قل الأكسجين، وضاق الصدر، وتهددت الحياة.
ونظر العلم الحديث في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ}[الرحمن:19-20]، فاكتشف برزخا بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط وكل من خواصهما يختلفان عن بعضهما، بل بين التقاء الأنهار مع البحار والبرزخ الفاصل بينهما.
وتوصل العلم مستندا لقول الحق- تبارك وتعالى-: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47] إلى الكون لا يمتلك طبيعة ثابتة، وهو في حركة دائمة، وأن النجوم والكواكب في كل المجرات تعمل بشكل دائم.
أما آية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضَ كَاْنَتَاْ رَتْقَاً فَفَتَقْنَاْهُمَاْ}[الأنبياء:3]، فقد جعلت العلماء في ذهول بمؤتمر الشباب الإسلامي الذي عُقد في الرياض 1979م، وقالوا: حقا لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة سديمية دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريج إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء.
وهو ما دفع البروفيسور الأمريكي (بالمر) إلى أن يقول إن ما قيل لا يُمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلى شخص مات قبل 1400 سنة لأنه لم يكن لديه تلسكوبات ولا سفن فضائية تساعد على اكتشاف هذه الحقائق، فلا بُد من أن الذي أخبر محمدًا هو الله، وقد أعلن البروفيسور (بالمر) إسلامه في نهاية المؤتمر(9).
وها هو ابن القيم، لما تفكر في نعمة الشمس أفاض علينا من بيان عظمة الخالق- جل وعلا-، فقال: “ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة، ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب، بسير سخرها له خالقها، لا تتعداه ولا تقصر عنه، ولولا طلوعها وغروبها، لما عرف الليل والنهار، ولا المواقيت، ولأطبق الظلام على العالم، أو الضياء، ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة.
وكيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين، أحدهما سفرها صاعدة إلى أوجها، والثاني سفرها هابطة إلى حضيضها، تنتقل في منازل هذا السفر، منزلة، منزلة؛ حتى تبلغ غايتها منه، فأحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع، فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء، وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ، وإذا كانت بين المسافتين اعتدل الزمان، وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الأربعة، واختلفت بسببها الأقوات، وأحوال النبات وألوانه، ومنافع الحيوان والأغذية وغيرها”(10).
هكذا فإن عبادة التأمل والتفكر باب لتجديد الإيمان بالله الواحد القهار، كما أنها تبعث على التواضع أمام عظمة الله في الخلق والكون، وتفتح آفاق العلم والإيمان.
المصادر والمراجع:
- ما هو التأمل وماذا تعرف عنه؟
- التأمل: طريقة بسيطة وسريعة للحد من الضغط النفسي، 22 أبريل 2020.
- ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، 1/181.
- التربية على التأمل وفق المنظور القرآني: 12 يونيو 2020.
- د. يوسف بن إبراهيم السرحني: التفكر في خلق الكون.. وأثره في ترسيخ الإيمان، 28 سبتمبر 2017،
- أبو نعيم: حلية الأولياء 1/110.
- السنوسي محمد السنوسي: التفكر من فرائض الإسلام الحضارية.
- التفكر في الإسلام: 15 أبريل 2010.
- عشرون معجزة في القرآن الكريم حيرت العالم: 2 سبتمبر 2018.
- ابن القيم: مفتاح دار السعادة 1/198.