وَهَبَ الله – سبحانه وتعالى- قريش الأمن النفسي والطمأنينة حينما آمنهم من خوف، لمكانة الحرم الذي عاشوا حوله، فاستقرت أمورهم ونجوا من حروب القبائل الأخرى، والقاعدة نفسها وضعها النبي – صلى الله عليه وسلم، لمّا قال: “مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا”، ليسبق الإسلام علماء النفس في الغرب والشرق ممن اعتبروا هذه القاعدة على رأس سلم هرم الأولويات لاستقرار الإنسان.
وتتضمن هذه القاعدة، الأمن الصحي والديني والقانوني والاقتصادي والثقافي والتربوي والاجتماعي، وهي بمثابة جدار حماية لكل أفراد الأسرة والمجتمع وتُساعد على الارتقاء بالمجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
والإسلام دعم الأمن وحثّ المسلمين عليه، فالإيمان بالله واليوم الآخر والحساب والقضاء والقدر والنظر إلى الدنيا على أنها زائلة، كل هذه الثوابت التي يُؤمن بها الإنسان المسلم تُؤدي إلى أمنه نفسيًّا وصقله بالاتزان والطمأنينة وتحريره من الاضطراب والقلق، وهو ما يجب أن يتربى جميع أفراد الأسرة عليه حتى تتحقق لهم راحة البال.
معنى الأمن النفسي
الأمن النفسي الذي ينشده الإنسان هو الراحة والاستقرار النفسي، وهو مفهوم لا شعوري يبحث عنه الطفل مُنذ ولادته ويستمر معه طوال حياته.
فلفظ الأمن وَرَدَ في اللغة بمعنى الاطمئنان، كما أنّ كلمة الأمن وما يشتق منها وردت في القرآن الكريم في مواضع عديدة، بمعنى السلامة والاطمئنان النفسي وانتفاء الخوف على حياة الإنسان.
ويُعرّفه صالح الصنيع بقوله: “إنه سكون النفس وطمأنينتها عند تعرضها لأزمة تحمل في ثناياها خطر من الأخطار، كذلك شعور الفرد بالحماية من التعرض للأخطار الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية المحيطة به” (1).
وعرّفه العلامة أحمد الشرباصي بقوله: “الثبات والاستقرار النفسي، ويتحقق هذا بأمور منها اليقين بالحق وانتفاء الظن والشك من النفس، وأن تكون آمنة لا يستفزها خوف ولا حزن وأن تنتهي بآمالها ورغباتها إلى ربها” (2).
أهمية الأمن النفسي
لا تستقيم الحياة دون تحقيق الأمن النفسي الذي يجب أن يشعر به كل إنسان لكونه من الحاجات الأساسية التي يُعد إشباعها مطلبًا رئيسًا لتوافق الفرد، كما يُعد حافزا قويًّا للسلوك يتشكل منذ الطفولة.
والشباب أشد احتياجًا للأمن النّفسي، ليعبر صعوبات الحياة التي تواجهه في هذه المرحلة التي تمتاز بالتمرد وكثرة التناقضات والصراع وحِدّة الأزمات النفسية، فكثرة العوامل والمؤثرات التي تُحيط بهم من الداخل والخارج؛ تُفقدهم الراحة والطمأنينة وتجعلهم في حالة ماسّة إلى من يأخذ بيدهم ويوجههم ويُساعدهم على التكيف مع أنفسهم ومع مَن حولهم.
ولا يتوفّر الأمن إلا في جوّ من الحرية والاستقرار، لأنّ النقص في الحرية يدفع الأفراد للهروب من أجل حريتهم، وهذا ما نُشاهده ونعيشه في الوقت الحاضر.
كما تزداد الحاجة إلى الأمن والطمأنينة كلما تقدم الإنسان في العمر لما يعتريه من ضعف ولكي يعيش متوافقًا مع نفسه ومع الآخرين، قادرًا على ممارسة دوره في الحياة بفاعلية ونجاح (3).
الأمن والطمأنينة من منظور الإسلام
لقد جاء الإسلام بمفهوم واسع عن الأمن النفسي حيث اهتم بأمن الأفراد والجماعات بل والشعوب، فكانت من النّعم العظيمة التي وهبها الله – سبحانه وتعالى- لقريش، فقال سبحانه: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش:4].
بل وصف بها واقع بعض المجتمعات التي كانت آمنة مُطمئنة، بسبب إيمانها بالله سبحانه، فما إن كفرت بهذه النعم وجحدت بها حتى سلبها الله منها، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ففي هذه الآية وضع الله سُبل الأمن والطمأنينة وهي شكر نِعَمه سبحانه وتعالى، فللإيمان دور في شعور الفرد بالأمن.
ومن الأساليب التي حث عليها الإسلام لتحقيق القاعدة الغالية، البعد عن مواطن التهلكة، فقال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
والتوافق بين الرجل والمرأة في إطار الشرع وهو ما يبعث على الراحة النفسية وتحقيق الأمن النفسي بين الطرفين وينتقل إلى أبنائهما، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
ومن الأساليب – أيضًا- التربية الحسنة وحُسن الخلق اللذان يبعثان على شيوع الأمن بين الناس لعدم وجود مَن يُسبب لهم الفزع أو الخوف أو الرعب، كما يؤدي بدوره إلى الصحة النفسية وإلى حسن العلاقات الاجتماعية، والتماسك الاجتماعي، والتعاون والأخذ والعطاء.
وكذلك الحجاب من مصادر الأمن للمرأة لالتزامها بأمر ربها واحتشامها مما يحصنها من عيون المتربصين (4).
دور الآباء في تحقيق الأمان النّفسي
إن التربية النفسية في العائلة والمدرسة والصف تُساعد الطفل بصورة كبيرة على إتمام وصيانة الأمن النفسي الذي يبحث عنه، ومن متطلبات هذا الأمن “القدرة على مواجهة الصعاب وتحمل المسئولية، وتقبل الآخرين، والقدرة على العمل وتوفير مستلزمات الحياة”.
فالآباء عليهم مسؤولية كبيرة في توفير هذا الأمن عن طريق العمل على استقرار الأسرة واحترام جميع الأطراف، ونشر الحب والمودة، والبعد عن مواطن الخلاف التي قد تُهدد كيان الأسرة ومستقبل الأولاد وتجعله مصدرًا دائمًا للخوف والقلق.
أضف لذلك أساليب التربية الخاطئة التي يُمارسها الآباء من الخوف الزائد على الأولاد ومن ثمّ الحماية الزائدة التي تجعل الأولاد لا يثقون إلا في آبائهم، ويخافون من كل شيء محيط بهم مما يجعلهم في قلق نفسي دائم.
ويجب على الآباء الحذر من عدم العدل بين الأبناء في المعاملة لِمَا لها من تأثير نفسي عليهم وعلى العلاقة بينهم، ويخلق المشاحنات والبغضاء بينهم، وتظهر مظاهر انعدام الطمأنينة عندهم، ما قد يؤدي إلى تبول لا إرادي وأحلام مزعجة.
ومن واجبات الآباء توفير الاحتياجات الأساسية للطفل كالغذاء الصحي، والنوم الكافي، واللباس النظيف، والحماية من المثيرات والصدمات التي يتعرض لها والتي قد تثير فيه مكامن الخوف والفزع كالخوف من الحيوانات، أو استشعاره بتربص أحد له، أو أفلام الرعب.
ومن الضروري العناية بالحرية في التعبير، ومشاركتهم ألعابهم نوعا ما، والتعرف إلى قدراتهم، ونشر الحب غير المشروط بينهم، ومتابعة الصحبة دون التدخل فيها، والتقليل من الأوامر والنواهي الصادرة من الأب والأم، وعدم مقارنتهم بأحد، فهي كلها أمور تعمل على الاستقرار النفسي لدى الأطفال (5).
آليات تأهيل الأسرة لتحقيق الطمأنينة
تُعد الأسرة المحضن الأول والأساسي لتوفير الأمن النفسي لدى جميع الأفراد عامة والأطفال خاصة، لكونها البيئة الأولى التي ينشأ فيها الاستقرار بين الزوجين وينطبع عليها أبناؤهم فيما بعد.
لذا، على الوالدين تعلم آليات لتحسين قدراتهم على التعامل مع الجوانب النفسية والعقلية لدى أبنائهم، بهدف إيجاد شخصيات متوازنة نفسيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا، وحمايتهم من الأفكار المضللة. ومن هذه الأمور:
- عقد دورات تأهيلية إجبارية للمقبلين على الزواج.
- إيجاد دليل تثقيفي للزوجين وللعاملين مع الأُسَر.
- إيجاد خط سريع ومجاني للاستشارات الأسرية.
- تفعيل دور مؤسسات وجمعيات رعاية الأسرة.
- تعلم ضبط الانفعالات: انفعال الغضب وانفعال الخوف (6).
العوامل المؤثرة في الطمأنينة والأمن
“مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ، عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا” (الترمذي)، قاعدة نورانية أوضح فيها النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- عوامل الأمن النفسي التي يجب أن تتوفر لدى كل إنسان. وهو ما يوجب البحث عن العوامل التي تُوفر للإنسان ولأسرته الطمأنينة دون إحداث ضرر على الآخرين ومنها:
- العامل البيئي بحيث يُعد اختيار البيئة والمكان المناسب للعيش فيه من أهم العوامل المؤثرة في توفير الطمأنينة.
- إشباع الغرائز بما يتوافق مع السنن الكونية والشرائع الربانية، لأنها تُعد من أهم العوامل لتحقيق الأمان لدى الشباب والحفاظ عليهم من الانحراف أو الانجرار لتدمير كيانات المجتمع بالعلاقات المحرمة.
- واختيار الصحبة الجيدة تُعد من العوامل المؤثرة – أيضا- حيث يشعر الإنسان بالأمن في وجود أقران يخافون عليه، ويتعاونون معه، ويقفون خلفه وقت أزماته.
- الجانب الديني الذي يتعامل مع القلب والروح ويحافظ على أمن المسلم النفسي لقربه من الله، واللجوء إليه وقت خوفه وجزعه، ويقينه من وجود الله الذي لا يتركه. فالدين له الأثر الواضح في الشعور بالأمن، إذ يُساعد الفرد على الاستقرار، وإن التعاليم الدينية والقيم الروحية والأخلاقية تهدي الفرد إلى السلوك السوي وتُجنّبه الوقوع في الخطأ والشعور بالذنب وعذاب الضمير، وكل ذلك يهدد أمنه (7).
أخيرا
يُعد الأمن النفسي من متطلبات الحياة الضرورية التي لا تستقيم بغيرها، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وهو ما يجب أن يتشارك فيه الجميع لتحقيقه وتوفير بيئة آمنة للناس جميعا، على المستوى الأسري أو الدول.
فزيادة الخوف والقلق وذبذبة عوامل الأمن تُؤثر سلبًا على حياة الناس وتقدمهم وإبداعهم ومن ثمّ على اقتصادهم وسياستهم، وقد يدفعم الخوف الدائم إلى الحروب وانتشار الخوف والفزع.
المصادر
- صالح الصنيع: دراسات في التأصيل الإسلامي لعلم النفس، ط1، دار عالم الرياض، الرياض،1995، صـ70.
- أحمد الشرباصي: موسوعة أخلاق القرآن الكريم، جـ1، دار الرائد العربي، بيروت، 1971، صـ15.
- الأمن النفسي (مفهومة، متطلباته والنظريات المفسرة له)، كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة كربلاء، العراق،
- الأمن النفسي في الإسلام: 19 يناير 2011،
- روحي عبدات: دور الآباء في تحقيق الأمن النفسي للطفل، 30 مايو 2010،
- عماد عبد الله الشريفين، أحلام محمود مطالقة: آليات تأهيل الأسرة لتحقيق الأمن النفسي والفكري لدى الأبناء، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، المجلد 30، العدد 60، أغسطس 2014م، صـ122.
- الأمن النفسي (مفهومة، متطلباته والنظريات المفسرة له)، مرجع سابق.