عالمٌ ومؤرخٌ وأديبٌ وفقيهٌ شافعي، لكنه كان – أيضًا- تربوي فذ، وله نظرياته في السلوك الإنساني، إنه الإمام جلال الدين السيوطي الذي وُلد وعاش في القاهرة بعد كثير من الأحداث الجسام التي ابتليت بها الأمة الإسلامية، وعلى رأسها سقوط الخلافة الإسلامية على يد التتار في بغداد عام 1258م، بالتوازي مع سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس، مما كان له أثره عليه.
اشتهر جلال الدين بالورع والزهد وحب الآخرين، بل تناقل عنه الناس كرامات وصلت إلى حدّ الأساطير، وضريحه في منطقة القيسارية بحي غرب أسيوط يحتفل به أهالي أسيوط وأتباع الطرق الصوفية، كل عام في ذكرى ميلاده.
لقد عشق- هذا العارف بالله- العلم فانصب جل وقته على التأليف ووضع الأُطر الفكرية لمَن جاء بعده حتى إنه اعتزل الناس من أجل التأليف أواخر حياته، فساهم في تنشيط وتطوير الفكر التربوي الذي اهتم كثيرًا بالعقل وتغذيته وأساليب التربية ما بين الترغيب والترهيب بوسائل مُحببة للنفس.
من هو جلال الدين السيوطي؟
هو الإمام عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد سابق الدين خضر الخضيري الأسيوطي، المشهور باسم جلال الدين السيوطي، ولد في القاهرة غرة شهر رجب سنة 849هـ الموافق أكتوبر 1445م، وعاش بها.
وقد وُلد هذا العلامة في أسرة اشتهرت بالعلم والتدين، وكان أبوه من أحد علماء عصره، ومدرسًا للفقه الشافعي، فتَتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم، إلا أنه تُوفي وابنه ما زال صغيرًا، فعاش جلال الدين يتيم الأب، لكن والدته قامت على تربيته، فحفظ القرآن وعُمره ثمان سنوات وأخذ بكثير من العلوم وهو ما زال صغيرًا حيث دفعت به أمه إلى الشيخ الكمال بن الهمام ليؤدّبه ويعلمه.
تأثر جلال الدين بكبار العلماء الذين تواجدوا في عصره، وأُجيز بتدريس اللغة العربية مع إصدار أول كتاب له شرح الاستعاذة والبسملة وهو ابن سبعة عشرة عامًا وقد بلغت مؤلفاته ما يزيد على الثلاثمائة كتاب ما بين علوم التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ والطبقات.
ظل يعيش وسط بحور العلم سنوات حتى مرض في آخر حياته وتوفّاه الله ليلة الجمعة 19 من جمادى الأولى عام 911هـ الموافق 17 من أكتوبر عام 1505م في منزله بروضة المقياس (1).
تأثير السيوطي
ترك السيوطي بحورًا متعددة في شتى العلوم مما كان لها إسهامات على من عاصره أو جاء بعده، وهي التي وصفها بقوله: “رُزِقتُ التبحُّرَ في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع، بالإضافة إلى أصول الفقه والجدل، والقراءات التي تعلَّمها بنفسه، والطب”.
فنراه قد تتلمذ على يده شمس الدين الداودي صاحب كتاب “طبقات المفسرين”، وأيضا شمس الدين بن طولون، وشمس الدين الشامي محدِّث الديار المصرية، والمؤرِّخ الكبير ابن إياس صاحب كتاب “بدائع الزهور”.
وتتلمذ على يديه قاضي القضاة برهان الدين بن ظهيرة الشافعي، وقاضي القضاة نور الدين بن أبي اليمن المالكي، ونور الدين السنهوري شيخ مالكية عصره، وفخر الدين المقدسي فقيه الشافعية.
وقد تميز هذا العالم الجليل بالموسوعية، وجمع الأقوال والنقول في المسألة الواحدة، بحيث يُشعبها تحريرًا، سواء كان الموضوع مخترَعًا أم مجموعًا (2).
السلطة الحاكمة
كانت مصر تتنازعها سلطتان إحداهما اسمية والأخرى فعلية، حيث انتقلت الخلافة العباسية إلى مصر بعد اجتياح التتار لبغداد عام 1258م وكان السيوطي يجلها ويكن لها كامل الاحترام لرمزيتها حتى إنه ألّف بعض الكتب عن بني العباس يمتدحهم.
أما السلطة الأخرى فكانت المماليك وكانت علاقته بهم على حذر لكنه لم يتواصل معها وكان يرفض هداياها، لكن كان يدعو لها بالخير والنصر على الأعداء، لأنه كان يراها أداة في إقامة العدل وردع العدو، وقد عاصر ما يقرب من ثلاثة عشر سلطانا مملوكيًّا، لم يداهن منهم أحد لكنه كان يناصرهم في الحق، وكان يعمد من وراء ذلك حفظ هيبة العلم والعلماء (3).
رؤيته في التعليم الإسلامي
للتربية والتعليم الإسلامي منذ البداية هدف وهو بناء العقيدة الإسلامية وغرسها في نفوس المسلمين لبناء مجتمع مسلم مبني على العقيدة السليمة، ومع توسع صرح الدولة الإسلامية توسع الهدف بإعداد الفرد المسلم الصالح المُسلّح بالعقيدة الإسلامية لإنشاء دولة الإسلام القوية.
استمرت المنظومة التعليمية في التطور حتى بلغت ذروة مجدها التنظيمي في عصر الإمام السيوطي حيث اهتم المماليك في بدايتهم بهذا الجانب، فحرصوا على مجّانية التعليم ومصاحبة العلم العمل والعناية بوظيفة التدريس، وبخاصة أنّ المماليك ورثوا تركة مُثقلة بعد ضياع مكتبة بغداد تحت أقدام التتار.
سار جلال الدين على الطرق التعليمية التي سلَكها السلف من حيث السؤال والقصّة والترغيب والترهيب والقدوة، واستخدم في ذلك كثيرًا من الوسائل، مثل السماع والعرض والمذاكرة حتى يُحفظ العلم.
ولقد اهتم ببعض موضوعات التعليم وأهمها علوم القرآن والتفسير، وترك تفسير الجلالين في ذلك، كما كان له الفضل في حفظ كثير من الكتب التي كادت أن تندثر (4).
منهجيته في التأليف والتعليم
تميز السيوطي بأسلوب فريد في كتابة الرسائل المعبرة حيث كان يكتبها إذا تملكه الغضب من أحد، فلم يكن يكلمه بلسانه لكن كان يسارع إلى قلمه وقرطاسه فيُسجل ما أغضبه في مسائل وصفها بقوله: “خالفني أهل عصري في خمسين مسألة فألفت في كل مسألة مؤلفًا بينت فيه وجه الحق”، فوضع بذلك الفكر منهجا تربويا في نفوس الطلبة ومن جاءوا بعده.
أيضا كان يقدم السيوطي في بداية كتابه منهجه الذي يسير عليه في الكتاب وفكرته مما يجعل القارئ يتعرف على منهج المؤلف من بداية الكتاب (5).
آراء في التربية والتعليم
وتميز فكر الإمام السيوطي في التربية الإسلامية، بالعناية بدراسة النفس الانسانية وما يتعلق بها من ورع وتقوى وزهد.
وقد تميزت آراؤه التربوية بعدة أمور كالبحث عن أشياء تتعلق بالنفس الإنسانية وما يدور في خلجاتها من خوف وقلق، مع الالتزام التام بالكتاب والسنة، ووضع أبحاثًا تتوافق مع واقع المجتمع الذي عاش فيه، لذا وضع آدابًا للعالم والمتعلم باعتبار أن المعلم هو مُفسّر ومُحدث ومُقرئ وفقيه، ووضع أساليبًا لتربية النفس الإنسانية وأهدافًا للتعليم وقسّم العلم والعلماء، ووضع صفات لكل علم.
فذكر من آداب العالم “إخلاص النية، والتخلّق بآداب القرآن في تعليمه، والعناية بالجسم من نظافة وصحة وطهارة، والتواضع والبعد عن الكبر، والتحريض على التعلم بالاعتناء بمصالح المتعلمين والصبر على بطء فهمهم، والخوف من الله، وعدم الجدل والمراء”.
وذكر – أيضا- آداب المتعلم ومنها: “طلب العلم في سبيل الله تعالى، وحسن الصمت، وطهارة القلب، والتواضع، واحترام المعلم” (6).
التربية السلوكية
يرى الإمام السيوطي أنّ التربية السلوكية هي الاهتمام بسلوكيات الفرد من أجل تحسينها والرقي بها لأعلى الدرجات، وذلك من جميع الجوانب النفسية والاجتماعية والخلقية.
لذا فقد اهتم -رحمه الله- بالانسان وإعداده الإعداد السليم، كما اهتم بالفرد من جميع النواحي الجسمية والعقلية والاجتماعية ووازن بين النظرية والتطبيق وكانت أفعاله هو شخصيًّا نتيجةً لأقواله، حيث تفرّغ للعلم وبعد عن السلطان ورفض عطاياهم وترفعت نفسه عن ملذات الدنيا وشهواتها، وعاش ورعا متواضعا. كما اهتم – أيضا- بأسلوب الترغيب والترهيب في التربية حيث يعتبرهما أمران ضروريان في التربية (7).
أهداف التعليم
اعتبر السيوطي أنّ العلاقة بين التعليم الديني والتربية علاقة عضوية، لذا اتسمت أهدافه بهذا المعنى كالتالي:
- هدف ديني: وهذا الهدف ينبثق من غرس العقيدة الإسلامية في النفوس، وتتمثل في الانقياد لأوامر الله – عز وجل- وتحقيق العبودية له واتباع أوامره واجتناب نواهيه. وهو ما جعله يهتم بجميع العلوم الإسلامية، خصوصًا القرآن والسنة وهو ما نذر لهما حياته.
- هدف إصلاح الخلق: حيث سادت في العصر المملوكي بعض من صور الفساد – وبخاصة في عصره-، بسبب الظروف الداخلية الخارجية، ونتيجة للانفتاح على الحضارات الخارجية، فأخذ يدعو إلى التمسك بالفضيلة وأخلاق الإسلام.
- ربط العلم بالواقع: فقد جعل من واقع المجتمع موضوعًا لدراسة الفقه والاجتهاد مراعيًا حاجات المجتمع ومشكلاته، ولهذا قسّم العلماء علماء دنيا وعلماء آخرة (8).
مكانة العقل
العقل هو سبب الإدراك والتميز، كما أنه آله التكليف عند الإنسان. والعقل عند السيوطي له معنيان هما: الأول الداعي إلى الإيمان، والمعنى الثاني: هو سبب الإدراك والتميز.
كما أن العقل عنده له ثلاث أوجه، هي:
1- عقل مولود مطبوع: وهو عقل بني آدم الذي فضلهم به على الأرض وهو محل التكليف والأمر والنهي وبه يكون التدبير والتمييز.
2- عقل التأييد: الذي يكون هو والإيمان معاً وهو عقل الأنبياء والصديقين.
3- عقل التجارب والعبر: وهو الذي يأخذه الناس بعضهم عن بعض.
والإمام جلال الدين في تعريفه للعقل لم يخرج عما جاء في الكتاب والسنة، فكلامه عن العقل مستندًا إلى آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. والعاقل عنده هو الذي يحبس نفسه ويردّها عن هواها، وأيضًا مَن عقل عن الله أمره ونهيه.
كما أنه حثّ على التفكر في آيات الله وتربية العقل على التحري والبحث، ونهى عن التقليد وذمه (9)، وهو ما جعله من أئمة القضاء على مظاهر التخلف التي كانت موجودة في عصره.
المصادر:
- مصطفى الشكعة: جلال الدين السيوطي: مسيرته العلمية ومباحثه اللغوية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1994م، صـ5- 62 بتصرف.
- راغب السرجاني: السيوطي الموسوعي المجتهد، 25 يونيو 2014،
- سعدي أبو حبيب: حياة جلال الدين السيوطي مع العلم، من المهد إلى اللحد، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1993، صـ72، 73.
- أحمد عبدالرحيم ربابعة: الفكر التربوي عن الإمام السيوطي (رسالة ماجستير)، كلية الشريعة، جامعة اليرموك، السعودية، 1984، صـ48- 60 بتصرف.
- عصام الدين عبد الرءوف: مؤلفات السيوطي، بحوث ألقيت في القاهرة، 1976م، صـ 108- 114.
- أحمد عبدالرحيم ربابعة: مرجع سابق، صـ69- 73.
- داود الفاعوري: منهج السيوطي في إحياء الفكر الإسلامي، ندوة مؤتة، عام 1993م، صـ27.
- أحمد عبدالرحيم ربابعة: مرجع سابق، صـ92- 96.
- السيوطي: صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، صـ151، 181.