كان الإمام الزركشي من جُملة العلماء الرّبانيين أصحاب الهِمم العالية في تحصيل العلم النافع، حيث كانت همّته عالية ويتمتع بذاكرة قوية، وقد أقبل منذ صغره على العلم فلازم الشيوخ، وعايش الكتب، ورغم المشكلات السّياسية والمتاعب الاجتماعية في عصره، فإنه لم يتأخر عن خدمة العلم بأمانة وإخلاص، وضحى بالمال وزهد في السلطان، وسخّر نفسه لخدمة الدين والعقيدة ولم يبخل بنصح أو توجيه أو تربية، وعشق الرحلة في طلب العلم وهو في الثامنة عشرة من عمره، وصنّف الكتب وهو في الرابعة والعشرين، فكان جديرًا بالمكانة العلمية العالية التي وصل إليها رحمه الله.
نشأة الإمام الزركشي ورحلته العلمية
وُلِدَ الإمام الزركشي في مصر سنة 745هـ، وهو تركي الأصل، واسمه بالكامل محمد بن عبد الله بن بهادر بن عبد الله الزّركشي، أبو عبد الله بدر الدين، وقد كان فقيهًا أصوليًّا أديبًا، ودرس وأفتى، وكان أكثر اشتغاله بالفقه وأصوله وعلوم الحديث والقرآن والتفسير، وترك فيها أكثر من ثلاثين مصنفًا.
وترعرع الزّركشي بين كنف عائلة بسيطة، فكان والده مملوكا لأحد الأعيان وعُرف باشتغاله بصناعة الزّركش- وهي صناعة تقليدية كانت منتشرة في عصره-، وما لبث الابن أن التحق بوالده في مزاولة هذه الصنعة لتخفيف أعباء المعيشة التي أثقلت كاهله، لكن الله تعالى قدر له شأنًا آخر.
لقد شاءت الرعاية الربانية أن يتوجه إلى معاقل العلم في مصر تاركا وراءه صنعة أبيه، فبدأ اشتغاله بأصناف العلوم، وحفظ أمهات الكتب في كل فن، ومنها المنهاج للإمام النووي فَسُمِّي بالمنهاجي، وحينما اشتد عوده أكمل شرحه وألف عليه شروحًا وحواشيَ، وحفظ التنبيه للشيرازي.
ورحل الزركشي إلى مراكز العلم المشهورة في عصره، فقصد دمشق وسمع بها الحديث سنة 752ﻫ وعمره آنذاك 7 سنوات فقط، ثم رحل إليها مرة ثانية سنة 763ﻫ وعمره 18 سنة. ودخل مدينة حلب وأخذ العلم عن علمائها، وعني بالفقه، والأصول، والحديث. وأفتى ودرس، وألف تصانيف كثيرة في عدة فنون لنفسه ولغيره.
وما يدل على تمكنه في فترة مبكرة من حياته، أنه استعار من شيخه الحافظ البلقيني نسخته من الروضة مجلدًا بعد مجلد فعلّق على الهوامش من الفوائد، وجمع حواشي الروضة المذكور سنة 769ﻫ، وعمره آنذاك 24 سنة فقط، ومع ذلك فإن الزركشي لم يشتهر إلا بعد وفاته، بسبب ميله إلى العزلة، وتفرغه التام للعلم تعلمًا وتعليمًا، وزهده في الدنيا وملذاتها، وعدم حرصه على المناصب الرسمية.
ومن أبرز من تتلمذ الزركشي على أيديهم: الإمام اللغوي الجمال ابن هشام صاحب التصانيف البديعة،، والإمام الحافظ مُغُلْطَاي بن قِلِيجْ المتوفى سنة 762ﻫ، وابن الحنبلي الشافعي المتوفى سنة 774ﻫ، والحافظ المؤرخ المفسر ابن كثير المتوفى سنة 774ﻫ، وابن أميلة صلاح الدين أبو حفص المراغي، المتوفى سنة 778 هـ، والحافظ الإمام سراج الدين البلقيني العسقلاني، المتوفى سنة 805ﻫ.
ومن أشهر تلاميذ الزركشي، الشمني الإسكندري المالكي المتوفى سنة 821ﻫ، والإمام العالم المفنن قاضي القضاة نجم الدين عمر الشافعي أبو الفتوح المتوفى سنة 830ﻫ، والبرماوي، محمد بن عبد الدايم بن موسى المتوفى سنة 831ﻫ، ومحمد الطُوخي أبو الفتح المتوفى سنة 838ﻫ، ومحمد بن أحمد بن محمد بن عثمان الكِنَاني العسقلاني المتوفى سنة 852ﻫ، وابنه محمد بن محمد بن عبد الله الزركشي.
وبعد العطاء الكبير الذي قدّمه الزركشي، وما خلفه من آثارٍ علميةٍ كبيرة، تُوفّي يوم الأحد 3 رجب سنة 794ﻫ، بالقاهرة، ودُفن بالقرافة الصغرى، بالقرب من تربة الأمير بكتمر الساقي، وكان عمره حينئذ 49 سنة.
الفكر التربوي عند الإمام الزركشي
ومن خلال النظر في سيرة الإمام الزركشي يمكن الوقوف إلى العديد من الجوانب التربوية في حياته، وأبرزها ما يلي:
- أكد ضرورة الاشتغال بإصلاح النفس، وعدم تضييع الوقت في القيل والقال ومصاحبة البطّالين.
- اهتم بالقراءة واصطياد الفوائد العلمية، وهو ما ظهر في مؤلفاته التي بلغت نحو 65 كتابًا في عمره الوجيز.
- فطن إلى أن الزهد في الحياة سبب من أسباب إقبال الناس عليه وقبولهم العلم منه.
- اهتم بجانب التربية الروحية لمريديه، كونه شيخ خانقاه كريم الدين، التي كانت مقر الصوفية المتعبدين، وكانت مهمة الشيخ تلقين مريديه أورادهم والحرص على تربيتهم وإرشادهم.
- اهتم بحسن تربية عائلته، وتعليمهم العلم وإشراكهم في سماع الكتب وأخذ العلم عن أفواه المشايخ.
- اشتهر بحب المطالعة، فكان يطالع الكتب في سوق الكتبي طول نهاره، ومعه ظهور أوراق يعلق فيها ما يعجبه من الفوائد والملح، ثم يمضي آخر اليوم إلى بيته فينقل ما كتب إلى كتبه ومصنفاته.
- كان يفضل العزلة، فلا يختلط بالناس إلا لتدريس، أو تربية، أو فتوى، أو حاجة ملحة.
- لم يكن مبالغا في الاعتناء بنفسه ولا بمظهره، بل آثر التواضع والتقلل من متع الحياة، والتفرغ الكامل للعلم، وكان له أقارب يكفونه أمر دنياه.
- أكد أهمية طلب العلم في سن صغيرة، حيث توجه لسماع الحديث وهو في سن السابعة، وسمح له اطلاعه الواسع بولوج باب التأليف في سن مبكرة، حيث ألف أول كتاب له وهو في سن الرابعة والعشرين، ووضع شرحًا على كتاب الروضة للبلقيني، فكان أول من جمع حواشي الروضة، ومن أبرز كتبه ما يلي:
- البرهان في علوم القرآن.
- إعلام الساجد بأحكام المساجد.
- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة.
- البحر المحيط في أصول الفقه.
- خبايا الزوايا.
- زهر العريش في تحريم الحشيش.
- سلاسل الذهب.
- معنى لا إله إلا الله – الزركشي.
- التذكرة في الأحاديث المشتهرة = اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة.
- المنثور في القواعد الفقهية.
- النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي.
- تشنيف المسامع بجمع الجوامع.
لقد كانت حياة الإمام الزركشي حافلة بالعلم والمعرفة، ومليئة بالسفر والترحال في سبيل تحصيل العلم وأخذه من خيرة أهله ليعلمه للناس ويربيهم على المنهج الإسلامي القويم، واهتم الزركشي بالتصنيف اهتمامًا كبيرًا، فكتب بخط يده مؤلفات كثيرة طيلة حياته، فألف في علم الحديث وفي أصول الفقه الإسلامي وفي السيرة النبوية وألَّف في علوم القرآن والتفسير، فكانت حياته من أولها إلى آخرها موغلة في العلم وقائمة على التصنيف والتأليف وتربية الأجيال، قبل أن توافيه المنية في 3 من شهر رجب عام 794 هـ.
مصادر ومراجع:
- ابن كثير: البداية والنهاية 12/124.
- المقريزي: السلوك 5/330.
- السيوطي: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1/437.
- ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة 4/ 17-18.
- عماد الحزاني: نبذة عن الإمام الزركشي.