الدنيا دار الابتلاء والاختبار وليست دار الراحة والطمأنينة والاستقرار، ودار العمل والتكليف وليست دار الأمل والتشريف، لهذا فمَهْمَا علا شأننا فيها من علم ومال وجاه وسلطان وسرور، أو لم تكن أحوالنا كما نرجو؛ فكل ذلك ابتلاء.
والبلاء من السنن الكونية على العباد اختبارا لهم، وتمحيصًا لذنوبهم، وتمييزًا بين الصادق والكاذب منهم. يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]. ولقد مضت سنة الله- سبحانه وتعالى- من قبل ومن بعد أنه ما صدع أحد بالحق وجهر به، ودعا الناس إليه إلا أوذي، والعاقبة للمتقين والنصر للصابرين.
مفهوم الابتلاء
الابتلاء معناه: الامتحان والاختبار، قال ابن منظور في اللسان: وابْتَلاه اللَّهُ: امْتَحَنَه.
وهو يكون بالخير وبالشر، كما قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35].
واِبْتَلاَهُ عَنْ قُرْبٍ: أي اِخْتَبَرَهُ، واِبتلَى أُمُورَ الحَيَاةِ: عَرَفَهَا. واِبْتَلاَهُ بِعِلَّةٍ: اِخْتَبَرَهُ، اِمْتَحَنَهُ.. وفي الحديث: [إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ] (1).
هل الابتلاء عقاب من الله؟
لا يبتلي الله- عز وجل- أحدًا من عباده ليُعذّبه، لكن لرفع درجاته ومحو سيّئاته في الدنيا، حتى لا يُعذّبه بها في الآخرة، وهذا ما يحدث للمؤمن.
يقول أبو الهيثم: “البلاء يكون حسنًا ويكون سيئًا، وأصله المحنة”، والله- عز وجل- يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره” (2).
وهو المعنى الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ” (البخاري ومسلم).
إنّ الابتلاء بالإضافة إلى كونه تصفية وتنقية للإنسان من الذنوب والخطايا، فهو تربية وتهيئة وإعداد لمسؤوليات أكبر، أو إن صح التعبير وكان أكثر دقة، ليتحمل المبتلى الأمانة، التي تتنوع في عالم البشر، تلك الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، وحملها الإنسان.
وهو ما يجب على المرء تلقي أي بلاء بنفس راضية وقلب مطمئن لقدر الله وقضائه، ويسأل الله أن يعينه والأمر بالطبع ليس سهلًا كسهولة الكلام والكتابة والتنظير(3).
بين البلاء والابتلاء
الابتلاء والبلاء في اللغة يأتيان من جذر واحد، ومعناه الاختبار والتجربة، غير أنّ هناك فروقًا بينهما، حيث يرى الإمام أبو هلال العسكريّ صاحب الفروقات اللغويّة أنّ الابْتِلاء يكون من خلال احتمال المكاره والمشقّات، وهو بذلك يختلف عمّا سواه كالاختبار؛ إذ يعني الاستخراج، فكأنّ المُبتلى يُبتلى ليُستَخرجَ ما عنده من المعاصي أو الطّاعات، بينما الاختبار- مثلًا- لا يكون إلّا بالإنعام.
وقال بعض العلماء، إن الابْتِلَاء ينزل على المؤمن فقط لكي يختبره الله- عزّ وجلّ- بينما البلاء يكون للمؤمن والكافر معًا(4).
وَوَرَدَت كلمة الابْتِلاء ومشتقاتها في القرآن الكريم 37 مرة، وهي من المفردات التي يكثر تداولها في أدبيات كتب التفسير والتاريخ والسِّيَر ونحوها من أجل أن تُخفف وطأة وقوعها على قلوب المؤمنين.
يقول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران:186].
وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف: 168]، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35].
وعن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: “قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ” (الترمذي).
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُصِبْ منه” (البخاري). وقال: “إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَى، ومَن سخِط فله السَّخطُ” (الترمذي).
قوانين البلاء في القرآن الكريم
من قوانين الله أن يزداد الابتلاء مع زيادة الإيمان، فمن صبر ورضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ومن هذه القوانين:
- سنة التدافع: قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان: 20].
- العدالة والحكمة: فالعبرة بالنتائج، وأن العاقبة للمتقين مهما اشتدت المصائب، وتعاظمت الكروب.
- القاعدة العامة في العقوبات اﻹلهية التأجيل، لقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [غافر: 45]، ومع ذلك قد تعجل العقوبة لحكمة يعلمها الله.
- الابتلاء يمنحنا الفرصة لإنقاذ النفس من الوقوع أو السقوط فى آفة الطغيان والاستكبار والغرور بما بين أيدينا من أسباب القوة والنعمة(5).
منهج تربوي
الابتلاء ليس كله شر لكنه في كثيرٍ من الأحيان يكون منهجًا تربويًّا يُربّي الفرد والمجتمع ويدفعهم للرجوع إلى الله سبحانه، فهو يعد بحق مدرسة تربوية متكاملة- كما جاء في القرآن، إذ احتوت كامل أبعاد مثلث عملية التربية: وقايةً وإعدادًا، وبناء وتوجيهًا، ومحاسبةً وتقويمًا.
ويؤكد الشهيد سيد قطب في كتابه الظلال ذلك بقوله: “وما بالله- حاشا الله- أن يُعذّب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فالأمة في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق”.
ويقول الله سبحانه في معاني البلاء التربوي: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143)، ففي هذه الآية تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة، التي يُريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة.
لقد وجه الله- سبحانه وتعالى- المسلمين إلى كيفية التّصرف حين حدوث البلاء، فأرشدهم إلى الصبر، وفي آية البقرة نجد الله يذكر أنواع البلاء غير أنه أتبعه بالتوجيه والنصح للمسلمين بالتحلي بالصبر، فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 155- 156)(6).
فوائد البلاء وتوظيفه
إنّ الابتلاء له مجموعة فوائد في مستويات عدة، أبرزها الروحي، والاجتماعي، والوظيفي، وذلك على النحو التال:
- المستوى الروحي: فهو تكفير الذنوب، ويقرِب العبد من ربه ويذكر الإنسان بما به من نعمة، فإنه لا يدرك عظيم النعمة إلا مَن فقدها، ويقلل من تمسك الإنسان بالدنيا، ويذكره بالآخرين من أصحاب الابتلاءات والحاجات المتنوعة، ويخلصه من بعض الصفات السلبية كالغرور والكبر.
- المستوى الاجتماعي: يعمل البلاء على ترابط الجماعة، وتخليصها من المنافقين، ويعرفها بمواطن قوتها وضعفها، وأعدائها من أصدقائها.
- المستوى الوظيفي: يزيد من خبرات الفرد، ويقوي شخصيته ويُوسّع قدراته القيادية.
وتوظيف المعاني التربوية لحكمة الابتلاء يكون من خلال:
- إحياء مفهوم سنة البلاء في عقول النشء وقلوبهم.
- تدريس موضوع البلاء ضمن المقررات الدراسية.
- توظيف مفهوم البلاء في الإسلام لاستنهاض طاقات الأمة.
- تحويل الابتلاءات التي تتعرض لها الأمة إلى طاقة بنّاءة.
- محاربة روح الانهزام والعبثية، ومنع الاتجار بهموم الأمة ونكباتها.
- العمل على إعادة الثقة للمسلمين بدينهم، وإمكانية استعادة دورهم الريادي المساهم أو القائد في الحضارة الإنسانية.
معينات على الطريق
الدنيا كما أنها مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم، فبها- أيضا- مِنَح ومِحَن، وأفراح وأتراح، وآمال وآلام فدوام الحال من المحال، لذا أمر الله عباده بالصبر، فقال سبحانه: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 153]، والصبر سبب بقاء العزيمة، ودوام البذل والعمل، وما يعين عليه:
- الإعداد النفسي: على المسلم أن يُهيِّئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأن يُدرّبها عليها قبل حدوثها، وأن يعمل على صلاح شؤونها لأنّ الصبر عزيز ونفيس، وكل أمر عزيز يحتاج إلى التدريب عليه بشكل لائق.
- معرفة طبيعة الدنيا، ومعرفة حقيقتها وواقعها؛ فهي دار الابتلاء والبلاء، مع حسن الاستعانة بالله سبحانه.
- الإيمان بالقضاء والقدر: فمن علم أن القدر لا يرد ولا يؤجّل اطمأنت نفسه، وهان أمره، والمؤمن أقل الناس جزعًا.
- تذكر حال الرسول- صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح، فتأمل حاله- عليه الصلاة والسلام- عظة وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته كلها صبرًا وجهادًا. كما أنّ الصحابة والسلف حازوا الصبر على خير وجوهه، وهو ما جعل عروة بن الزبير ينطق بعد وفاة ابنه وقطع قدمه: “ولئن ابتلَيتَ لقد عافيت، ولئن أخذتَ لقد أبقيت”.
- استحضار سعة رحمة الله، وواسع فضله لأنّ القنوط يُؤدي إلى عدم الرضا والمؤمن الصادق من يُحسن الظن بالله وينظر للنعم الكثيرة التي وَهَبها الله له بجوار البلاء البسيط، ولو شاء الله لجعل المصيبة أعظم.
- التأسي بالغير من أهل المصائب: تأسوا بغيركم، وتذكروا مصائبهم، وانظروا إلى مَن هو أشد مصيبة منكم فإن في ذلك مما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلل الهلع والجزع، وتذكروا أن “مَن يتصبَّر يُصَبِّرهُ الله” (البخاري).
- التقليل من هول المُصيبة، وعدم تعظيمها لقوله- صلى الله عليه وسلم-: “يا أَيُّها الناسُ! أَيُّما أحدٍ من المؤمنينَ أُصِيبَ بمصيبةٍ، فلْيَتَعَزَّ بمصيبتِه بي، عن المصيبةِ التي تُصِيبُه بغيري، فإنَّ أحدًا من أُمَّتي، لن يُصابَ بمصيبةٍ بعدي أَشَدَّ عليه من مصيبتي” (صحيح ابن ماجه).
- ليتذكر كل منا حسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه فإن الأجر على قدر المشقة، والنعيم لا يدرك بالنعيم، والراحة لا تنال إلا على جسور من التعب.
- كفّ النفس عن تذكر المصيبة مع الابتعاد عن العزلة والانفراد، واشتغل بالأوراد المتواصلة والقراءة والأذكار والصلوات، واجعلها أنيسك ورفيقك فإنه بذكر الله تطمئن القلوب.
- ترك الجزع والتشكي: فالجزع لا يرد الفائت، ولكنه يحزن الصديق ويسر الشامت، ولا تقرنوا بحزن الحادثة قنوط الإياس فإنهما لا يبقـى معهما صبر، ولا يتسع لهما صدر(7).
إن من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتخلف أنه لا بُد من تعرض الناس إلى الابتلاء والبلاء، ليظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، والصابر من العاجز والجازع، وليميز كل فريق عن الآخر، ومن يتأمل التاريخ لا يكاد يرى إنسانًا إلا وقد ابتلي بنوع من أنواع البلاء، لذا فالصبر واجب، والرضا مستحب زائد.
المصادر والمراجع:
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، المجلد الأول، دا رالفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، 2019، صـ317.
- عبدالله العمادي: هل الابتلاء عذاب إلهي؟
- أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، طـ9، 1991، صـ10.
- عبدالسميع الأنيس: قوانين الابتلاء في القرآن الكريم، 13 يوليو 2016
- أحمد بن صالح الخليف: عشر وصايا للصبر على المصائب، 8 نوفمبر 2007