إنّ شعور الانتماء للوطن فطريٌّ يُولد مع الإنسان ويُعد من أهم ملامح قوة أي دولة، بل هو فرض شرعيٌّ وواجب حياتيّ، وتحقيقه عملية مجتمعية متكاملة يجب أن يُشارك فيها جميع أبناء الوطن، لأنه من القيم الدينية المُهمة، سيّما في ظل محاولات طمس الهوية العربية والإسلامية، وإثارة النعرة القومية في نفوس الشعوب.
وإن كان مفهوم الانتماء الوطني جديد في مصطلحاته، إلا أنه يتجذر ويتعمق ويأخذ دوره الطبيعي في حياة الإنسان الخاصة والعامة، ويستلزم من الأسر والمدارس ومؤسسات الدولة العمل على غرس هذه المفاهيم والمعاني في نفوس أبناء الوطن والأجيال القادمة، حتى لا يضيع المعنى ويُطمس معالمه، فنصل لأن يُخوّن الأمين ويُؤتمن الخائن، ويُكذّب الصادق ويُصدّق الكاذب، ويصبح مفهوم الانتماء ينصب على حماية رأس النظام ونظامه فقط.
مفهوم الانتماء للوطن
الانتماء حالة من الشعور الذاتي بالانضمام والارتباط الإيجابي للدين والوطن، والعمل على رخائه ونهضته ورقيّه وحمايته. وهو من المفاهيم الحديثة، لكنه متجذر في مفاهيم الإسلام.
ومع كون بعض السّاسة يضيقون معناه في التعصب لمساحة محدودة من الأرض، وهذا الانتماء شكل من أشكال الفكر المنحرف وأول ظهوره كان في أوروبا ثم انتقل إلى العالم الإسلامي أواخر القرن التاسع عشر، فنشأت حركات وطنية تدعو إلى التعصب الجنسي والعرقي.
وكلمة “انتماء” في اللغة من النمو ومن معانيها الانتساب، قال ابن منظور: “نماَ ونَمَيْتُه إلى أَبيه نَمْيًا ونُمِيًّا وأَنْمَيْتُه عَزَوته ونسبته، وانْتَمَى هو إليه انتسب”، فالانتماء إذن هو الانتساب إلى الشيء.
أما كلمة “الوطن” فهي منسوبة للمكان الذي يقيم فيه الشخص أو ينشأ فيه، من الفعل “وَطَنَ” بمعنى: أقام أو حلّ أو سكن في مكان (1).
ويختلف التعريف الحديث الذي يحصر الانتماء للوطن في قطعة أرض واحدة، مع التعريف الواسع الذي عمل الإسلام على غرسه من كونه انتماء للعقيدة ولكل أرض تنضوي تحت العقيدة الإسلامية.
فالانتماء هو الانتساب الحقيقي للوطن والدين فكرًا ووجدانًا، واعتزاز الأفراد بهذا الانتماء عن طريق الالتزام والثبات على المناهج والتفاعل مع احتياجات الوطن.
وهو صدق الإحساس بحب الوطن والذوبان الوجداني الشعوري بأحداثه ومتغيراته والتأثر إيجابًا برفعته ووحدة كيانه وقوته ورقيه، والتناغم مع السّلم الاجتماعي وإن تعددت البرامج السياسية والمشارب الفكرية والحزبية (2).
أهمية الانتماء للوطن
حب الوطن أمر فطري يتربى عليه الفرد؛ فكل إنسان يعشق ويحب وطنه، ولا يملك أحد أن يتهم أحدًا- دون دليل- بعدم حبه لوطنه، ويعود أهميته إلى:
- حرص وخوف الجميع على أوطانهم، ما يساعد على اللحمة بين أفراد المجتمع والتناسق من أجل الحفاظ على كينونة الوطن حر.
- كلما زاد حب الوطن قلّت الجرائم الداخلية، خشية من انهيار منظومة المجتمع وتفكك الدولة.
- الجد والسعي والعمل للنهوض بالوطن وعدم قبول التبعية لأحد مهما كلفت من أفراد.
- زيادة الشعور بالانتماء للوطن يساعد على بذل الغالي والنفيس لأن يكون وطنًا حرًّا قويًّا مستقلا.
- زيادة الاستقرار والتقدم والرخاء كلما زاد الانتماء الوطني عند أفراد المجتمع الواحد (3).
الانتماء إلى الوطن من منظور الإسلام
الانتماء أمر عُرف في الإسلام، بل دعا إليه، على أن يكون ذلك الانتماء في ضوء العقيدة الإسلامية، لا يُحاد عنها، ولاُ تنتهك بدعوى العصبية الممقوتة، فالإسلام لم يتنكَّر للفطرة البشرية، ولم يُحارب الطباع السليمة، وهذا يعني أن الانتماء من منطلق إسلامي صحيح متأصل في النفوس، وكامن في القلوب.
ولمّا كان الانتماء الصادق لا يتعارض مع الدين جاء الترغيب فيها والحث على مظاهره في مصادر التشريع الإسلامي.
وقد ثبت في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة ما يُدَلِّل على الانتماء للوطن وحب الأوطان، يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
وقال على لسان الرّجل المؤمن: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْـمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
وهذا سيدنا موسى- عليه السلام- بعد غربة طويلة الأجل طلب الرجوع إلى أهله، وحن إلى وطنه، وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم المشاعر والحنين، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}[القصص:29].
وهذا الانتماء الوطني الذي ملك وجدان النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى إنه عبّر بالاستهجان حينما أخبره ورقة بن نوفل بإخراج قومه له من وطنه فقال- صلى الله عليه وسلم-: “أَو مُخْرِجِيّ هم؟!” (البخاري).
وحينما تحقق ما أخبره به ورقة بن نوفل وقف على الحزورة (سوق) ونظر إلى البيت وقال: “والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك” (الترمذي والنسائي).
ورغم فساد أهلها وظلمهم له ومحاربتهم لدعوته، لكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يعطينا درسًا في الانتماء فيقول في رواية أخرى: “ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك” قاله لمكة. (الترمذي).
والرسول- صلى الله عليه وسلم- كان حين يذكر أحد الصحابة مكة أمامه تذرف عيناه بالدمع ويقول له: “دع القلوب تقر”، فهو عندما خرج من مكة خرج حزينا مكلومًا فبشره ربه قائلًا: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَاد} (القصص: 85)، وقد جاء في تفسير القرطبي أن النبي لما خرج من مكة مهاجرًا فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأوحى الله إليه هذه الآية (5).
حب الوطن من الإيمان
رأينا كيف أن الإسلام أعلى من قيمة الانتماء للوطن والحرص عليه، ولقد ترجم هذه القِيم صحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- فرأينا كثيرًا من الصحابة رغم مكانتهم إلا أنهم انتسبوا لأوطانهم، فهذا بلال الحبشي وهذا سلمان الفارسي وهذا صهيب الرومي وهذا طفيل الدوسيّ، فقد ظل كل هؤلاء بنسبتهم إلى أوطانه، لكنهم ما نسوا انتماءهم الأساس والأعظم إلى رسالة الإسلام، وما يتعارض هذا مع ذاك، وما طلب منهم لإثبات وطنيتهم للبلد الجديد أن يتنازلوا عن جنسيتهم الأصليّة!
يقول الشيخ محمد الغزالي: “والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص” (6).
الإخوان والتربية الوطنية
لقد انطلق حب الإخوان لأوطانهم من تربيتهم الدينية النابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية، فقد نظر الإخوان إلى الأرض التي وُلدوا وتربّوا عليها وعملوا على الدفاع عنها، وتقديم كل غالٍ ورخيص من أجل هذا الوطن، وطالبوا الشعب والحكومة بالدفاع عن الوطن والعمل على إجلاء المحتل عنه، وعمل على محاربة الوطنية الحزبية والقومية المتعصبة.
يقول الإمام حسن البنا: “إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى.
وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد.
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضًا، ويراه الإسلام فريضة لازمة”.
بل هاجم كل من نفى الوطنية عن الإسلام بقوله: “إن الذين يظنون الإسلام يهدم الوطنيات مخطئون؛ لأنه يفترض على أبنائه حماية أرضهم”.
لقد عمد الإمام البنا إلى تربية الإخوان المسلمين على أن يكونوا أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، وتفانيًا في خدمتها، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا (7).
دور البيت والمدرسة
لا بُد من تربية الأبناء على الانتماء للوطن وتعزيز هذه القيمة لديهم منذ الصغر، وذلك يكون من خلال وسائل عديدة، منها:
- القدوة العملية: فعندما يرى الأبناء- دائمًا- والديهم يتابعون الأحداث والقضايا المهمة المتعلقة بالوطن، وعندما يجدونهم مشاركين بفاعلية في هذه الأحداث فإن ذلك هو خير وسيلة لتربية الأبناء على حب وطنهم والانشغال بقضاياه.
- أن يقص الآباء والأمهات القصص التي تنمي روح الوطنية وحب الوطن في نفوس الأبناء، التي تربط حب الأوطان بالإيمان.
- تدريب الأطفال على إظهار حبهم لوطنهم بالتعبير عن ذلك الحب بالكلام والكتابة والشعر والمناقشات بينهم وبين الوالدين.
- القراءة المستمرّة عن تاريخ وحضارة الوطن وسردها على الأبناء، فعند سماع ما كان يقدم السابقون للوطن نحفزهم لفعل أكثر منهم.
- حفظ الأناشيد الوطنية وترديدها على مسامعنا ومسامع أبنائنا، فذلك يُعطي رغبة نفسية شديدة بالانتماء وحب الوطن وتقديم الروح من أجله.
- يجب أن تشمل التربية الوطنية والتربية الإسلامية والتاريخ في المدارس والمسجد والإعلام على ما يعزز هذا الحب وينميه لدى الصغار (8).
إن شريعة الإسلام أكدت أهمية الانتماء للوطن وتقديم الروح من أجله، وبيَّنت كيف كان حب النبي- صلى الله عليه وسلم- لوطنه مكة، وكيف دعا لها وحَزِن على فراقها، وهو سلوك يجب أن يتربى عليه الأبناء ويُعزز لديهم منذ الصغر.
وهذا الانتماء لا يتعارض مع الانتماء للإسلام، فكل منها يكمل الآخر ويعضده، فإذا انتمى الفرد لأسرته وأهله، فلا بُد من أن ينتمي لوطنه، وهذا نابع من انتمائه لعقيدته وقِيَمه وثقافته الإسلامية.
المصادر والمراجع:
- إبراهيم ناصر: التربية المدنية – المواطنة، جمعية عـمال المطـابع التعاونيـة، عـمان، الأردن، ط الأولى،١٩٩٣م، ص٢٣
- وأنظر: ابن منظور: لسان العرب 15/341.
- سالم بن عميران: الانتماء الوطني.. رؤية شرعية، 15 يوليو 2015.
- عمرو أحمد: أهم 5 مفاهيم الانتماء للوطن.
- بدر علي العبدالقادر: الانــتماء إلى الــوطن وأثــره في حمايــة الــشباب مــن الانحراف، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المجلد الخامس، صـ1555.
- الانتماء والولاء الوطني نهج الشريعة الإسلامية والسنة النبوية: سبتمبر 2018.
- محمد بن فنخور العبدلي: هل حب الوطن من الإيمان؟.
- رسالة دعوتنا، مجلة الإخوان المسلمين، العدد الثاني، السنة الثالثة، 20 محرم 1354ﻫ/ 23 أبريل 1935م، صـ3-5.