أنا طالب في نهاية المرحلة الثانوية مُؤدب وديع كما يقول الناس، مُتعاون مع البيت إلى أبعد الحدود، أُنفذ أوامر والدي كأنني خادم مطيع أو طفل صغير، متفوق في دراستي ولله الحمد، لكن مشكلتي أن والدي كثير الإهانه لي، ويعاملني بازدراء وربما يهينني بالسب والضرب والوعيد حتى أمام زملائي الذين كثيرًا ما يسخرون مني ويستهزئون بي من فرط ما يرون من إذلال ومهانة.
يحدث هذا رغم إنني لست ضعيف الشخصية فأنا في صفي ومع زملائي معروف باتزاني وعقلانيتي وحسن تدبيري للأمر وعدم الرضا بالظلم، لكنني مع أبي لا أستطيع الرّد أو الإساءة لأنه أبي وإن فعل بي أضعاف ما يفعل.
لكنني الآن أشعر بحالة عارمة من القهر والضعف تكاد تخنقني، حتى إنني أقوم من نومي مفزوعًا خائفًا، ما أثر على دراستي ونفسيتي كثيرًا، وأخذ يؤثر على مستواي التعليمي، فماذا أفعل علمًا بأن ما أشتكي منه هو أبي الذي أحبه غير أنني أتهيب للحظة التي ألقاه فيها؟
الإجابة:
العقلانية والاتزان اللذان تحكي عنهما باديان من كلمات رسالتك يا بُني، من في مثل سنك وأمام هذه المعاملة قد يختارون طريق الصدام والعناد والنّدية، وما كان ليشغلهم أمر علاقتهم بأبيهم، لكن حسن خلقك ونضجك جعلك تعرف للأب قدره فتحرص على الحفاظ على هذا القدر وتزيل العوائق التي أمام برّه. في رسالتك بعض الكلمات التي قد يحيا أناس حياة كاملة ويموتون قبل إدراكها، كقولك: (مع أبي لا أستطيع الإساءة لأنه أبي وإن فعل بي أضعاف ما يفعل). البعض يكرمهم الآباء ثم لا يجدون إلا جحودًا وإنكارًا وأنت يصعّب عليك أبيك الأمر فتحرص على بره، فلا تتخلى بني عما أكرمك الله به من نضج وخلق.
ونُذكّرك بقول رسول الله لأمنا عائشة في العمرة: (أجرك على قدر نصبك)، وهكذا أجر مجاهدتك نفسك لمواصلة بر أبيك، فبعض الآباء يعملون وفق الهدي النبوي: (رحم الله والدًا أعان ولده على بره)، فيصبح البر أيسر وأحب إلى القلوب، وفي حالتك يحتاج الأمر إلى مجاهدة وبذل ومراجعة باستمرار. وأيًا ما كانت طريقة معاملة الآباء فالأمر الإلهي واضح بحسن المعاملة حتى وإن كانا يدعوانك إلى الشرك بالله: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.
ومع ذلك، فنحن لا نقبل لك ذلك الضرر الواقع عليك من أبيك، ولا نحب لك شعور الإهانة، أو أن تتأثر حياتك سلبًا مع ما فيها من معطيات للتفوق والنجاح، ولا نعلم سببًا واضحًا لسلوك الوالد، وبخاصة أنك متميز في الجانب الأخلاقي والدراسي ولم تتخلَّ عن بر أبيك، فما الذي يدفع الوالد للجوء لمعاملتك هكذا؟! إما أنه طبع غلاب أو ضغوطات مرحلية أو مثالية زائدة تجعله غير راض عنك أو ربما هكذا عومل في صغره. إن حاولت أن تفهم ما السبب وراء هذه الطريقة في المعاملة ربما سهل عليك تفهم والدك وإعذاره.
وعليك في الوقت نفسه أن تتحدث مع مَن يحسن أبيك له الاستماع، أو ممن هم مقربون له ومؤثرون، وإذا كانت العلاقة بين أمك وأبيك علاقة جيدة فيها من الود والتقبل ما يكفي فيمكنك أن تلجأ لأمك للتحدث مع أبيك، وما دام أن أسلوب أبيك معك لا يتغير أمام الآخرين فإنه لن يكون مستغربًا لو نصحه أحدهم ما دام الأمر يتم أمامهم.
وما نتوقعه منك بني ومن وصفك لشخصيتك أنك تستطيع أن تتحدث مع والدك بنفسك، تخير فقط وقتًا مناسبًا ثم اطلب منه أن تتحدث إليه، عبّر له عن حبك له ورغبتك في دوام إرضائه ثم مشاعرك عندما يسيء معاملتك، أعطه طريقة بديلة فربما لا يحسن التلطف مع الآخرين، اطلب منه توجيهك بلطف، وأخبره بأنك على أتم الاستعداد للتعلم والتلقي منه وأنك لا تجد في نفسك كبرًا بل تشعر بقيمته بشكل كبير، مثل هذا الكلام الطيب يفتح بإذن الله مغاليق القلوب والأفهام.
وبعيدًا عن والدك لا بًد لك من أن تقوي مناعتك النفسية وألا تترك مثل هذه المواقف مع أبيك أو مع غيره تنال من نظرتك لنفسك أو حرصك على مستقبلك، نعلم أنه ليس من السهل تقبل سوء المعاملة وفصله عن باقي مشاعرنا الإنسانية، لكن تأمل كيف استقبل رسول الله كلمات وجهت إليه بغرض الإهانة فقال لمن سموه مذممًا: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا وأنا محمد)، وطبعًا مع الفارق بين المثالين إلا أننا نسوقهما لعرض كيف علمنا رسول الله التعامل مع مواقف كهذه. إذ (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله).
وحين كان يضيق صدره بما يقولون أوصاه رب العزة بما ورد في الآية الكريمة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)} (الحجر). لذا يجب أن تتعلم بشكل عام ألا تسمح للضيق أن يتملكك وأن تبدأ بمعالجة الأفكار التي تدور في رأسك، فلا تسمح لها أن تسيطر عليك لأنها السبب وراء مشاعر الخوف والفزع داخلك وحاول استبدالها بأخرى إيجابية عن نفسك.
فكلما كنت على اتصال جيد بنفسك كلما استطعت القيام بذلك، ولا تهتم كثيرًا بما يحدث أمام الغير، فهذا وإن أساء فهو يسيء لوالدك قبل أي شيء، حافظ على احترامه دائمًا أمام الناس، واعلم أن فيك من الخُلُق ورجاحة العقل ما يفرض احترام الغير لك حتى إن بدت منهم كلمات لا ترضيك.
واعلم بني أنك إن لم تحسن التعامل مع المشاعر السلبية التي خلفتها طريقة والدك معك، فأنت الخاسر الأكبر في هذا، وقد بدأ الأمر يؤثر على تحصيلك الدراسي واطمئنانك، وهذا ما يجب أن تقاومه ولا تسمح بحدوثه بل تجعل ما تمر به دافعًا لأن تصير أفضل.