يدعو الدِّين الإسلامي إلى تحقيقِ التّوازن الطبيعيِ بين الرُّوحِ والبَدن، عبر البناء التربوي للإنسان الذي يهتم بنموِّ الجسدِ وتنمية العقل وتقوية الرُّوح، بأسلوبٍ هادئ يُوصِل إلى الكمال الإنساني المنشود، الذي لم تستطع أن تُحققه نظريةٌ تربوية سابقة أو معاصرة؛ وأنَّى لها أن تدرك ذلك وهي مناهجُ بشريَّة بَحْتة تعتمد في أبحاثها ونظرياتها على العقلِ البشري والموروث من العادات.
ويرى الدكتور السيد عبد الحليم محمد حسين، في بحثٍ له، أنّ أول ما يهدف إليه الإسلام هو بناء الإنسان الصالح الجدير بأن يكون خليفة الله في الأرض، والذي كرمه الله أفضل تكريم، وخلقه في أحسن تقويم، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا، وهذا الإنسان الصالح هو أساس الأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح، والأمة الصالحة.
البناء التربوي للإنسان.. إيمان وعقيدة
يتصدر الإيمان قمة البناء التربوي للإنسان في الشريعة الإسلامية التي أوضحت فكرة الإنسان عن نفسه، وعن العالم من حوله وهو يُؤمن أنّ له ربًّا خلقه فسواه فعدله، وعلمه البيان، ومنحه العقل والإرادة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل له الكتب، وأقام عليه الحجة، وعرّفه الغاية والطريق.
إن هذا الإيمان هو أول ما يميز الإنسان المسلم، فهو مؤمن بعقيدة جوهرها التوحيد، ومعنى التوحيد: أنه لا خالق إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله، فهو يعني توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولا يغني أحدهما عن الآخر.
ولقد كان مشركو العرب يؤمنون بأن الله هو وحده خالق السماوات والأرض، كما حكم عنهم القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت : 61).
التوحيد والعبادة في البناء التربوي للإنسان
ويعتمد البناء التربوي للإنسان عن التوحيد والعبادة، فالإسلام جاء دعوة تحريرية كبرى، لتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى، وهي:
- من عبوديته للطبيعة، وللأشياء، في الأرض كانت أو في السماء.
- ومن عبوديته للحيوان، ومن عبوديته للشيطان.
- ومن عبوديته للإنسان، سواء كان ملكًا أو كاهنًا.
- من عبوديته لنفسه وهواه، فلا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئًا.
وإنسان الإسلام كذلك، إنسان نسك وعبادة؛ فهو يعلم أن الكون من حوله خُلق له، أما هو فخُلق لله وحده، وبهذا أدرك غاية حياته، وسر وجوده. فعبادة الله وحده لا شريك له، هي غاية غاياته، فلها خلق، ومن أجلها سخر له ما في السماوات وما في الأرض.
وتتمثل العبادة أول ما تتمثل في:
- إقامة الشعائر الكبرى التي فرضها الإسلام، وجعلها من أركانه العظام، من الصلاة والصيام والزكاة والحج.
ثم ما يكملها من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل والتكبير. قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191).
ومفهوم العبادة في الإسلام واسع شامل، لا يقتصر على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل يشمل نشاط الإنسان كله من اعتقاد وفكر وشعور وتصور وعمل ما دام الإنسان يتوجه بهذا النشاط إلى الله ويلتزم فيه شرعه، ويسير على منهجه، تحقيقًا لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إِلاّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56] وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتي ونُسُكي ومحْيايَ ومَماتي لله ربّ العالَمين * لا شَريكَ لَهُ….} [الأنعام: 162-163].
وعلى ذلك فإن عمارة الأرض وتسخير ما أودع الله فيها من ثروات وطاقات وابتغاء ما بثه الله على ظهرها من أرزاق، وما يلزم لذلك من التعرف إلى سنن الله في الكون، والعلم بخواص المادة، وطرق الاستفادة منها في خدمة العقيدة ونشر حقائق الإسلام، وتحقيق الخير والفلاح للناس = كل ذلك يعدّ عبادة يتقرب بها العلماء والباحثون إلى الله، وطاعة يثاب عليها الناظرون في الكون والمكتشفون للقوانين التي تربط بين أجزائه، والمستنبطون لوسائل تسخيرها لخير الناس ومنفعتهم.
وإذا كان الأمر على هذه الصورة في المفهوم الإسلامي للعبادة، وكان هدف التّعليم في نظر الإسلام هو تنشئة ذلك الإنسان العابد لله على المعنى الشامل للعبادة، فيجب أن يحقق التّعليم أمرين، أحدهما: يعرف الإنسان بربه ليعبده اعتقاداً بوحدانيته وأداءً لشعائر عبادته، وتطبيقًا لشريعته والتزامًا لمنهجه، والثاني: تعريفه بسنن الله في الكون ليعبده بعمارة الأرض والمشي في مناكبها وتسخير ما خلق الله فيها لحماية العقيدة، والتمكين لدينه في الأرض، امتثالاً لقوله تعالى: {هوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فيها} [هود: 61].
إنسان خلق وفضيلة
لقد علمنا الإسلام أن الخلق والفضيلة من لوازم البناء التربوي للإنساء وعقيدته، وتمام إيمانه، كما أنهما ثمرة لازمة للعبادة الحقة، وإذا لم تثمر العبادة في الخلق والسلوك دل ذلك على أنها عبادة مدخولة.
وقد ألف الإمام البيهقي كتابًا كبيرًا سماه (الجامع لشعب الإيمان) يشمل كل الفضائل وأعمال الخير التي دعا إليها الإسلام، واعتبرها كلها من شعب الإيمان، كما دل على ذلك الحديث.
وخُلق المسلم لا يتجزأ، فهو ليس كخلق اليهودي الذي يحرم الربا في تعامله مع مثله، ويستحله في تعامله مع الآخرين، وليس كخلق إنسان الغرب الاستعماري الذي يتعامل داخل أوطانه بأخلاق وفضائل مثالية، فإذا تعامل مع البلاد الأخرى سرق وظلم، وطغى واستكبر.
المسلم يعدل مع مَن يحب ومَن يكره، مع القريب الأقرب، ومع العدو الأبعد، قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء : 135)، وقال جلا وعلا: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} (المائدة : 8).
إنسان شريعة وحياة
والمسلم- فضلًا عن التزامه بالخلق والفضيلة- هو ملتزم كذلك بشريعة محكمة، مفروضة عليه من ربه، أحلت له الحلال، وحرمت عليه الحرام، وحددت له الواجبات، وبينت له الحقوق، وفصلت له كل ما يحتاج إليه ليكتمل بذلك البناء التربوي للإنسان المسلم.
ففي الأكل؛ لا يأكل الميتة ولا الدم ولا لحم الخنزير، ولا يأكل من اللحم إلا ما ذُبح شرعيًا، أما ما لم يذبح شرعيًّا أو ذبح على النصب أو أُهِلّ لغير الله به؛ فلا يحل للمسلم أكله.
ولا يأكل طعامًا غصب من صاحبه، أو سرق أو أخذ بالباطل، كما لا يحل له أن يأكل طعام امرئ بغير طيب نفس.
والمسلم لا يحل له أن يتناول أي طعام أو أي مادة يضره تناولها، لأنه ليس ملك نفسه، والإضرار بنفسه حرام، لأنه قتل بطئ لها، والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء : 29).
ومن هنا كان تناول (التبغ) وملحقاته، بعد أن ثبت ضرره علمًا وطبًّا وواقعًا، حرامًا بلا شك، ومن باب أولى: المخدرات التي هي بمنزلة السموم، كما أن المسلم لا يشرب الخمر، حفاظًا على عقله وجسمه وخلقه.
والمسلم في علاقاته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية مقيد بأحكام الشريعة الإلهية، فهو يتزوج ويطلق ويبيع ويشتري، ويستأجر ويؤجر ويكتسب وينفق، ويمتلك ويهب، ويرث ويورث، ويحكم ويحتكم، ويسالم ويحارب، وفقًا لأوامر الشريعة ونواهيها، واقتضائها.
إنّ البناء التربوي للإنسان في الإسلام، يُحقق النمو المتكامل والمتوازن، ولا يُركّز على جانب واحد من الشخصية، ويتضح هذا في قول الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنه يرفض التطرف في العبادة وأنه يقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء.
وتتعدى العقيدة الإسلامية مجال القلب إلى العمل، فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل وكثيرًا ما اقترن العمل الصالح بالإيمان في آيات القرآن الكريم، كما تركز على تنشئة الفرد على الفضيلة وتحمل المسؤولية، وتحافظ على فطرة الإنسان النقية وتعلي غرائزه الفطرية.
المصادر والمراجع:
- الفكر التربوي الإسلامي .
- خصائص التربية الإسلامية .
- نظرة التربية الإسلامية إلى الإنسان .
- النظام التربوي في الاسلام دراسة تحليلية اجتماعية .