إنّ الاستسلام لله سبحانه في أمره ونهيه، وقضائه وقدره، من أهم أسباب قوّة قلب العبد ورسوخ يقينه، وسلامة صدره، وتمام رضاه؛ فالكون كونه، والخلق خلقه، وهو المالك المتصرف بالتدبير والتقدير، ومن غابت عنه هذه الحقيقة وانشغل بتوافه الدنيا لم يصمد قلبه أمام أي فتنة أو ابتلاء.
والاستسلام للخالق- سبحانه وتعالى- هو الغاية التي خلق الله الإنسان من أجلها، وهو الطريق الذي يقود إلى السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبيل تحصيل الهدوء والطمأنينة، لأن المسلم وقتها لا يشعر بالقلق أو الخوف، فهو يعلم أن الله معه، ويرعاه، ويحفظه، كما يُحقّق المسلم من وراء الانقياد لربّه، التقوى والصلاح.
الاستسلام لله في القرآن والسنة
ودّلت آيات كثيرة في القرآن الكريم على الاستسلام لله وحده، يقول الله- عز وجل-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب:36]، فهذه الآية تدلّ على أنّ أمر اللَّه وأمر رسوله موجبٌ للامتثال، مانعٌ من الاختيار، مقتضٍ للوجوب.
ومن أخصّ صفات المؤمنين المفلحين، الطاعة لله ورسوله، قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].
والتسليم هو السبب المباشر لزيادة التدين للعبد المسلم، ورفع درجته وتزكيته عند الله سبحانه الذي يقول: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء:125]، ومعنى أسلم وجهه لله: طاعته، وإذعانه، وانقياده لله -تعالى- بامتثال أمره، واجتناب نهيه.
والانقياد لله ولرسوله سبب للنجاة من عذاب الله؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان:22]، أي: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه.
وقد يبتلي الله عبدَه بأنواع البلايا حتى يعلم مدى تسليمِه له، وتفويض أمره إليه، والمطلوب من الإنسان أن يسلم لله، ويستسلم له في كل صغيرة وكبيرة، وأن يصبر ويصابر، يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
ومن الأمور الهامة في قضية التسليم لله- عز وجل- والانقياد له، أنه لا فرق بين التسليم لنصوص القرآن والتسليم لنصوص السنة؛ إذ السنة مفسرة للقرآن ومبيّنة له، قال الله- تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7]، ويقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63] ويقول- سبحانه-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [النور:51].
وضرب الأنبياء أمثلة رائعة في الانقياد لأوامر الله سبحانه، فهذا إبراهيم- عليه السلام- امتثل هو وأهله في التسليم لأمر الله من أول يوم أراد الله به الخير والهداية له: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة:131-132].
وهذا نوح- عليه السلام- قال الله عنه: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود:45-47].
ونظرًا لأهمية الانقياد لله- جل وعلا- فقد حذر الله من السير في طريق الشيطان، ووصف المنافقين في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء:60-61].
وقال الله عن المنافقين: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور:49-50]، فناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ولرسوله بالحكم، وعدم الاعتراض عليه، فذمهم الله لاعتراضهم وعدم تسليمهم.
وحذّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من أخذ القرآن وترك ما في السنّة، فقال: “لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ” (أبو داود).
لذا كان صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفضل من امتثل لأوامر الله ورسوله، فقد روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى خَاتمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: “يَعْمدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ”، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ! لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- (مسلم).
وفي قصة نزول آية تحريم الخمر خير دليل على الانقياد التام لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر- أي النبيذ- فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها (البخاري).
وعنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:”لَمَّا نَزَلَتْ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) [الأحزاب:59]، خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةِ” (أبو داود). يعني: امتثلن الأمر واستسلمن له فاحتجبن وتسترن.
وروى البخاري من حديث أنس- رضي الله عنه- أنه قال: “مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثم تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع مثل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك؛ فغضب وقال: تركتني حتى تلطختُ ثم أخبرتني؟
فصلى أبو طلحة مع النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بما كان منهما، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما”. قال سفيان راوي الحديث: قال رجل من الأنصار: “فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قرؤوا القرآن”.
كيف يكون الاستسلام لله؟
ويتطلب الاستسلام لله وحده الالتزام بعدة أمور منها ما يلي:
- الانقياد له في كل أمور الحياة، وخصوصًا فيما يَكره الإنسان، فالمؤمن يتعامل مع ربٍّ ودود، رحيم حكيم، عليم بما يُصلح الإنسان وما يُفسده، قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
- تحقيق الصبر أمام كلِّ ما يصيب الإنسانَ في هذه الحياة: فلن يتحقَّق الانقياد لله بدون صبرٍ؛ فالصبر هو مركب النجاة للمؤمن وهو يواجه تحديات الحياة؛ لأنه يعلم أن عِلمه محدود من كلِّ جانب، ومعلوماته بالنسبة إلى مجهولاته كقطرة في مقابل البحر، وعلى هذا الأساس يستقبل المؤمن الأوامر والأحكام الإلهيَّة، فيعتبرها كالأدوية الشافية له، ويطبِّقها بمنتهى الرضا والقَبول.
- التأمُّل في قَصص القرآن ومواقف السيرة النبوية: فهي أكبر عونٍ على الانقياد لله ورسوله في كل أمور الإنسان.
- التفتيش في دفتر حياة المسلم: ليستخرج منه ما ينفعه في حاضره ومستقبله، فكل إنسان- كما يقول سيد قطب رحمه الله- في تجاربه الخاصة، يستطيع حين يتأمَّل أن يجد في حياته مكروهاتٍ كثيرةً كان من ورائها الخيرُ العميم، ولذَّاتٍ كثيرة كان من ورائها الشرُّ العظيم، وكم من مطلوب كاد الإنسان يُذهب نفسه حسرات على فوْته، ثم تبيَّن له بعد مدة أنه كان إنقاذًا من الله أن فوَّت عليه هذا المطلوب في حينه، وكم من محنة تجرَّعها الإنسان لاهثًا، يكاد يتقطَّع لفظاعتها، ثم ينظر بعد مدة، فإذا هي تُنشئ له في حياته من الخير ما لم يُنشئه الرخاء الطويل.
- عدم العيش في سجن اللحظة الحاضرة: حتى لا نشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويُطاردها، وهذا سجن نفسي مغلق، مُفسد للأعصاب في كثير من الأحيان، وليست هذه هي الحقيقة؛ فقدرُ الله دائمًا يعمل، ودائمًا يُغير، ودائمًا يُبدل، ودائمًا يُنشئ ما لا يجول في حُسبان البشر، يقول تعالى: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1].
- التأمُّل في أسماء الله الحسنى وصفاته العلا: وخاصة فيما يتعلَّق بعلم الله- عز وجل- وحِكمته، فكلما كانَ عِلمُنا بالله أكبرَ، كانَ رِضانا عنه أشد، وكلما كان هناك جهلٌ بالله- عز وجل- كان مع الجهل سُخط.
إن التسليم لله تعالى من ركائز الإسلام وثوابت الإيمان ودلائل الإحسان، ومَن يسلم أمره ونفسه لله ويرتضي أمره؛ يَنَل خير الدنيا وثواب الآخرة، وينعم بالرضا والاطمئنان ويستشعر السكينة والأمان.
المصادر والمراجع:
- إسلام ويب: التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة.
- محمد صالح المنجد: الاستسلام لأوامر الوحي.
- ملتقى الخطباء: أهل الاستسلام لله.
- طريق الإسلام: التسليم لأوامر الله.
- سلمان بن يحي المالكي: هكذا كانوا ينفذون الأوامر.