يسمح برنامج الابتعاث إلى الخارج للطلاب أو الموظفين بالدراسة أو التدريب في بلد آخر، سواء من الحكومة أو من مؤسسة خاصة، وهو تجربة غنية وملهمة، لتعلم مهارات جديدة، واكتساب خبرة دولية، وتوسيع الآفاق الثقافية، وتحسين المهارات اللغوية، وغيرها من الفوائد الكثيرة.
لكن هذه الرحلة العلمية تحفها المخاطر من كل جانب، للحد الذي جعل فريق من العلماء يحث على توقفها وإيجاد المنشآت التعليمية على المستويات العالية في بلاد المسلمين للاستغناء عن الذهاب للخارج وجلب الخبراء من المعلمين الذين يدرّسون باحترافٍ؛ للارتقاء بمستويات الطلاب بدلاً من إرسال الطلاب هناك، ومع ذلك فمن اضطر إلى السفر للدراسة وتحصيل العلم عليه التحصن بمجموعة وصايا تربوية حث عليها الإسلام.
خطورة الابتعاث
وتتعدد خطورة الابتعاث إلى دول الشرق والغرب، سواء على المستوى العقدي أو الفكري أو السلوكي أو الأمني، ومن بين هذه المخاطر:
- آثار أخلاقيَّة سيئة: كتيسر الخمور والمخدرات، ووقوع جملة من شبابنا في شراكها، وتيسير أبواب الفواحش، والملاهي، والمراقص، ووسائل الإفساد.
- غزو فكريِّ: فابتعاث أبناء المسلمين، إلى الجامعات الأوربيَّة والأمريكيَّة وغيرها، وبعد إكمال دراستهم، وعودتهم إلى بلادهم، وتسلُّمهم المناصب الكبيرة في الدَّولة، ينفذون خطط المستعمر بكلِّ دقَّة سواء بقصد أو دون قصد.
- تأكيد العبودية للغرب: والله- عز وجل- حرّم علينا مطلقا التبعية للكفار, وحظر علينا أن نكون ذيولاَ لغيرنا, والاستسلام لفكرة الابتِعَاث والمضي فيها إلى أبعد مدى يُؤثّر مثل هذا التأثير الهدّام, لأننا أمة أكد الله خيريتها. قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110].
- إضعاف عقيدة الولاء والبراء: الولاء للمؤمنين والعداوة للكافرين، قَالَ تَعَالَى: (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) [المجادلة: 22]. وأمر الله بالهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام، فقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء: 97]. قال ابن كثير: “هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكبًا حرامًا بالإجماع”.
- تأثير ثقافي: فالتحاق المبتعثين بدور التربية والتعليم التي تؤصل لثقافة الغرب، ومخالطتهم لذلك المجتمع وحضارته، يجعلهم عرضة للتأثر الثقافي في حال غياب الحصانة الكافية أمام الشبهات المضللة، والشهوات الميسرة في البيت والشارع والمدرسة والسوق، في بلد يفخر أنه متعدد الثقافات، حر في الاختيارات، معتبرًا كل سلوك أو فكر أو معتقد حرية شخصية.
- التخلف في اللغة الأم: وهي من الآثار الخطيرة, وقد يكون هذا التخلف سببا يدعوه إلى الإساءة للغته وأمته، فيؤكد- مثلا- بقاء تدريس العلوم التجريبية والتطبيقية باللغة الأجنبية, ليغطي عجزه وليؤدي العمل المطلوب منه بأسهل سبيل وأقل جهد.
- التنصير: وإن كان هذا الأمر نادرًا إلا أنه خطير، حيث ينهمك المبتعث في الحياة الغربية المادية التي تقصي الدين، وتربي المبتعث على أن لا علاقة بين الدين والحياة، فالمادية في بلاد الغرب هي المسيطرة على الفكر والسلوك، بحيث أصبح الإشباع المادي هو الهدف الرئيس للحياة. وهي حرية بهرت أعين البعض من المبتعثين وجعلوها سلما لتتبع ملاذ أنفسهم أو الجرأة والطعن في بعض أحكام الشريعة.
- تغير السلوك الاجتماعي: ولعل أظهر تغير في هذا السلوك القضايا المتعلقة بالحجاب، والاختلاط بين الجنسين والعلاقات الأسرية، والألفة لأسلوب الحياة الجديدة، والتعود على الممارسات الاجتماعية، وعدم استغراب المسلمات الثقافية لهذه الثقافة الجديدة، مما يكون له الأثر البالغ على المبتعث ومن يعول في التحولات في السلوكيات الاجتماعية، والميول النفسية.
- ضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فكثرة رؤية المنكرات للمسافر هناك من إضاعة الصلوات وتبرج النساء، وبيع المحرمات، وغير ذلك يضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قلب المسلم وهو مأمور بإنكار ما يخالف الشرع، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي اللهُ عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى اللهُ عليه وسلم- قَالَ: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ”.
كيف نحمي أنفسنا من الفتن أثناء الابتعاث؟
وعلى الرغم من تعدد مخاطر الابتعاث إلى دول الغرب أو الشرق، فإن المسلم الذي يرغب في الذهاب إلى رحلة علم لتطوير نفسه وإفادة دينته وأمته، على التحصن بهذه النصائح ليأمن الفتن:
- الحرص على الرفقة الصالحة، وإيجاد المحضن التربوي، عبر انتقاء بعض الزملاء، والسعي لإقامة الدروس والبرامج الدعوية، وأداء الصلوات في جماعة، والبحث عن فاضل صالح يتولى الإشراف عليه ومتابعته، فإن الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ” (أحمد وأبو داود والنسائي).
- شغل الوقت بما ينفع في الدين والدنيا، من حفظ القرآن الكريم، وتلقي العلم، وتعلم لغة القوم، فإن الفراغ رأس الشر وأسّه بالنسبة للشباب، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
- البحث عن المراكز الإسلامية القريبة، والتواصل مع المسلمين هناك، والمشاركة في الأعمال الصالحة الممكنة، فإن ذلك مما يزيد الإيمان، وبزيادته تكون العصمة من الشهوات والانحرافات.
- اللجوء إلى الله تعالى والاعتصام به، وسؤاله الوقاية من الفتن، فإنه لا عاصم منها إلا هو سبحانه.
- استشعار مراقبة الله تعالى، والحياء منه أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك، فمهما دعتك نفسك للمعصية، فتذكر أن الله رقيب عليك، وإذا كنت تستحي من إخوانك أن يروك على معصية، فإن الله أحق أن يستحيى منه، فعَنْ سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ: “أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، قَالَ: “أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ” رواه أحمد، والبيهقي والطبراني وصححه الألباني).
- الزواج متى أمكن ذلك، ولا نؤخر ذلك حتى الانتهاء من الدراسة أو العودة إلى الوطن، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر المستطيع من الشباب أن يتزوج فقال: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ منكم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ” (البخاري ومسلم).
- الحرص على طيب المطعم والمشرب، فإن لذلك أثرا في صلاح القلب واستقامته.
- الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر الاستطاعة، فإن ذلك من أعظم أسباب الثبات على الحق، والمرء إذا لم يدع غيره، جاءه من يدعوه غالبا، وانشغال الإنسان بالدعوة، وسلوكه سلوك الدعاة، يحول بينه وبين منكرات وأفعال قد يقع فيها غيره.
إن الابتعاث ليس كله شر، لكن من أراد خوض هذه التجربة، لا بد من أن يحصن نفسه من الفتن المنتشرة في بلاد الغرب والشرق، وأن يُحدّد هدفه من الذهاب وتحصيل العلم، حتى لا يذوب في بوتقة تلك الحضارات التي لا تعرف شيئًا على الالتزام الديني والخلقي.
مصادر ومراجع:
- فيصل بن عبدالله العمري: خطر الابتعاث.
- محمد صالح المنجد: الابتعاث.
- ناصر بن سلمان العمر: ترشيد الإبتعاث بضوابطه.
- سعد بن ناصر الغنام: هل الابتعاث خطر؟
- إبراهيم القعيد: الطلب المسلمون في الغرب، ص 90.
- سالم البهنساوي: حرية الرأي الواقع والضوابط، ص 47.
- محمد أبو زعرور: العولمة ماهيتها ونشأتها، ص 7-13.
- ابن كثير: تفسير ابن كثير 2/389.