إن الحديث عن الابتلاء والمحن والفتن في الدعوات أمر ضروري لكل عمل إسلامي مُنظّم، حتى يبصر أفراده بطبيعة الطريق، ويُهيئهم لتوطين نفوسهم على ما يعترضهم من عقبات وصعوبات وآلام، ويخفف على المبتلين ما يُقاسونه من تعب ونصَب وعنت.
ويرى الدكتور عمر عبد الله عبد الرحيم الكندري، في بحثٍ له، أنّ الصبر على البلاء يعتمد على حقيقتين خطيرتين؛ أما الأولى: فتتعلق بطبيعة الحياة الدنيا؛ فإنّ الله لم يجعلها دار جزاء وقرار، بل جعلها دار تمحيص وامتحان، وأما الحقيقة الأخرى: فتتعلق بطبيعة الإيمان؛ فالإيمان صلة بين الإنسان وبين الله- عز وجل- وإيمان الإنسان موضع امتحان من الابتلاء، فإن صمد صدق، وإن تزعزع ضعف!
مفهوم الابتلاء في القرآن الكريم
الابتلاء هو نوع من الاختبار لمعرفة حال المختبر بتكليفه أمورًا يشق عليه فعلها أو تركها؛ ليجازيه عليها، ويكون في الخير والشر معًا، قال الله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]. وهو معاملة تظهر الأمور الباطنة، قال الله- عز وجل-: (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل: 40].
ووردت كلمة بلاء وصيغها في القرآن القرآن الكريم أربعةً وثلاثين مرة، والصيغ التي وردت هي: الفعل الماضي ورد سبع مرات، يقول تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ [القلم: 17]، والفعل المضارع ورد عشرين مرة، قال الله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165].
أما فعل الأمر، فقد وَرَدَ مرة واحدة، قال الله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ [النساء: 6]، والاسم ورد ست مرات، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 106]، واسم فاعل ورد مرتين، قال- جل وعلا-: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ المؤمنون: 30].
أثر الابتلاء في الدعاة الصادقين مع الله
ومن المؤثرات النفسية التي تقف حجر عثرة في طريق الدعاة الصادقين وتُؤخر مسيرتهم في تبليغ دعوتهم أو بلوغهم النصر والتمكين، الابتلاء الاضطهادي الذي يكتنفهم، وينزل بساحتهم، ويمسك بخناقهم، ويرميهم بكل تهمة باطلة، ويصوب إليهم كل منكر من القول والزور، ومن ذلك:
أ- ابتلاء التعذيب والسجن والاعتقال.
ب- ابتلاء مصادرة الأملاك والأموال.
ج- ابتلاء تلفيق التهمة والتزوير والبهتان.
د- ابتلاء التهكم والسخرية والاستهزاء.
ه- ابتلاء التهجير والنفي والإبعاد عن الأوطان.
و- ابتلاء التجويع والتفقير والإذلال.
ز- ابتلاء التهديد بالعرض.
ع. ابتلاء القتل.
لكن ابتلاء المؤمن كالدواء له، ووقوعه على بعض الدعاة ليس معناه- كما يتصور البعض- أن خطأ معينا وقع فيه هؤلاء؛ إذ من الممكن أن يكون لرفع درجاتهم، والصبر لا يعني- كما يتصور البعض- الخضوع والاستسلام، فحاشَ لله تعالى أن يوصي الرسل والمؤمنين بشيء فيه ذلة واستكانة.
ومن فوائد أي ابتِلاء للداعية ولكل مؤمن أن الإنسان يزداد تعلقا بالعبادات ويكثر من النوافل، وتلاوة القرآن، ويتوجه إلى الله- تبارك وتعالى- بالرجاء والدعاء، والقلب يتصل بالله، والروح تنشغل في هذا الجو بالاتصال بحبل الله المتين، كما أن فيه تكفير للسيئات وحط للذنوب والخطايا، والتعرف على معادن الرجال وخصالهم، وتنقية للصف المؤمن من أعدائه الباطنيين.
استدعاء البلاء أم دفعه؟
إذا كان الابتلاء مما يصيب الدعاة إلى الله، وبهذا جرت سنة الله، فهل معنى ذلك أن على الداعية المسلم أن يستدعي البلاء ويعمل على وقوعه ولا يجوز له دفعه؟!
ولأنّ هذه المسألة مما يقع فيها الاشتباه والخلط، نوضح فيها ما يأتي:
- المطلوب من الداعية المسلم أن يدعو إلى الله بالوسائل والكيفيات المشروعة التي بيّنها القرآن الكريم وطبّقها الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-، فإذا أدّت هذه الوسائل إلى أذًى يصيب الداعية فعليه أن يتقبله بالصبر لا بالجزع، وبالثبات لا بالفرار.
- وإذا كان باستطاعة الداعية أن يتوقى الأذى؛ فعليه الأخذ بأسباب ذلك حسب الظروف والأحوال؛ لأنّ البلاء صعب على النفس فلا يجوز الحرص عليه ولا الرغبة فيه؛ لأن فيه فتنة مجهولة العاقبة.
- وفي وصية النبي- عليه الصلاة والسلام- لأسامة بن زيد، وقد جعله أميرا على الجيش لغزو الروم قبل وفاته- عليه الصلاة والسلام- بأيام قال له: “ولا تتمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم”.
- وإيذاء أهل الباطل لأهل الحق يعد من سيئاتهم؛ ولا يجوز أن يستكين المسلم لصاحب الباطل أو لا يجهد في دفع أذاه عن نفسه؟! ففي هذا التسليم إعانة على وقوع ما يسخط الله تعالى، وإلقاء للنفس في التهلكة والمهانة والذلة وكل هذا لا يجوز!
- لقد أذن الله للمكره أن يقول كلمة الكفر تخليصا لنفسه من الأذى والتلف، وهذا يدل على إباحة دفع الأذى، وأن للمسلم ألا يساعد على وقوعه عليه.
- وعند انسحاب خالد بن الوليد بمن معه من جند المسلمين في معركة مؤتة ودخولهم المدينة المنورة، جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فُرّار، فررتم في سبيل الله. فيقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى”.
- وهاجر المسلمون من مكة إلى الحبشة فرارا بدينهم وتخلصا من أذى قريش؛ فدل ذلك على جواز دفع البلاء والأذى وعدم الاستسلام له بحجة تحمل الأذى في سبيل الله؛ لأن نفس المسلم ليست ملكه وإنما هي ملك الله، فلا يجوز إتلافها بلا فائدة تعود على الإسلام.
- ولم يرَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأسا من عون عمه أبي طالب- وكان على دين قومه- في دفع ما يستطيعه من أذى قريش عنه.
لماذا البلاء؟
ومن يبحث عن حكمة الابتلاء والبلاء التي يتعرض له المسلمين ومنهم الدعاة إلى الله يجد الآتي:
- أنه للاختبار: قال الله تعالي: (ذَلكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد:4)، وقال تعالي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31].
- ليميز الله- سبحانه وتعالى- الخبيث من الطيب، «سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة».
- والله يبتلينا لنرجع إليه بالتوجه والدعاء والذل والمسكنة: فالصبر على محن الدنيا أهون من الصبر على محن النار.
- لتربية الدعاة: فالله- عز وجل- ربى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في شعب أبى طالب، وفي الغار، والصحابة تربوا في شعب أبى طالب ثلاث سنوات؛ لحمل مهام الدعوة الجسيمة فيما بعد.
- لتعليم الصبر: فعلى الداعية ألا يتأثر بالأحوال، فها هو أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- ما تأثر بموت الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- بل تأثر بالأمر (كيف يعزل أسامة وقد عينه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال كلمة هي سبب قيام الدين في العالم إلى يوم القيامة: “أينقص الدين وأنا حي”.
أخيرًا
فإنّ من رحمة الله تعالى على الانسان أنّه سنّ سُنة الابتلاء في الأرض، فهو يُطهّر العبد من الذنوب، ويحثّ الإنسان على مراجعة نفسه وتصحيح مساره، وهو خيرٌ يرحم العبد يوم القيامة إذا صبر، فيُدخله جنة عرضها السماوات والأرض، قال تعالى: (وبَشّرِ الصابِرينْ).
والابِتِلاء ميراث النبوة، فمن قلّ حظه منه قلّ حظه من ميراث النبوة، والذي يريد الدين بلا أحوال وابتلاءات كالذي يُريد السباحة دون أن يبتل. والبلاء للمؤمن يجعله كالنار في الغابة كلما جاءتها الريح زادتها اشتعالا، والأصل في ذلك قول النبي- صلى الله عليه وسلم- “مَثَلُ المُؤْمِنِ كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وتَعْدِلُهَا مَرَّةً، ومَثَلُ المُنَافِقِ كَالأرْزَةِ، لا تَزَالُ حتَّى يَكونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً واحِدَةً” (البخاري).
المصادر والمراجع:
- الابتِلاء طريق الدعاة إلى الله عز وجل .
- مفهوم الابتلاء في القرآن الكريم .
- المحنة في طريق الدعاة .
- كتاب “الفوائد” للإمام ابن القيم